الحاج عيسى المؤمن- ومشواره في مجال الطب القديم
عبدالله محمد ابراهيم البحراني
اشتهر بمهارته في تشخيص وتجبير الكسور، وعلاج الرضوض، والتخفيف من آلام شد العضل. وكان المرضى والمصابون يفدون عليه من الحضر والبادية، ومن أهل المنطقة وخارجها. واستطاع بقدرته الذاتية، أن يطور من أساليبه العلاجية، وأن يبني له سمعة جيدة لمهارته في هذا المجال. وفي الغالب أنه لا يأخذ أجراً على عمله من جيرانه وأهل عشيرته.
الحاج عيسى بن يوسف بن محمد بن الشيخ عبدالله (الكبير) المؤمن، من مواليد 1337 هجري بالأحساء (تقريبا). تعلم قراءة القرآن الكريم لدى السيد علي بن السيد حسين العلي (رحمه الله) حتى أكمل جزء عمَّ . وكان والده يحترف مهنة الصياغة، ويقوم على خدمة الحجيج (حملادار). أما أمه المرحومة مريم بنت محمد بن علي المؤمن (والدها كان يلقب بالعنبر لسيرته العطرة)، وهي من القارئات في مأتم سيد الشهداء.
ولد وترعرع في حي السياسب، وهو الحي الذي كان يسكنه أغلب عوائل المؤمن قبل نزوحهم إلى حي الشعبة. اقترن (أبو فيصل) بالمرحومة آمنة بنت علي (الزين) المؤمن، والتي عرفت بالطيبة ودماثة الخلق. وكانت (رحمة الله عليها) مقصداً للناس في الحي في طبابة الأطفال بالزيوت والدهان، وخصوصا الأطفال (الممصوعين) كما يقال. وسارت على هذا النهج ابنتها أم رياح (حفظها الله) وكذلك ابنه الأستاذ طالب المؤمن في أداء هذه المهمة الإنسانية النبيلة.
وكانت بداية حياته العملية في مجال النجارة. وفي عام 1363 هجري التحق بشركة أرامكو (رقم بطاقة العمل 7798). وامتدت خدمته في الشركة لأكثر من ثلاثين عاماً، حتى استقال عام 1389هجري. وفي أثناء عمله في الشركة بدأ مشواره في مجال الطبابة وتقديم خدماته العلاجية لمن يحتاج إليها.
وعن بداياته في مجال الطب الشعبي، يقول إنه عندما كان طفلاً تعرض لحادث، حيث كُسرت إحدى يديه. وحمله الحاج موسى المؤمن (الحملادار المعروف) إلى منزل رجلٌ يدعى صعيب كفيف البصر، من سكان بلدة المطيرفي. عرف بقدرته على علاج الكسور. حيث وضع بعض القطع الخشبية على موضع الكسر، وقام بشدّه، ثم وضع عليها بعض الصمغ بطريقة بسيطة وبدائية. ويتذكر أنه في شبابه، حدث وأن سقطت فتاة من أسرة المؤمن من على ظهر أحد الجمال في حوش المؤمن وتعرضت لبعض الكسور. فبادر (أبو فيصل) بعلاجها وعمل لها الإسعافات اللازمة.
وكانت تلك أول تجربة له في العلاج وبمحضر من الأقارب والذين قاموا على تشجيعه ودعمه. ومن المصادفات أن تلك الفتاة والتي تعرضت لذلك الحادث هي (أم فيصل) قبل أن يقترن بها. وبعد هذه التجربة العلاجية، بدأ مشواره في الطب الشعبي. وبالخصوص في علاج الكسور. ساعده في ذلك عمله في شركة أرامكو، حيث شاهد في مرافق الشـركة كيف كانوا يتعاملون مع الكسور وأساليب علاجها. ويحكى أنه شوهد وهو يحمل لوازم العلاج والتجبير معه حيثما حل، حتى في أثناء السفر. وينقل عنه أنه جلس في صحن الإمام الرضا (عليه السلام) لتقديم خدماته للزوار في إحدى سفراته إلى مدينة مشهد المقدسة.
عُرف بالشهامة، والكرم، وحُب الخير، صاحب ابتسامة دائمة، مضياف واسع الصدر، عطوف على الجميع، وخصوصاً أقاربه. ففي الماضي كانت تقام مناسبات الزواج في البيوت. ولم يعهد المجتمع بعد إقامة مناسبات الأفراح في صالات الأفراح. فكانت مناسبات أسرة المؤمن (في الغالب) تقام في منزله، لسعته بمقاييس تلك الأيام. وأحد الشواهد على كرمه، ينقل البعض موقفا له مع أحد جيرانه، وكيف أن أبا فيصل (رحمه الله) قد تنازل لجاره عن جزء من بيته (تقريبا متر أو أكثر بطول البيت) لتوسعة بيت الجار.
وبعد استقالته من الشركة تفرغ لخدمة المجتمع في مجال الطبابة حتى أقعده المرض. ولقد عايشنا تلك الفترة، والتي كان يستخدم فيها الدّراجة الهوائية (السيكل) في تنقلاته اليومية، معتمداً على نفسه.
وأحد الشواهد على شهامته وتسامحه، أنه تعرض لحادث قرب محلة الحزم، عندما صدمه شابٌ بالسيارة، بالقرب من متوسطة سعد بن أبى وقاص. وأصيب إصابات بسيطة، وعندما نزل الشاب من سيارته ليطمئن عليه. قال له أبو فيصل : (اذهب إلى حال سبيلك، حتى لا تقع لك مشكلة مع المرور). وهذا ينم عن طيب معدنه وسمو نفسه.
وكان (رحمه الله) غزير الدمعة على مصاب سيد الشهداء. وفي شبابه كان من المساهمين النشطين في إقامة حلقات العزاء بحسينية السادة بحي الشعبة، مع أبناء عمومته من آل المؤمن. وكان من محبي الحج، حيث قام بأداء فريضة الحج مع والده لأول مرة، ومع عمه حسين الزين (عدة مرات) وذلك بواسطة الجمال. كذلك رافق أخاه حسين (لخمس مرات).
ومن ذكريات أبنائه: أنه كان يحثهم على ارتياد المساجد، والمحافظة على الأمور العبادية. كما يؤكد على الاهتمام بالدراسة والتعليم. ويوصي بالجودة عند شراء الأدوات الكهربائية. والحث على مساعدة الآخرين وتقديم المعروف للناس وإغاثة الملهوف.
يتذكر أحد أبنائه أنه عندما يهم أحدهم (أو من يحضر مجلسه) بالذهاب إلى المسجد، كان دائما يردد: (هنياً لمن وفق)، أي هنيئاً لمن وفق لتلبية ذلك النداء الرباني وتأدية الصلاة في المسجد. وهو ينسب هذه المقولة إلى المرحوم الشيخ عبدالله بن حسن السيمن (العنبر). كما تشير وقفية الحسينية الإحسائية بكربلاء لأسماء بعض المساهمين في تأسيس ذلك المشروع، وكان من ضمنهم اسمه (رحمه الله).
محبا للخير ساعياً فيه. وينقل أنه أوصى إحدى بناته بالتبرع بأول راتب لها من وظيفتها لأعمال البر. ويتذكر ابنه فيصل: (أن والده كان يضع خيمة بقرب عين نجم (في طريق العضيلية) لخدمة الحجيج، وتقديم الماء والزاد في أثناء ذهابهم لأداء فريضة الحج والزيارة). وهذه إحدى عناوين كرمه وعطائه.
مواقف وذكريات
وهذا موقف جميل، وقعت أحداثه قبل عشرات السنين. كان هناك أعمال بناء في بيت الحاج المرحوم علي بن أحمد البحراني (والد سماحة الشيخ عبدالكريم البحراني)، في بيتهم الواقع بمحلة الشعبة القديمة، قرب المسجد الجامع. وفي أحد الأيام سقط أحد الجدران، وذلك أثناء عملية البناء. وتصوب جراء ذلك بعض العاملين. ومنهم من أصيب بكسور مختلفة. وعندما عَلِمَ الحاج عيسى المؤمن بالأمر، هب مسرعاً على دراجته الهوائية (السيكل)، وبعد معاينة المصابين، عادإلى دكانه وأحضر لوازم العلاج (البيض، والخشب، والقماش، وغيرها). وباشر بتطبيب المصابين، وحوّل مجلس الحاج علي البحراني إلى (غرفة عمليات). وبعد أن أنهى عمله، واطمأن على حالة المصابين جميعا، وتم نقلهم لبيوتهم، عرض عليه مبلغ من المال لقاء ما قام به، فأبى أن يأخذ شيئاً منه. وهذا مؤشرٌ على أن دوافعه إنسانية، وأنه جبل على حُب الخير وبذله في جميع الظروف.
والتقيته قبل عام من وفاته، وكان يعاني من ضعف شديد في السمع. وعدم الوضوح في الكلام جراء حالته المرضية. ولكنني وجدته ذا ذاكرة متماسكة، وخصوصا عندما يسترجع المعلومات القديمة. فكان يتحدث عن عمله في شركة أرامكو، وأسماء زملائه ورقم بطاقة العمل. وشرح لنا بعض النقاط باللغة الإنجليزية وبوضوح تام. وسألته عن الصورة المعلقة فوق سريره، والتي جمعته مع العلامة السيد علي بن المقدس السيد ناصر السلمان (عندما كان شاباً) فحدثني عن الصورة، وأنها كانت في مدينة النجف الأشرف في إحدى زياراته للعتبات المقدسة.
نهاية المطاف
وبعد هذه الرحلة الحافلة بالعمل الجاد والمثمر، انتقل إلى رحمة الله عيسى المؤمن في فجر يوم الثلاثاء بتاريخ 8/3/1433 هـ. وأقيمت له فاتحة في الأحساء والدمام.