برامج بدائيّة (قصّة)
زهراء موسى – الدمام
هديّة والدِي بمناسبة عيد ميلادي السابع كانت مميّزة. وهي عبارة عن ألبوم بتجليد فاخر، وورق مقوّى صقيل بألوان برّاقة. فيه رسوم وكتابات بجانب كلّ منها ثقب، وموصول بالألبوم سلكان بقطبين كهربائيّين وبطاريّة. في الصفحة الأولى توجد صور أزهار مع أسمائها موزّعة بشكل عشوائيّ، إذا وضعتَ القطب الأوّل على الصورة والقطب الثاني على اسمها الصحيح ستصدر نغمة جميلة منتظمة، وإذا كان الاسم خطأ ستصدر نغمة ناشزة. بقيتُ مستمتعة باللعبة إلى أن اكتشفتُ بأنّ كلّ الصفحات تخضع لنفس الترتيب، سواء كانت الصفحة جدول ضرب أو أسماء زهور أو أحجار كريمة؛ دائما الثقب الأوّل على اليمين يتوافق مع الثقب الثالث قبل الأخير، وهكذا.. بمجرّد اكتشافي لذلك فقدتْ اللعبة في نظري سحرها، ولكي أثبت صحّة اكتشافي قمتُ بتمزيق جميع صفحات الألبوم وأبقيت على الثقوب المعدنيّة والأقطاب فقط. وبالفعل وجدتُ الثقوب المتوافقة والتي حفظتُ نسقها تعطي نغمة منتظمة. إذن فلم تكن لعبة ذكيّة، كانت بدائيّة للغاية، لكنّها تعتمد آليّة الإلهاء والتشتيت بالصور الجميلة والورق الملوّن اللمّاع.
تعلّمتُ من هذه اللعبة ممارسة تقشير الحياة؛ أنزع أوراقها الملوّنة البرّاقة وأجرّدها من سحرها الكاذب، لأصل إلى برامجها البدائيّة.
مثلا المتقدّم للوظيفة الذي يستعرض في سيرته الذاتيّة أتفه المهارات ويرفق معها شهادات لدورات وكورسات بلا قيمة لا أجد فرقا بينه وبين فاشينيستا تستعرض ملابسها ومساحيقها، فبعد تقشير العناوين نصل إلى برنامج واحد اسمه تسويق الذات.
أحيانا وبلا قصد منّي أقشّر عناوين لا يجب تقشيرها، وأفسد على نفسي كلّ شيء. مثلا (الملّا) الذي يستعمل كلّ طبقات صوته صاعدا نازلا في المقامات، ماخرا عباب التاريخ والأسطورة والحقيقة والكذب، متحكّما باقتدار في الجمهور المستسلم لبراعته؛ ماذا يفعل في الواقع سوى مساعدة الناس على التعبير عن غرائزهم البدائيّة، ثمّ يخرجون من عنده خفافا محلّقين!
بعد أن قشّرت الكثير من المواقف والأحداث والصور والكلمات والألقاب والعناوين توصّلتُ إلى أنّ ما يتحكّم في حياتنا بضعة برامج بدائيّة معدودة.
صحيح أنّ البرامج في جوهرها كلّها بدائية، لكن يبقى لكلّ قطاع زمنيّ برامجه المميّزة. ويبدو أنّ معضلتي أنّي ولِدتُ في زمن برامجه لا توافق برمجتي.
أحد أسوأ البرامج السائدة في زمني هي قلب الأمور رأسا على عقب، فالناس يميلون إلى تحويل النتائج إلى مقدّمات، والمسبَّبات إلى علل، مثلا زميلتاي في العمل تعتقدان أنّهما ستصلان إلى النجاح والثراء بمجرد الوثوق باستحقاقهما ذلك. ولا فائدة من محاولة إقناعهما بوجود شروط للنجاح اسمها المؤهّلات والموهبة، وأنّ عليهما أن تكونا في المكان المناسب. الناس في زمني لا يفهمون بأنّ الأوهام والخيالات لا تصنع واقعا. أنا تعلّمت ذلك من التجربة.
في صباي كنتُ مأخوذة بعنوان الشهادة، أتابع على فضائيّة المنار الوثائقيّات التي تحكي عن الشهداء وأسَرهم؛ كيف كان الشهيد يعيش ويفكّر ويشعر ويتعامل مع من حوله، كان حلمي أن أكون ابنة شهيد تعيش ذكرى والدها الفدائيّ، ترعاها روحه الحيّة وتمدّها بالتوفيق والطاقة والأمل. لم ألتفت بأنّي أعيش في مجتمع أبعد ما يكون عن معاني الجهاد والشهادة، مجتمع يؤثر السلامة، وأوّل أولويّاته الرخاء ورغد العيش حتى لو دفع الثمن من كرامته وحرّيّته، وأنّ مجتمعا لم يعرف بعد كيف يتهجّى أبجديّات الحراك المطلبيّ ولم يجرّب أن يتظاهر أو يعتصم لن يقفز فجأة وبلا مقدّمات إلى مرحلة الاستشهاد.
عندما أتذكّر كم كنتُ أسيرة أوهامي وخيالاتي أعذر زميلتي نهى قليلا، وأغفر لها استغراقها في أحلامها البلهاء. كلّ يوم بعد انتهاء العمل أتماسك وأُحكم رباط جأشي استعدادا لسماع سرديّاتها المخبولة عن نصف الزبائن الذين فقدوا اتّزانهم أمام جمال عينيها، وعن محاولات بعضهم الحصول على معلوماتها الشخصيّة ليتقدّموا لخطبتها. بالنسبة لي تبدو عيون نهى كعيون طفل رضيع، تشعّ بدهشة خام، ليست دهشة ذكاء أو اكتشاف، وإنّما دهشة كائن لا يفهم أيّ شيء. حتّى ابتسامتها الرقيقة وملامحها الجميلة لا تقول لي سوى شيئا واحدا: أنا لا أفهم شيئا. هل يعقل أنّ الرجال يرون في ملامحها شيئا مختلفا؟
لكنّي على أيّة حال ألتمس لها العذر على خيالاتها لأنّها أصغرنا سنّا وأكثرنا رومانسيّة وأقلّنا ذكاء.
لكن كيف أصبر على خيالات كلثم وأوهامها؟
لم أكتشف فداحة توهّمها إلّا حين سمعتها تحكي لنهى عن الزفاف الذي حضرتُه معها في ليلة سابقة. صعقتُ من التباين الحادّ بين ما ترويه وبين ما حدث فعلا. كانت ليلة عاديّة جدّا ومملّة، ليس صحيحا أنّ الناس استقبلونا بحفاوة وتسابقوا للسلام علينا وأنّنا كنّا نجوم الحفل! لم يحدث مطلقا أنّهم تنازعوا على إجلاسنا بجوارهم، ما حصل هو أنّنا وصلنا متأخرين، ولم نجد طاولة فارغة، ووجدنا مكانا على أريكة جانبيّة يبدو أنّه فرغ للتو، وحين أقبلنا من بعيد كانت هناك امرأتان جالستان فأفسحتْ كلّ واحدة منهما مكانا بجانبها ودعتنا للجلوس، وأصرّتا قليلا من باب المجاملة. لكنّي أبدا لا أجادل كلثم، أكتفي بالدهشة من طريقة عمل دماغها، وأصبر على التوابل الحارقة التي ترشّها على قلبي كلّما تكلّمتْ. فما جدوى مجادلتها إذا كانت واثقة كلّ الثقة من أوهامها، ثمّ هل يبقى الوهم وهما إذا كان صاحبه يعيشه كحقيقة مطلقة؟
نهى لم تحضر اليوم إلى العمل، طلبت إجازة.
قبل أسبوعين جاء شاب ليستبدل بلوزة كان قد اشتراها لخطيبته، ولأنّه أضاع الفاتورة اعتذرتُ عن خدمته. كان ضحوكا ويفيض حيويّة، ترجّاني بلطف وقال أنّ طائرته ستقلع ولا وقت لديه. نهى ذات القلب الرقيق أحضرتْ له بلوزة أخرى بالمقاس المطلوب، وبينما الشاب المتعجّل يتناولها بحماس اشتبكت علّاقة الملابس بسوار نهى فانقطع، تفاجأ الشاب عندما رآها تبكي، طبعا أنا وكلثم لم نكن لنتفاجأ، فالبكاء هو طريقة نهى لتقول أنا متأثّرة!
ما رأيتُه بعينيّ هو أنّ الشاب كان خجِلا وعرض أن يدفع قيمة إصلاح السوار، لكنّ نهى ابتسمت وسط دموعها وقالت لا داع. اعتذر منها الشاب مجدّدا وذهب سريعا حتّى لا يفوّت رحلته.
لكنّ نهى عندما روت القصّة لكلثم قالت بأنّ الشاب وعدها أن يعوّضها بسوار جديد! لا أدري هل تتعمّد الكذب أم أنّها تتخيّل أشياء لم تحصل. كلّ ما حدث جرى أمام عينيّ ولم أسمعه يقول بأنّه سيعوّضها عن السوار.
نهى في إجازة لأنّ ذلك الشاب أجّل سفره وانفصل عن خطيبته وسيزورهم هو ووالدته اليوم.
يبدو أنّ البشر في زمني متوافقون مع برامجهم وأنّني أنا الوحيدة التي تشكو من سوء البرمجة.
كلثم مشغولة عن الزبائن برسائل الواتساب المحمومة الفارغة التي لا تتوقّف، نظرتْ في عينيّ صامتة ثم أجهشتْ بالبكاء واحتضنتني: (مسجد حيّكم فجّره الإرهابيّون .. والدك استشهد)