زبدة أيام خلت.. مع سماحة الشيخ هلال المؤمن أكرم الله مثواه
بقلم: الشيخ عبدالجليل البن سعد
زبدة أيام خلت مع سماحة الشيخ هلال المؤمن أكرم الله مثواه
ربّ عظيم لا تراه الأعينُ
نظرة فمعرفة فمحبة:
رجل ذو قامة بعيد ما بين المنكبين تعلوه هيبة تشع الابتسامة في وجهه بشكل مستمر، امتزجت في طباعه طيبة الأحسائيين ودعابة الخوزستانيين، وكان من أول من لفت انتباهي من الفضلاء بداية نزولي في قم المشرفة، وعندما سألت عنه علمتُ أنه هو فضيلة الحجة أستاذ الحوزة العلمية الشيخ هلال المؤمن “أعلا الله مقامه”..
من الأوائل السابقين إلى قم:
لم تتشكل الحوزة العربية بقم المقدسة إلا في بداية السبعينيات تقريبا بعد هجرة عدة من الأعلام من النجف إلى قم هجرةً قامت على سببين:
الأول: هي الظروف القاهرة التي كانت تقود مجموعات من الطلبة إلى الخروج من النجف الأشرف إلى تلك الديار الطيبة.
الثاني: هو تقدم المستوى العلمي في حوزة قم حيث ظهر مجتهدون وأساتذة أكفاء، فكانت الهجرة من قبل بعض مشايخ العراق وتبعهم بعض أعلام المنطقة فكان ممن حل في قم لمدة من الوقت ضمن تلك الفترة هو العلامة الحجة الكبير الشيخ حسين الشيخ فرج العمران وعدة من طلبة القطيف، وأما من الاحساء فلعل أول هلال يبزغ لهم في قم هو المغفور له الشيخ هلال المؤمن، فقد كانت هجرته حسب ما اتذكره من حديثه لي ما بين عامي 1396- 1397 هجرية قمرية.
روحه الأخلاقية:
لعل الكثير من العلماء لا سيما كبار فضلاء المنطقة يُعرفون بالابتعاد عن خلق التكلف والتزلف، إلا أن فضيلته كان على درجة عالية من التواضع والسماحة في الطباع تجعله مميزا بين المميزين، فهو يخالط عموم الناس الصغار والكبار بتلقائية وعفوية واضحة، ويجلس بين طلابه كأحدهم، وفي ذات مرة حضر من الدمام إلى الأحساء لأداء واجب العزاء في أحد الفواتح، واتفق خروجه من المجلس مع خروجي وكان قريب وقت الصلاة فبادرني وقال أريد أن تكون محطة استراحتي عندك ببيتك لنصلي ونأخذ قسطا من الراحة!
وقد تم لي هذا التوفيق وأثناء جلستنا صار يحفي السؤال عن بعض الشؤون والبرامج العلمية، و قد كشفت له عن بعض المحاولات، ولكن كما أنه فاجأني بمبادرته بالزيارة، فقد فاجأني مرة أخرى بعد يومين أو ثلاثة باتصال هاتفي وهو في الدمام عقّب فيه على ما رأى في الجلسة وما وقف عليه من محاولات، ولم يكتم شيئا من انطباعاته الجميلة !
هذا الموقف وما سبقه أولحقه من مواقف هذا الوالد الفاضل معي ومع الآخرين يجعل طلبة العلم أمام درس أخلاقي مهم، وهو أن لا نُخضِعَ محبتنا للناس للحسابات الاجتماعية التي ما أنزل الله بها من حجة، فكم من أستاذ في الحوزة، وكم من إمام مسجد وكم من مرشد ديني في حي أو محلة، كتم مشاعره وانطباعاته الجميلة عمن يستحقها، ولا نقول أن هذا ما يتم بسبب تكبر، أو تغطرس حاشاهم ذلك، ولكن قد يكون بسبب حسابات وأوهام اجتماعية تصور لحاملها ان الثناء والاعتراف هنا قد يستغل وقد لا ينفع وما إلى ذلك من المبررات، والتي شئنا أم أبينا فإنها قد جعلت للبعض سيرة غير سيرة الأماثل والأكابر من العلماء وأهل البيت عليهم السلام!!
العلاقة الروحية الكبيرة بالشهيد الصدر:
ومما توقفت عنده في حياة هذا الأستاذ الفاضل هو احترامه الشديد للسيد محمد باقر الصدر ” نور الله مرقده” فقد حكى لي لقائين من لقاءاته بالسيد الصدر، وقد اتضح لي من طريقة حكايته تأثر نفسيته بهما، أما اللقاء الأول ففي بداية انخراطه بالحوزة النجفية عندما وقف على السيد الشهيد وسأله السيد عن تعليمه، ولما أخبره الشيخ بأنه قد درس الابتدائية والمتوسطة بادره السيد الشهيد بتعقيب جميل وقال له إن ممارسة الدراسة الأكاديمية ولو إلى هذا الحد، إذا اندمجت مع دراستك الحوزوية اندماجا صحيحا فسوف تخلق منك نموذجا خاصا في طلبة العلم..
وأما اللقاء الثاني فقد كان عندما عزم على الرحيل إلى قم، يقول ذهبت إلى توديع السيد الصدر، وسألته أن يكلفني بأي خدمة يريدها حتى لو كان نقل رسالة خطية إلى أحد العلماء هناك، فكان جواب السيد الشهيد هو أن شكره وقال له نعم لدي رسالة وربما أكثر من رسالة أهتم لوصولها ولكني لا أجازف بك فحمل رسائلي قد يعرضك للخطر.
أجل لقد كانت له عقيدة كبيرة في شخص السيد الصدر وفكره ونتاجه، وما يميز ذلك أن هذه العلاقة كانت عن معرفة لا عن عاطفة إذ لم تقتصر إحاطته بمدرسة السيد الشهيد على الجوانب الأصولية والفقهية فقط، بل تعدتها إلى عموم تراثه، وقد برز ذلك في:
1ـ دراسته لكتاب اقتصادنا على يد الشيخ محمد علي التسخيري “حفظه الله”، فقد حدثني بذلك شخصيا، كما أن الأخير حضر مجلس الفاتحة لأحد أقارب الشيخ هلال بقم المقدسة ـ ولعله والده ـ، وألقى كلمة أشاد فيها بالشخصية العلمية للشيخ هلال المؤمن.
2 هيمنته على مطالب الأصول للسيد الشهيد، التي تبينت لي من خلال مقارنتي له بغيره ممن درست عندهم أو قضيت معهم مجالس علمية مركزة حول أفكار وأطروحات السيد الشهيد الصدر، ولا زلت أتذكر كيف كان يبين لي مسألة حساب الاحتمالات بطريقة جميلة وبديعة، وكان ذلك ضمن دروس الحلقة الثانية التي كنت أحضر قسما منها عنده بمفردي، في مكتب السيد كاظم الحائري ” دام ظله العالي”..
كما أنني دخلت معه في سجال المتعلم مع المعلم ـ أي بقدر ما سمح لي تواضعه ـ ومحور سجالنا هو نظرية حق الطاعة للسيد الشهيد، وكان محاميا محترفا وملما بأوراق قضيته التي يحامي عنها، وأتذكر آخر كلمة ختمنا بها المناقشة وهي قوله: هذه مسألة كلما حككناها بالوجدان اتضحت أكثر..
أي هي مسألة إذا أخذنها بالعقل بعدت وإذا أخذناها بالوجدان قربت.
ثم ومع الأيام زادت علاقتي العلمية به فرغبت إليه في أن نبدأ درسا في فرائد الأصول للشيخ الأنصاري لكن لا على الطريقة المتبعة في الحوزة فتلك قد أغناني الله فيها بدرس الشيخ هادي آل راضي والسيد حسين الشاهرودي، بل على طريقة خاصة نقتصر فيها على المهم الأهم من مطالب الشيخ الأعظم وفعلا تم التوفيق وقضينا نحوا من سنة كاملة في هذا النوع من الاشتغال، وقد اعتمدنا بشكل أساسي على كتاب الرسائل الجديدة للشيخ علي المشكيني”رحمه الله تعالى” لأنه هو أول من هذّبَ رسائل الشيخ بل لم تتكرر بعده هذه المحاولة.
لقد كان تلمّذي عليه في فترة قصيرة لا تنوف على السنتين، ولكنها تحمل الكثير من الذكريات والتي من شدة تأثيرها يقوم ذهني بعملية تحديث مستمر لها حتى بدون مناسبة!!
ذكريات علمية:
إن نبش هذا الجانب مع من ينتهج نهج نكران الذات لهو أمر صعب غاية الصعوبة، ولكن ربما تسنح الذكريات ببعض المواقف التي تبدو كطرائف ولطائف علمية لكنها ذات تعبير وافي عن المقام العلمي لمن تعبر عنه.
وإن شيخنا الراحل هو ممن تنطبق عليه هذه الحالة تماما.. وسأنقل طرفا مما لا زال باقيا في ذاكرتي حتى هذه اللحظة:
(1)
عندما حضرت آخر الدورة الأصولية الأولى للسيد كاظم الحائري ـ حضور استماع و تهيؤ لمرحلة البحث الخارج القادمة ـ كان الشيخ هلال من الطلاب الرسميين للسيد الحائري والجميل أن تلك الفترة لم تعدم الشواهد على احترام السيد الكبير للشيخ هلال المؤمن “رحمه الله”.
ففي ذات يوم طرح السيد رواية وصار يناقشها وفي الأثناء تداخل معه الشيخ هلال وقدم تخريجا للرواية فكان تعقيب السيد الحائري لافتا بالنسبة لي إذ قال له: ” لعل هذا هو رأيكم شيخنا …”، وهذه العبارة لها مداليلها في عرف الحوزة لا سيما إذا جاءت من قبل أستاذ مجتهد كالسيد الحائري.
(2)
ومن الطرائف أن بعض زملاء الشيخ هلال وهو الشيخ صالحي كابلي ـ كما يحضرني الآن ـ أيضا تداخل مع السيد الحائري في مسألة وأجابه بمثل ما أجاب الشيخ هلال، وبما أن السيد الحائري يعرف عنه التشدد غير المألوف في موضوع الاجتهاد والاجازة فقد اتفق هذا الشيخ والشيخ هلال وبعض الطلاب القدماء في بحث السيد الحائري على أن يعترضوا طريق السيد عند دخوله دورة المياه استعدادا للصلاة وبالفعل وقفوا ولما أقبل السيد ناحية دورة المياه استغرب وقوفهم.
ـ سألهم خيرا إن شاء الله؟
ـ قالوا: أنت لا تقر بالاجتهاد لأحد إلا ما شاء الله لكنك فعلت هذا من حيث لا تشعر فنحن نناقشك وأنت تقر لنا بأرآئنا..
ـ ضحك سماحة السيد وقال خوب انتم لا عليكم من مقياسي خذوا بالمقياس العامة بالحوزة فربما كنتم مجتهدين بتلك المقياس فكان موقفا طريفا بين الأستاذ والتلاميذ.
(3)
وفي ذات مرة كان بحث السيد الحائري في مسألة رجالية وهو التحقيق في أمر أحمد بن هلال العبرتائي وقد طال الكلام فيه بموجب اختلاف الرجاليين والعلماء فالتفت السيد في حركة ظريفة إلى الشيخ هلال وقال له يا شيخ هلال شوف لنا حل مع ولدك هذا؟؟؟
(4)
في سنة من السنوات وربما كانت سنة 1412 هجرية كنا نحتفل بعيد الفطر المبارك وقد حضر بعض الأجلة من أبناء الجالية أيضا، ويبدو أنه كان قد طالع مسألة الهلال قبل قدومه المجلس بغية أن يضفي على هذا المجلس حراكا علميا فافتتح النقاش بالتعليق على مبنى السيد الخوئي “قدس سره” هذا وقد أمسك بكتاب منهاج الصالحين ولخص ما طرحه السيد الخوئي ثم قدم وجهة نظره في كلام السيد الخوئي بأنه غير تام وتلفيقي بين الفلكي والشرعي..
وهنا يحضرني جيدا أن سماحة الشيخ هلال انبرى لهذا العرض وكان يتكلم بسرعة ويلقي الكثير من التدقيقات وقد سكت الجميع ومن بينهم الفاضل الذي أثار النقاش ثم نهض الشيخ هلال بعد أن أتم كلامه.
(5)
في عام: 1416 هجرية تشرفت بحج بيت الله الحرام، وكنت برفقة الشيخ الراحل بإحدى القوافل الكريمة، وجرى داخل الغرفة المخصصة لطلبة العلوم الدينية نقاش حول مسألة الطواف وجواز فعله خارج المطاف من عدمه، فأخرج الشيخ كتاب الحديث الذي كان يصطحبه معه من حقيبته، ولعله الكافي الشريف أو كتاب الوسائل، وربما كان قد جعلني أنا أقرأ الروايات فلما وصلت إلى إحداها لفتني استحضاره الرجالي فكلما ذكرت رجلا علق هو بالقول هذا ثقة أو هذا لم يوثق أو هذا ضعيف… ثم وقف على الرواية الصحيحة التي ظاهرها إجزاء الطواف خارج المطاف.
(6)
بعد متابعة استمرت طيلة حضوري عنده واستماعي لنقاشاته سألته إن طريقتك في تقريب الأفكار مبسطة جدا، و دائما ما تستخدم الأمثلة الطريفة واللطيفة التي تبين المطلب من جهة وتكسر غلاسة الدرس من جهة أخرى..
فقال هذه هي طريقة الشيخ حسين النائيني” طاب رمسه” حتى يقال أن أمثلته خفيفة وترسخ المطالب في أذهان الطلاب حتى غير المتميزين بالجد منهم!
المدارة بالصمت:
لقد تميزت مرحلة الشيخ هلال المؤمن بالكثير من المتغيرات والتحولات العالمية والمحلية، والإسلامية والشيعية، بل بعضها خاص في المجتمع الطلابي الحوزي مما كان يهيئ الأجواء لصدامات واحتدامات ربما نظر إليها البعض على أنها خلاقة، إلا أن مما يعرف عنه أنه ينأى بنفسه بعيدا ويعيش تلك الأجواء كمن لا يشاهد ولا يسمع إلا بمقدار ما يساعد في الإصلاح.
مواقف ملهمة:
أ ـ في السنة التي رافقته فيها في طريق الحج كان بمعيتنا أحد كبار التجار بالمنطقة، وقبل أن تتحرك القافلة من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة، حضر ولد شاب هو أبن ذلك التاجر، وشكى لسماحة الشيخ جفاء أبيه وأنه مقاطع وله ولا يكلمه، بسبب موقف سابق بدر من الابن ولا زال الأب مصرا على عدم اغتفاره له.. وسأل إن كان بإمكان الشيخ أن يتدخل في المصالحة بينهما قبل أن يذهبا إلى مكة، فما كان من الشيخ إلا أن استدعى تلك الشخصية الوجيهة في الغرفة الخاصة بالطلبة وحضّر الابن واستعان ببعض الوجهاء المتواجدين برفقتنا أيضا، وقد طالت الجلسة وعلت الأصوات بسبب تعنت الأب وتصلب موقفه، ولكن حكمة الشيخ وصبره وعدم يأسه جعل الأب يلين ويهدأ، فقبل باعتذار الأبن، وحينها سألنا الابن الذي كانت الدمعة قد لمعتْ في عينه أين القبلة ثم سجد طويلا شكرا لله عز وجل .
ب ـ كان لسماحته محاضرة ضمن أنشطة شهر رمضان المبارك وذلك قبل ما يقرب من ثمان وعشرين سنة تكلم فيها عن دعاء الافتتاح، ومن المسائل التي وقف محللا لها هي سر بل أسرار تكرار التصلية على النبي والأئمة بهذه الطريقة المعروضة في الدعاء وسر تكرارها على مدى ثلاثين ليلة، وكانت المادة التي قدمها جذابة ومؤثرة بالنسبة لي، وبقيت تتنامى في داخلي حتى تبلورت فكرة شرح الدعاء شرحا مفصلا الذي تمت طباعته وأرجو من الله أن يكون موفقا ومقبولا والفضل لمن أثار اهتمامي وشحذ استعداداتي.