العلامة النمر : الزي الديني وبعض الاداب والنسك لا تحكي الهوية الاسلامية
بشائِر _ الدمام
في خطبته ليوم الجمعة فرّق سماحة الشيخ عبد الله الطاهر النمر بين الهوية الجامعة وبين سائر الهويات الضيقة. وبيّن أن الهوية الجامعة لا تتحقق بمجرد الانتماء الجغرافي المكاني إلى مجتمع مسلم، بل يجب أن يكون تجمعا تتخلق في أعماقه أسباب الوحدة والتماسك والائتلاف العميق الذي يحقق الهوية الجامعة.
وشرح ذلك بالقول (إن مجرد ارتداء زي الدين، والتحلي ببعض الآداب، والتزام ببعض النسك، هذا لا يحكي عن هوية إسلامية، الهوية الإسلامية الحقة هي التي تحكي عن تفاعل وإيمان وصدق، هي التي تحفظ لنا قوتنا وحركتنا الدؤوبة في التكامل، والتي تعطينا القدرة على المساعدة في رفع شأن الآخرين).
واستعرض سماحته أشكالا متعددة من الهويات ذات أنحاء وأشكال مختلفة، مثل وحدة العرق، أو وحدة الأصل الأبوي، كما هو الحال في اليهود.
أو وحدة الهوية الوطنية، فالشعب الإيراني على سبيل المثال تجمّع وطني جغرافي يضم أعراقا مختلفة ولغات متعددة، من أتراك وبلوش وتركمان ولا يتجاوز العرق الفارسي نسبة ٤٠٪ من هذا التجمع.
كما بيّن أن الهوية يمكن أن تكون فكرية، كما هي الحال في الاشتراكية والشيوعية التي امتدت جغرافيا خارج نقطة نشوئها، ولكن الإيمان بهذه الفكرة والعقيده جمعهم على تعدد بلدانهم.
وهناك هويات طبقية، ففي الهند يقسمون المجتمع إلى طبقات بحسب مستواها الاقتصادي، وهذا المستوى يفرض هوية مشتركة، لها منحى معين في السلوك، وأجملَ القول بأن: (الهويات متعددة ويصعب علينا إحصاء مجاميعها وألوانها و أشكالها، ولكن هذه الهويات قد تتولد منها سلوكيات مشتركة، وبعض الإيجابيات والسلبيات) وطرح سماحته تساؤلا حول آثار وحدة الهوية، سواء كانت عرقية أو وطنية أو مذهبية، وعن إيجابياتها وسلبياتها.
وأجاب عنه بأن: (هذه الهويات الوطنية والفكرية والمذهبية والعرقية والمناطقية لا تكون بالضرورة جامعة، بل تكون في كثير من الأوقات سببا للنزاعات والتعصب. بل والحروب الطاحنة.
فالإيمان بتفوق العرق الآري ولد عند الألمان حالة من الحمية والعصبية جعلتهم يرون غير الآري أقل شأنا، وبسبب هذه النعرة نشبت حروب طويلة.
وهذا ما سجله ابن خلدون عندما درس حركة الأمم، وكيف أنها تسير وفق سنة حتمية، من القوة والغلبة إلى الضعف والانهيار. وتتفاوت العصبيات في قوتها وشدة تأثيرها، ولعلكم سمعتم بهذه المقولة: (اللهم زد المتعصبين تعقلا وزد المتعقلين تعصبا) فالعصبية كلما كانت أقوى في تعقلها كانت الأمة أشد بأسا وأكثر قدرة علي تحقيق أغراضها، ونحن نريد أن تكون عصبيتنا وقوتنا في إيماننا، لهذا نقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، ونقصد القوي في قلبه وعقله وإدراكه).
وكان حديث الشيخ عن الهويات مقدمة يمهد بها للوصول إلى الحديث عن صاحبة الذكرى الصديقة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام، التي مثلت نموذجا في غاية الإبداع والجلاء في تحقيق الهوية التي آمنت بها، وعملت في سبيلها، فقد كانت سلام الله عليها واعية ومدركة وملتفته إلي الهوية التي تجسدها، ولذلك تجاوز تأثيرها المستوى الشخصي فحركت الأمم.
واقتبس فقرة نورانية من خطبتها الفدكية، عدد سماحته طرفا من فضائلها عليها السلام، فهي (بِنْتِ رَسُولِ الله وَبِضْعَةِ لَحْمِهِ، وَصَميمِ قَلْبِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، … وَقَرينَةِ الْمُرْتَضى، وَسَيِّدَةِ النِّساءِ، وَمُبَشِّرَةِ الْاَوْلِياءِ، حَليفَةِ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ، وَتُفّاحَةِ الفِرْدَوْسِ وَالْخُلْدِ، الَّتي شَرَّفْتَ مَوْلِدَها بِنِساءِ الْجَنَّةِ، وَسَلَلْتَ مِنْها اَنْوارَ الْاَئِمَّةِ، وَاَرْخَيْتَ دُونَها حِجابَ النُّبُوَّةِ) وقال: (تذكر النصوص أنها عليها أفضل الصلاة والسلام ألقت خطابا مايزال حيا نابضا مؤثرا إلى يومنا هذا (أَنْتُمْ عِبادَ الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ) تقول لهم أنتم هويتكم الإسلام، فليست هويتكم وطنية، ولا قومية ولا لغوية. صحيح أن تلك المشتركات تساهم في بناء هذه الهوية، ولكن هويتنا الإسلامية بما تنطوي عليه من قيم ومفاهيم أعمق من كل هذا. وكلما تعصبنا في سبيلها كلما تقدمت أمتنا وارتقت.
وستشهد بمقطع آخر من نفس الخطبة (فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ)وضّح سماحته بأن الزكاة من جهة أخلاقية تزكي النفوس تقطع خضوع النفس لعنصر المال. ومن جهة ثانية نماء للرزق وتكافل ينمي المجتمع في كل المجالات. وأنه على المسلم المؤمن أن يرتفع بالعبادات فوق مستوى النسك، ويدرك أسرار الشريعة ومقاصدها، وفلسفة العبادات، فإذا نجحنا في ذلك فسوف نصبح أمة قوية متماسكة. هويتها واضحة جلية، ومميزة عن بقية الأمم).
وختم خطبته بالقول: (إن هذه الهوية عندما تكون حقيقية ومتجذرة في أعماقنا فإنها تحقق رابطا بيننا وبين الأجيال القادمة، وعندما نكتفي بتوريث بعض النسك وبعض الآداب فإنه من السهل أن تغزونا الأفكار وتخترقنا الثقافات الأخرى وتستلب منا هويتنا. أما إذا أسسنا هوية راسخة فإنه مهما تغيرت الظروف ومهما ورد إلينا من الخارج فإنها سوف تتأقلم وفق هويتنا الإسلامية التي لا تتعارض مع الثقافات الأخرى، ولا تعادي الآخرين، ولا تحارب الجديد، بل لها القابلية لتستوعب كل الأوطان واللغات والأعراق، ولكي ندرك أسرار هذه الهوية علينا اتباع الزهراء ومدرسة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، الذين قدموا لنا هذه الهوية صافية جلية بهية متلائمة مع الروح).