الثقافة بين العلمية والاجتماعية
عبدالهادي الفضلي*
لم تكن كلمة (الثقافة) قديمًا تعني ما تعنيه كلمة الثقافة المعاصرة، فقد كان أبرز معاني الثقافة قديمًا بَرْي الرماح، ومنه أخذ أجدادنا العرب -بعد أن انتقلوا من مرحلة الأمية إلى مرحلة الكتابة- إطلاقهم كلمة الثقافة على بري الأقلام، للتشابه الكبير بين الرمح والقلم، إذ لا يختلفان إلاّ في الحجم والوظيفة، فالرمح كبير للقتال، والقلم صغير للكتابة.
وإذا عرفنا أن المعاني غير الحسية تؤخذ -غالبًا-من المعاني الحسية، علمنا أن معنى (التهذيب) أضيف إلى معنى التثقيف أو الثقافة من هذا الباب، أي من أخذ المعنى غير الحسي من المعنى الحسي، ذلك أن التهذيب يعني إزالة الشوائب الخلقية التي تنعكس على السلوك فتضرُّ به.
وهو بهذا يلتقي ومعنى التثقيف الذي يعني إزالة الشوائب من الرمح أو القلم، التي تنعكس على استخدامها فتضر بوظيفتها.
ولعل من أقدم من استعمل التثقيف بمعنى التهذيب هو الشريف الرضي بقوله:
لمْ يُثَقِّفْ عُودي الزّمانُ وَلكن
ضجَ عود الزمان من تثقيفي
ويوم دخلت المفاهيم الحضارية الغربية إلى بلادنا العربية، وأراد المترجم أن يترجم كلمة (Culture) الإنجليزية، لم يجد أمامه ما يقابلها في لغتنا العربية، من المفردات اللغوية في المعجم العربي، إلا كلمة (ثقافة) فترجمها إليها دون أن يحدد المعنى المستعمل فيه في المفهوم الحضاري الغربي، فحملت في المفهوم العام العربي الاجتماعي على جزء من مدلولها العلمي الغربي، وهو ما يعرف بـ (المعارف) عامة وخاصة، علمية وغير علمية.
ولو أن المترجم العربي ترجم كلمة culture إلى تهذيب لكان أقرب إلى معناها العربي الذي سأشير إليه.
فصار هذا هو أحد المعنيين لكلمة (ثقافة) في لغتنا العربية المعاصرة، وهو ما نستطيع أن نعبر عنه بالمعنى الاجتماعي.
وبعد أن ترجمت أبحاث ودراسات الحضارة أدركنا المفارقة التي وقع فيها المترجم لكلمة culture حيث لم يحدد معناها كما هي في المفهوم الحضاري الغربي، وذلك لأنها تعني في المصطلح العلمي الحضاري الغربي: مجموعة ما يتدخل في تحديد وتوجيه سلوك الإنسان فرديًّا واجتماعيًّا من معارف وأعراف وعادات وتقاليد وخلافها.
ولهذا رادف الكثيرون بين مفهوم الحضارة ومفهوم الثقافة، ومن ثم بين لفظ الحضارة ولفظ الثقافة.
ويبدو أن هذا الإدراك للمفارقة في الخلط بين مفهومي الثقافة العلمي والاجتماعي جاء بعد أن تركز وترسخ المعنى الاجتماعي للثقافة في الذهنية العربية العامة، وكذلك الذهنية العربية الخاصة غير المتخصصة في دراسة الحضارة أو علم الحضارة.
وبعد أن أوقعتنا هذه المفارقة في الخلط بين المفهومين في مفارقات أخرى كثيرة انعكست على سلوكنا وأثَّرت فيه.
ومن أهمها: أننا لم نعد نفرق بين ثقافتنا الإسلامية التي تتدخل تدخلًا مباشرًا في بناء الشخصية الإسلامية فرديًّا واجتماعيًّا وبين الثقافات الأخرى.
ومثال واحد يذكر هنا، هو برمجة مناهج ومواد التعليم في المدارس، من ابتدائية ومتوسطة وثانوية في بلداننا الإسلامية، وفق النظرة والخبرة الغربيتين.
فوقعنا جرّاء هذا في مفارقة عزل الدين عن الحياة الاجتماعية وقصره على السرد التاريخي لحوادث السيرة النبوية، وبعض الجوانب الأخلاقية الفردية، والعبادات مسلوبة العنصر الاجتماعي.
والسبب هو أننا لم ندرك -لعدم تفرقتنا بين مفهومي الثقافة- أن البرمجة الغربية هي جزء من الثقافة الغربية بمفهومها العلمي الذي يقوم بدور بناء الشخصية.
مع علمنا بأن هناك فرقًا بين الثقافة الغربية في هذا المجال والثقافة الإسلامية، وهي أن الثقافة الإسلامية ترى للدين الشمولية التي تستوعب كل شؤون الحياة بالتوجيه والتنظيم، ومن هنا يأتي دوره في بناء الشخصية الإسلامية.
بينما لا تذهب الثقافة الغربية هذا المذهب، وإنما تقصره على الجانب الفردي الذي ينظم علاقة الإنسان بالله من خلال ممارسة الطقوس العبادية فقط.
والآن، والمسلمون يتحركون نحو استرجاع شخصيتهم المسلوبة، واسترداد هويتهم المستلبة، ليعيشوا في ظل ما أراده الله تعالى لهم من الكرامة والعزة، عليهم أن يدركوا هذا الفرق بين مفهومي الثقافة العلمي والاجتماعي، وأن يتعاملوا مع الثقافات الأخرى على هذا الأساس.
يأخذون من الثقافات بمعنى المعارف الشيء المفيد، شريطة أنْ لا يتنافى والمبادئ الإسلامية العامة، التي تعرف في لغة الفقه الإسلامي بمقاصد الشريعة، ذلك أن الإسلام -كما هو ثابت بالضرورة -دعوة إلى العلم، والاي القرآنية الكثيرة دليل ذلك.
والكلمة المأثورة (الحكمة ضالة المؤمن) هي خير شعار يرفع هنا، ذلك أن الحكمة تعني -في هذا السياق- العلم النافع، وبتعبير يلتقي وما نحن فيه تعني الثقافة المفيدة.
ويأخذون من الثقافات الأخرى -بمفهومها العلمي- الوسائل والأساليب، التي تعني الخبرة لإيصال الفكرة، وشريطة أن لا تكون الوسيلة أو الأسلوب مما يخالف التعليم والإرشاد الإسلامي، فلا يطاع الله من حيث يعصى.
إن هذا المبدأ (لا يطاع الله من حيث يعصى) يحرِّم على الإنسان المسلم الوصول إلى طاعة الله عن طريق معصيته.
وبتعبير آخر: لا يتوصل إلى الحلال عن طريق الحرام.
إن هذا المبدأ هو التعليم الإسلامي العام الذي يجب على الإنسان المسلم أن يأخذ به ويستهدي بإرشاده وتوجيهه في اختيار الوسيلة أو الأسلوب.
فلنا أن نستفيد من خبرات الثقافات الأخرى في استخدام الوسائل والأساليب، ولكن في هدي المبدأ العام المذكور.
– جريدة (عالم الخليج) ـ لندن في الفترة بين عامي 1414 -1415 هـ/ 1993-1994م
*رجل دين وأكاديمي