رحيل القاص والكاتب جاسم الجاسم
علي عيسى الوباري
“الجراح قليلة الإلتئام سرعان ما تعاود النزيف وكأنها جراح الأمس”
– غابرييل غارسيا ماركيز.
“اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي، أن تختاره في الوقت المناسب قبل أن يُفرض عليك في الوقت غير المناسب”
– غسان كنفاني.
وأنا أعزي الحضور في أحدى الجنائز بحسينية بالطرف رفعت رأسي ورأيته، ذهبت له لأعزيه، سلمت عليه كان جالساً على كرسي متحرك، لا يستطيع المشي قلت له أنا فلان رحب وقال اسمح لي لا أستطيع الوقوف
جاسم علي الجاسم كان قاصاً كبيراً وحياته تخللتها مآسي كثيرة من وفاة زوج ابنته شاباً بحادث، انصابت بعده الزوجة الأرملة بمرض السرطان، توفيت بعد فترة مرض قصيرة رحمها الله وهي في نظره ما زالت طفلة عروس.
كتب معاناته مع ابنته الشابة، رحيلها ساهم في تدهور صحة حياة الأب الكاتب القاص مرهف الحس، يعيش مآسي الناس يصورها بتفاصيل مؤثرة، يتفاعل مع هموم وقضايا المجتمع فيجيد تصويرها بقلمه المميز.
كتب عن الشخصيات والعلاقات الاجتماعية، لكن لم يكتب عنه بحجم عطائه الأدبي، أسوأ ما على القاص وكاتب الرواية والمنتج أدبيا أن لا يستطيع أحد الولوج في أعماق أحاسيسه ويتجول بين دروب أيام عمره يتقصى جزئيات حياته فيترجمها كتابة وينقل مشاعره وأوجاعه وآلامه التي تتجاوز آماله، وتزاد أوجاع أسرته ومن حوله أن يُكتب عنه بكلمات أقل من كلمات أحدى قصصه.
القاص الكاتب الكبير جاسم الجاسم الذي رحل عن الدنيا ببصماته الأدبية والإبداعية، تاركاً حروفه تحكي حياته على صفحات مجموعاته القصصية، خلف كلمات تهطل دموع أحزانه المدفونة في صدره قبل أن يُوارى جسده التراب، قصص ونصوص الجاسم تحكي مسيرة حياته التي تعرضت لصدمات ومآسي حجزته في حيز مكاني محدود، غرفة يعبر عنها بإحدى مجموعته القصصية، القاص الجاسم لا يستطيع إلا أن يرى من نافذته نور الشمس وحركة الناس بالشوارع، يتأمل الرياح الموسمية تحمل رمالا يصففها ليكون حروفا وينقشها كلمات على أرض عرتها شدة رياح الصيف اللافحة.
جاسم الجاسم رحمه الله عاش رحلة المآسي بين السطور يرسم مشاعره بلوحات وكلمات تعبر عن مسيرته مع الآخر وحكايات الزمن التي جعلته يتكأ على العصا مبكرا، تراه ينظر بعينيه من تحت نظارته السميكة كلما دخل شخصا مكتب المهندس عبدالله الشايب الجامع للكتاب والمثقفين والناشطين بجلسته الأسبوعية، يجلس في زاوية يصغي لما يقال في النقاشات، يعرفه أحدهم له هذا كاتب جديد وهذا شاعر مبدع، يكرر عبارته اسمح لي بصري ضعف كثير.
جاسم الجاسم أبوفيصل استمر في السباحة في بحر السرد، تغويه كلمات الإبداع وتعجز الأمواج المتلاطمة أن تغرقه في بحر الخيال السابح فيه بإستمرار، يغرف من أعماق العيون أبلغ المعاني ويقطف أفضل أنواع الثمار من حدائق المعاجم ويعطر عباراته برائحة الريحان في قصص مرتبطة بالتراث الشعبي والقضايا الأجتماعية، عاش رحلة طويلة بين الكتابة بالصحف والرواية والقصة القصيرة.
صام عن الكلام في المجتمع مبكرا، ركن في زاويا المكتبة، يتأمل الكلمات بالكتب ويستمتع بصدى قصصه ونصوصه ينتظر الموت ليحمله على نعش خشبي يُلف بأوراق كتبه وإنتاجه الأدبي.
هل سيسمع الجاسم صوت الرمال بعد دفنه؟.