العــــــلمانية ..المفهوم والأسباب
محفوظ الزويّد*
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
إن طبيعة الانفتاح الثقافي والإعلامي الجديد حوَّل العالم إلى قرية عالمية، يعلم من فيها بجميع ما فيها. حيث أزاحت الثورة المعلوماتية الجديدة خطوط الحظر الفكري بكل أبعاده، وبذلك لم تعد بلداننا محصنة أمام الغزو الثقافي الجديد، الذي يحمل بين طياته أوبئة فتاكة، قادمة إلينا من بلاد الغرب، وكان من جملتها وباء العلمانية، الذي استشرى في كيان أمتنا الإسلامية، مستهدفا فكرها وعقيدتها وسلوكها، ومخططاً لسلب شخصيتها الرسالية المتمثلة بقيمها وفكرها وإيمانها وقناعاتها الدينية.
التعريف:
ولما كانت العلمانية في تعريفها وبيان معناها مكتنفة بالغموض، بفعل ما لُفَّــت به من لفافات تلميعية مخالفة لواقعها وحقيقتها؛ صار ذلك سبباً لتفاوت الآراء فيها، في ظلّ ما مرت به من تحولات وملابسات على طول تاريخ نشأتها.
فهذا محمد عابد الجابري يقول:
“.. يمكن القول إجمالاً، إنه ما من شعار من شعارات الفكر العربي – كان وما يزال- مدعاة للبس وسوء التفاهم، كشعار العلمانية”. ” وجهة نظر، ص 102 ”
وعلة الحكم:
1 / تعدّد المرجعية المأخوذ منها
2 / وضبابية الترجمة وتفاوت أهلها في كفاءة النقل
3 / غموض المجال الموظف فيه، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً علمياً دقيقاً…
الأمر الذي بعث على قولبة العلمانية بثلاث صيغ متفاوتة:
الأولى: فصل الدين عن الدولة أو السياسة، أي حجبه عن إدارة الدولة، مع السماح له بممارسة دوره الثقافي والتعليمي.
الثانية: فصل الدين عن ممارسة دوره في الحياة العامة، بما فيها الجانب التعليمي، وتضييق الخناق عليه في حدود المناسك العبادية، لأن التعليم الديني قد يؤدي -كما يرى العلمانيون- إلى تضارب الآراء وصراعها، كالصراع الذي حدث بين الكاثوليكية والبروتستانتية في وجهات آرائهما الفكرية.
الثالثة: ومن أخطر المراحل التي بلغت إليها العلمانية هو الطابع الإلحادي، الذي فصل الدين عن حياة الفرد والمجتمع على حد سواء، وصهر الكيان الفردي والاجتماعي في بوتقة الإلحاد.
وعلى هذا الصعيد تفاوتت الآراء واختلفت المواقف فيما يرتبط بمفهوم العلمانية بين القبول والرفض والشدة والضعف.
أسباب ظهور العلمانية المادية في أوروبا
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأةً طبيعية نتيجة ظروف ومعطيات تاريخية ودينية واجتماعية، وسياسية وعلمية واقتصادية.
وأهم هذه الظروف والمعطيات التي أبرزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب هي:
أولاً/ طغيان الكنيسة ورجالها:
إن طغيان الكنيسة وبعص المؤسسات الدينية وانحراف بعض المنتسبين إليها والمتحدثين باسمها، قد ألقى بظلاله القاتمة على سمعة الدين، وأفقده رصيده ونفوذه الواسع بين الناس.
فقد ارتد الناس في أوروبا عن الدين وأعرضوا عنه، ومالوا إلى الاتجاهات المادية التي تتقاطع معه، على أمل أن يجدوا فيها مخلصهم، بعد أن يئسوا من رجال الكنيسة الذين خيبوا ظنهم في الدين.
لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى تحت طغيان رجال الكنيسة وهَيمَنتِهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاءِ شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم. وقد شملت هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمانية، ففرضت بطغيانها هذا عقيدةَ التثليث قهرًا، التي عملت دسائس اليهود منذ القرن الأول الميلادي على إدخالها في المسيحية، وحرَّمت ولعنت مخالفيها.
ثانيا: الجمود الفكري الكنيسي:
يبدو أن الجمود الفكري كان سمة مميزة للكنيسة في تعاطيها مع ما توجه من أفكار ومعتقدات، فلا تسمح لأحد بمناقشة أفكارها ونقدها، حتى ولو كان المقصود منها هو التعرف عليها من أجل اعتناقها عن بينة ووضوح.
فالرب عندهم من حيث الجوهر والحقيقة واحد، ولكنه ذو أقانيم ثلاثة، أي أصول ثلاثة الأب والابن وروح القدس، وهناك من يعتقد بوحدانية الله تعالى، ولكن الامبراطور قسطنطين ( 280 ــ 337 ) حسم الموقف في مجمع نيقيا لصالح دعاة التثليث، ومن يخالف ذلك يتهم بالهرطقة والضلال، وهي دعوة إلى التقليد الأعمى.
وإن الجمود الفكري الذي حرَّك الكنيسة في مختلف مواقفها، ساقها إلى نهاية مُرة، وهي الانزواء والإقصاء عن مسرح الحياة، لأن النهج المعوَّج والمشوَّه لا يسوق إلا إلى نتيجة مِعوَّجة ومشوهة، ولا يكون الخطأ في يوم من الأيام صحيحا، كما أنه لا يصح إلا الصحيح.
ثالثاً/ محاكم التفتيش:
وعلى خلفية الجمود الفكري الذي ساد في العقلية المسيحية، أخذت الفواصل بالاتساع بين رجال الدين المسيحي والطبقة المثقفة، التي تصبو إلى معرفة الحقيقة، وتطمح إلى تحصيلها، عبر تساؤلات وشبهات وإثارات حول عدد غفير من المتبنيات الكنسية، حيث لم تلق من البابا وأعوانه سوى تهمة الكفر والزندقة، والتصفية الجسدية والموت المحتم، فليس لأحد حق الاعتراض على ما تطلقه الكنيسة وتؤمن به من أفكار ومعتقدات.
ولما لم تجد الكنيسة في نفسها القدرة على مواجهة الفكر بالفكر، والشبهة بالحل، لجأت إلى خيار العنف والبطش في مواجهة مناوئيها. وتحول التطور العلمي والنقد الفكري بالنسبة إليها إلى شبح مرعب يقضّ مضاجعها، ويشغل بالها، فأنشأت محاكم التفتيش لتقنين تصفيتها للمخالفين لها والقضاء عليهم.
ومحاكم التفتيش عبارة عن هيئات أنشأتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للقبض على المخالفين لتعاليم الكنيسة ومحاكمتهم بتهمة الهرطقة والمروق، وكانت محكمة التفتيش الأسبانية الأكثر شهرة من بين المحاكم التفتيشية الأخرى.
وبلغ الوضع المأساوي الذي أوجدته محاكم التفتيش درجة أن بعض المؤرخين اعتبر ما قامت به الكنيسة على هذا الصعيد جريمة لا تغتفر (ول دورانت ج 21 ص 86).
رابعا/ حركة الإصلاح الديني:
وكنتيجة للأداء السيء لرجال الكنيسة، وتراكم الأخطاء والمضاعفات الناجمة عنها، وتزايد السخط الشعبي ضد الكنيسة، ظهرت حركات الإصلاح الديني، مطالبة بالتغيير، وكان في طليعتها الحركة التي حمل لوائها “مارتن لوثر- 1483 ــ 1546” وعرفت بالحركة اللوثرية التي قام على ركائزها كيان المذهب (البروتستانتي) وهو أحد المذهب الرئيسية الثلاثة للديانة المسيحية (الكاثوليكي، الأرثوذكسي، البروتستانتي).
إن محور الدعوة الإصلاحية البروتستانتية يرتكز على الرجوع إلى الكتاب المقدس مجرداً عن كل الاجتهادات والآراء الصادرة عن رجال الكنيسة. فليس من حق الكنيسة تنصيب نفسها مرجعا أوحدياً لتفسير الكتاب المقدس، بل إن لكل شخص حق التفكير في فهمه، والإحاطة به، واستنباط أحكامه وتعليماته منه، فلم يعد تعليم الكتاب المقدس وتفسيره وبيان المراد منه وقفا على الكنيسة، بل هي مع أي فرد في ذلك شرع سواء.
وبهذه الدعوة فتح الباب على مصراعيه أمام العقل الفردي، لينطلق في تأمله بلا حدود ولا قيود، وعُــِّبد الطريق لتأسيس الهرمنوطقيا أو ما يسمى بعلم التأويل، مما يعنى شرعنة الفهم الشخصي للأفراد في تفسير الكتاب المقدس وتلوّن أفكارها، لأن فهم كل شخص يختلف مع الآخرين تبعا لاختلاف الأذواق والميول والثقافات والتقاليد والمحيط.
خامساً/ الصراع بين الكنيسة والعلم:
وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني، فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوروبا وكفَّروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم.
العالم الطبيعي المعروف “جيوردانو برونو”، نقمت منه الكنيسة آراءً، من أشدها قوله بتعدد العوالم، ونادى بنظرية “كوبرنيق”، فقبضت عليه محكمة التفتيش، وزجت به في السجن ست سنوات، فلما أصرَّ على رأيه حكمت عليه بالقتل، واقترحت بألا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يُحرقَ حيًّا، وكان ذلك سنة (1600).
سادساً/ الثورة الفرنسية:
ونتيجة لوضع الكنيسة ودينها المحرف، دبَّر اليهود مكايدهم لاستغلال الثورة النفسية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية، لا سيما الشعب الفرنسي، فأعدوا الخطط اللازمة لإقامة الثورة الفرنسية الرامية إلى تغيير الأوضاع السائدة، وفي مقدمتها عزل الدين النصراني المحرف -الذي حارب العلم- عن الحياة، وحصره في داخل الكنيسة. وفعلاً قامت الثورة الكبرى عام (1789م). ومما يدل على أن الثورة الفرنسية هي من صنع اليهود وتدبيرهم ما تتبجح به بروتوكولاتهم فتقول: “تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها (الكبرى)، إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيدًا؛ لأنها مِن صنع أيدينا”.
أسباب ظهور العلمانية في العالم الإسلامي:
أولا: الاستعمار للعالم الإسلامي
ثانيا: الغزو الفكري
ثالثا: المستشـرقون
رابعا: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية
خامسا: تقدم الغرب في العلم المادي
سادسا: البعثات إلى الخارج
___________________________
- الشيخ محفوظ الزويّد أستاذ الفلسفة والعقليات في الحوزة العلمية