أقلام

إحياء عاشوراء: طقوس دينية أم عادات اجتماعية؟

علي محمد عساكر

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.

منذ أن استشهد سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السلام في اليوم العاشر من شهر المحرم سنة (61هـ) على أرض كربلاء القداسة والجلال وإلى يوم الناس هذا، والضمير الإنساني يتفاعل إيجابيا مع استشهاده، ويتعاطف مع مأساته، حتى أضحت الدنيا كلها كربلاء، والأيام كلها عاشوراء، فيستحيل أن يمرّ يوم دون أن يكون هناك ذكر للإمام أبي عبد الله الحسين، حتى أصبح هو عليه السلام مالئ الدنيا، وشاغل الناس.

ويزداد هذا التفاعل الإيجابي مع هذه الثورة المقدسة، والمأساة الدامية في المناسبات الخاصة بها، كما هو الحال في (ذكرى الأربعين، وأيام عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام) إذ في مثل هاتين المناسبتين يصل الاحتفاء بالإمام أبي عبد الله إلى أقصى مداه، فتكاد الدنيا كلها تندب حسينا، وتلهج باسمه، وتتغنى ببطولاته وأمجاده، بعد أن اتخذته رمزا للعزة، والكرامة، والحرية، الإباء، والتضحية في سبيل الحق، والوقوف في وجه الظلم والطغيان.

كما يأخذ هذا الاحتفاء لكبير أشكالا متنوعة، وصورا متعددة، كالرثاء، ومجالس العزاء، واللطم، والبكاء، وقرع الطبول، والضرب بالسلاسل…وإلى ما هنالك من مظاهر الاحتفال والاحتفاء بالإمام الحسين وثورته، والتفجع لمصابه ومحنته، بغض النظر عما يمكن الاختلاف فيه، وهل هو أصيل أم دخيل، وجائز أو غير جائز شرعا.

وكما أن ثورة الإمام أبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليه شغلت بال الباحثين والمفكرين والكتاب والأدباء والشعراء، حتى كتب فيها (نثرا وشعرا) ما لم يكتب في غيرها، كذلك كان لطقوس إحيائها، ومظاهر الاحتفاء والاحتفال بها نصيب كبير جدا من الاهتمام، فكتب حول ذلك ما كتب من دراسات وأطروحات دينية وتاريخية وتحليلية وغيرها.

بعض الأطروحات تناولت طقوس الثورة الحسينية من خلال (علمي النفس والاجتماع) وحاولت التعرف على منشأ هذا الاحتفاء، والكشف عن سره، وبيان عوامله وأسبابه، من الناحيتين: الاجتماعية والنفسية.

ومما يلفت النظر في بعض هذه الأطروحات تأكيدها على أن الاحتفاء بعاشوراء الإمام الحسين عليه السلام ما هو إلا “طقوس وعادات وتقاليد أقوى من العقيدة” وقد “ترسخت هذه الطقوس لتصبح بمثابة العقيدة التي يتداخل فيها الديني بالسياسي بالاجتماعي”.

وهنا يجب أن نلاحظ نزع الصبغة الدينية عن الاحتفاء بالإمام الحسين، ومحاولة نفي أن يكون لذلك أي منشأ إسلامي، واعتبار ذلك مجرد عادات وتقاليد اجتماعية، تلقفها الشيعة عن طريق التوارث، وأخذوا يحيونها كطقوس خاصة بهم، إلى أن ترسخت وتحولت إلى ما هو أقوى من العقيدة.
أما لماذا هذه الأطروحات تعتبر إحياء عشوراء مجرد طقوس متوارثة؟ فذلك لأن الناس -كما يرى عالم الاجتماع الكندي (ايرفينغ غفمان)-: “كائنات طقوسية بكل امتياز، ولا يمكنهم العيش إلا بواسطة طقوس تنظم مبادئهم الرمزية المختلفة، فالمجتمع مسرح يومي تؤدى فيه الأدوار منتظمة وفق طقوس تفاعلية لا تستوي الحياة الجماعية بدونها”
كما أن هذه الطقوس “تقوي جميع هذه الاحتفالات التي تصاحبها المشاعر الجماعية، وتتعهّد الوعي الجمعي بالتقوية، كما تدعم انتماء الأفراد إلى النظام الديني والاجتماعي والسياسي القائم.

ولا تمثّل الطقوس في كلّ هذه الأمثلة هدفا في ذاتها، بل تدرك قيمتها- كل قيمتها- من وظيفة الشحن والتجييش التي تلازم الأنشطة الجماعية، وخاصّة الاحتفالية والدينية منها”.

ولا يفوت أصحاب تلك الأطروحات أن يلفتوا النظر إلى أن عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دوركايم) أكد في كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدينية) هذه الحقيقة، وبين هذا الأُثر للطقوس التي يتم تأديتها بشكل جماعي، حيث أوضح أنه: “تشكّل لدى الأفراد من خلال حضورهم الجماعي ضرب من الشعور الجمعي الجيّاش، لا يدركونه وهم في حالتهم الفردية”.

وعليه ففي نظر أصحاب تلك الأطروحات: لابد وأن تكون طقوس عاشوراء كلها من الخرافات والأساطير، وذلك لأن الطقوس “ترتبط -غالبا- بالعادات والتقاليد والقصص والأساطير، وتختلط بالشعائر الدينية، حيث ترتفع إلى مستوى العقيدة، كما أن من أهمِّ خصائصها أنها تميل إلى التكرار والاستمرارية، من أجل تكريس ديمومة الطقس، وإعادته في كل مناسبة كما كان في الماضي”.

كما أن للطقوس جذورها النفسية التي تطرق إليها عالم النفس الاجتماعي (إرك فروم) فأوضح أن الطقوس ” في النهاية تعبير رمزي عن الأفكار والمشاعر التي تظهر في طريق السلوك، ومهما تكن الأسباب دينية أو اجتماعية فهناك أسباب أخرى لا واعية تتداخل معها”.

وأيضا لا يفوت أصحاب تلك الأطروحات التي تناولت إحياء عاشوراء من منظار نفسي واجتماعي أن يلفتوا النظر إلى ما يؤكده بعض الباحثين من “أن الطقوس تمثل قناة مهمة يلجأ إليها الأفراد في ظروف الاستغلال والكبت الاجتماعي، كما هو الحال في أوساط جماعات الأقلية، أو المنبوذة، أو المهمشة، كحال الشيعة.

ويتم ذلك- كما يرى هؤلاء الباحثون- بفضل دور هذه الطقوس في ترقية الوضع النفسي للأفراد إلى مستوى واقع مركزهم الاجتماعي المتدني في بعض الدول العربية من منظورهم الفكري والاجتماعي، وتؤسس تلك الطقوس -من خلال التكرار المنتظم- لمجتمع يتميز بالخصوصية المطلقة، والتي لا يمكن معه التناغم أو التآلف مع أي محيط لا يشركه الرأي في تلك الطقوس، وهذا التكرار لتلك الطقوس يؤسس ويرسخ المعتقد في الذهن والجسد، وذلك بحسب ما يسميه علماء الاجتماع: (التطبع) خصوصا وأن تلك الطقوس ممتلئة بالشحنات الروحية والوجدانية، ومن خلال ذلك التكرار المنتظم تتم عمليات التنشئة، وعمليات الاكتساب، والتلقين الثقافي والعقائدي، الأمر الذي يسهم في ترسيخ القناعات والميول في الذات أو المجتمع”
وخلاصة هذه الأطروحات أنه لا يوجد أي منشأ ديني لإحياء عاشوراء، والاحتفاء بالإمام الحسين وثورته المظفرة، التي ثلت عروش الظالمين، أو التفجع والألم لما جرى عليه من المصائب في كربلاء، وأن ما يقوم به الشيعة ما هو إلا مجرد طقوس وعادات وتقاليد متوارثة، حرص عليها الشيعة لما تحققه لهم ن مكاسب اجتماعية وفوائد نفسية على حد سواء.

والحق أنه من جميل جدا أن نتوسع في دراسة بعض الظواهر (ومنها طقوس عاشوراء) لنتناولها من خلال علوم أخرى، بدل أن نحصر أنفسنا في دراستها من خلال الدين فقط، ويكون تركيزنا منصبا على أنها جائزة أو غير جائزة من الناحية الدينية.
وحقا إن تناول الطقوس انطلاقا من علمي النفس والاجتماعي يساعدنا كثيرا على اكتشاف بعض الأمور التي قد تكون غائبة عنا نتيجة إغفال الجوانب الاجتماعية والنفسية في الموضوع، وفقط التركيز على الجانب الشرعي، وهل هي حلال أم حرام، أو جائزة أو غير جائزة.

ولكن في الوقت ذاته نحن بحاجة إلى القدرة والتمكن من تناول الموضوع من خلال تلك العلوم، ومن كان قادرا ومتمكنا فجدير به أن يكون منصفا وموضوعيا في بحثه، لأن المفترض أن غاية الباحث هي الحقيقة، وليس التعمية عليها لحاجة في النفس، الأولى بالباحث الترفع عنها.

والمؤسف حقا أن بعض أصحاب تلك الأطروحات إما هم فعلا غير جديرين بالبحث في مثل هذه المواضيع، لافتقادهم للمؤهلات التي تمكنهم منها، أو غلبتهم العصبية، واستسلموا للهوى، فضيعوا الحقيقة باسم البحث عنها!!

ومما يمكن تسجيله من ملحوظات على هذه الأطروحات أنها اعتبرت إحياء عاشوراء من العادات والتقاليد المتوارثة، وركزت على جميع أو جل المؤثرات الاجتماعية والنفسية في الموضوع، وأغفلت الجانب الديني عن قضية مرتبطة به كل الارتباط، وإن شابها ما شابها في بعض الجوانب والجزئيات، أو اختلف في بعض تفاصيلها من اختلف ما بين مؤيد ومعارض، أو بين من يرى أن تلك الممارسة المعينة موافقة للدين أو مخالفة له.

وهذا (في وجهة نظري) خلل كبير له آثاره السلبية على قيمة تلك الأطروحات، والنتائج التي يمكن أن نصل إليها من خلالها، والتي قد لا تكون دقيقة كوننا غيّبنا جانبا مهما جدا ما كان له أن يغيّب أبدا عن دراستنا، ذلك هو الجانب الديني وموقفه من تلك الطقوس، إذ لا يمكننا أن نفصل القضية (أعني أية قضية) عن موضوعها الأصل الذي تنتمي إليه وتتفرع عنه، ونقوم بتناولها عرضا ودراسة وتحليلا من خلال علوم بعيدة عنها، أو على الأقل ليست هي بذات صلة كبيرة بها، كما هو الحال في موضوعها الأصل الذي لا يمكننا التفكيك بينها وبينه بأي حال من الأحوال.

فكما أن القضايا الاجتماعية (مثلا) لا يمكننا أن ندرسها فقط من خلال علم النفس، ونغفل علم الاجتماع (الذي هو الأصل في الموضوع) وكما أنه لا يمكننا إهمال العقل في القضايا العقلية، لنقوم بدراسة الموضوع من خلال العلوم المادية والتجريبية بعيدا عن العقل ومعطياته وأحكامه، كذلك القضايا الدينية لا يمكن أن ندرسها فقط من خلال علم الاجتماع أو غيره، ونغفل الدين وموقفه من تلك القضية، وأثر ذلك الموقف على المتدينين ومدى تفاعلهم مع القضية.

فطقوس عاشوراء -وإن كانت تحقق لمن يمارسها ما يمكن أن تحققه مما جاء في تلك الأطروحات- ولكن الحق أن الممارسين لها لم يقوموا بممارستها فقط لأنها تحقق لهم تلك الأمور المشار إليها في تلك المواضيع، بل كان منطلقهم في ذلك هو الدين أولا وقبل كل شيء، بغض النظر عمّا إن كانت جميع تلك الطقوس متوافقة مع الدين، أو فيها ما يخالفه.
وكل من لديه أدنى اطلاع على ذلك التأكيد الديني الكبير على الارتباط بالإمام الحسين، والتفاعل مع ثورته ومصابه، يعلم يقينا أنني لا أغالي ولا أبالغ في قولي: إن الدافع الديني هو الأصل في تلك الممارسة، وكل ما عداه تبع له، ومتفرع عنه، بل ربما الدافع الديني هو الوحيد لدى البعض في تلك الممارسات، أما ما تحققه تلك الممارسات من منافع اجتماعية ونفسية فليس فقط غير ملتفتين إليه، ولم يفكروا فيه، بل ربما يجهلونه تماما، ولا يعرفون عنه أي شيء، فهم يبكون حسينا ويندبونه، ويحيون تلك الشعائر والطقوس ويمارسونها لأنها (في نظرهم) فقط من الدين الذي هم يدينون به، ويلتزمون بتعاليمه، بعيدا عن أي عوامل أو أسباب أخرى مهما كان نوعها.

وهنا يجب أن أوضح أنني لست بصدد نسبة جميع تلك الممارسات أو الطقوس إلى الدين، فليس هذا هو الموضوع، وإنما كل ما أهدف إليه هو وجود المنشأ الديني لهذه الطقوس، وأنه هو الأصل في تلك الممارسات، بغض النطر عن أن بعض تلك الطقوس هي فعلا موافقة للدين أو غير موافقة، مع ملاحظة أن دخول بعض العادات على تلك الممارسات لا ينفي الأصل الديني في الموضوع.

ولذلك فحتى علم الاجتماع نفسه إذا كانت القضية (أعني أية قضية) عقلية، أو لها جذور دينية، فإنه لا يغفل العقل، ولا يقتلع تلك الجذور ليحوّل القضية إلى مجرد عادات وتقاليد اجتماعية متوارثة فقط، وكذلك الحال في علم النفس، فإن دوره ليس بأكثر من بيان الأثر النفسي لهذه الممارسة أو ذلك الطقس، ولكن ليس من اختصاصه بيان منشأ ذلك الطقس، ولا يمكن أن يعتبر ذلك الأثر النفسي المعين هو السبب لتلك الممارسة، وإلا لخلط بين الدوافع والمنافع، وكانت نتائجه أبعد ما يكون عن الصحة والواقعية.

ولهذا ما كان يجب أن يغيّب العامل الديني وأثره في هذه الممارسات حتى وإن كانت الدراسة نفسية أو اجتماعية، لأن هذا التغييب يعني أننا أغفلنا العامل الأساس، ورحنا نعلل هذه الظاهرة أو تلك بعوامل أخرى أجنبية عنها.

نعم، يمكننا تناول بعض القضايا الدينية من زاوية اجتماعية من خلال الإشارة إلى ما طرأ على تلك القضية من تغيرات، ودخل عليها من عادات وتقاليد لم تكن في الأصل منها، أو من خلال بيان ما يمكن تحقيقه من مكاسب اجتماعية مترتبة على تلك الممارسة، ولكن دون أن ننفي الأصل الديني في الموضوع، كما يمكننا أن نربط الجانب الديني بالجانب النفسي، كأن نشير إلى أن الممارسين لهذه الطقوس يشعرون براحة نفسية كبيرة، كونهم يرون أنهم بهذه الممارسة قد التزموا بالدين، واستجابوا لتعاليمه، تماما كما هو الحال فيمن يرتاح نفسيا لأنه أقام الصلاة، أو صام شهر رمضان، أو حج البيت الحرام…أو مارس أي عمل ديني آخر.

فأن نربط بين القضايا الدينية وبين العوامل الاجتماعية، أو بينها وبين الآثار النفسية فهذا هو الصحيح، أما أن نغفل الدين تماما رغم أنه العامل الأساس، ثم نعلل القضية بعوامل اجتماعية تتوارثها الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة، ثم نعكس ذلك على الجانب النفسي لأولئك الممارسين، فليس هذا من الصحة ولا الانصاف في شيء.

وأيضا كنت أتمنى التعمق والتأمل أكثر في دراسة بعض النتائج، كما هو الحال مثلا في جزئية الحفاظ على الهوية، فمع أنني لست ضد الحفاظ على الهوية، بل أزعم أن كل طائفة هي تحافظ على هويتها وكيانها وجماعتها…وليس هذا خاصا بالشيعية كما قد نتوهم، إلا أنه خصوصا في الطقوس الحسينية من المهم أن نتأمل في مدى دقة وصحة مثل هذا الاستنتاج، واعتباره الدافع من وراء ذلك الإحياء، وذلك لأن هذا الإحياء ليس محصورا في الشيعة، بل هو عام، ويشمل الكثيرين من مختلف الملل والنحل، مما يعني أن هناك ما هو أكبر من مسألة الحفاظ على الهوية بكثير.

وعليه فإنه حين تحاول تلك الأطروحات التأكيد على أن من ضمن عوامل الاحتفاء بعاشوراء الحسين، وممارسة الطقوس العاشورائية هو عامل الحفاظ على الهوية والانتماء إلى الجماعة، فواجب أصحاب هذه الأطروحات -هنا- أن يبينوا لنا كيفية التوفيق بين استنتاجهم هذا وبين تعدد هويات وانتماءات، بل وملل ونحل الممارسين لطقوس عاشوراء، إذ -كما أشرنا- فإن الممارسين لها أو بعضها (كزيارة الإمام الحسين عليه السلام، والمشي إلى مشهده خصوصا في الأربعين، واللطم على الصدور، والبكاء لمصابه…) ليس مما اختص به الشيعة، لنعلله فقط بالحفاظ على الهوية المذهبية، بل ولا هو مما اختص به المسلمون، لنعتبره من باب الحفاظ على الهوية الإسلامية، بقدر ما هي طقوس يمارسها ويتفاعل معها الناس من مختلف النحل والملل والديانات.

وقضية يهتم بها ويتفاعل معها البشر من كل الملل والنحل، أعتقد من القصور أو التقصير في البحث والدراسة التحليلية أن نعللها فقط ببعض العوامل الاجتماعية والنفسية، وخصوصا عوامل الحفاظ على الجماعة والهوية.

فإذا كانت القضية هي الحفاظ على الجماعة أو الهوية، فما بال الذين لا تهمهم تلك الجماعة ولا تلك الهوية في شيء، يتفاعلون مع تلك الطقوس التفاعل كله؟!

أظن أنه يمكننا هنا أن ندخل عوامل أخرى أكبر وأهم بكثير من عوامل الحفاظ على الهوية والجماعة، كما هو الحال -مثلا- في العوامل العاطفية، وكذا القيم الإنسانية العليا التي تتجاوز العرق والدين واللغة…ليمكننا القول: إن من أسباب ممارسة تلك الطقوس: التعاطف مع المظلومين، والتعبير من خلالها عن النقمة على الظالمين، والمحاربة للمفسدين، ومحاولة استلهام القيم العليا المتجسدة في شخصية أبي عبد الله الحسين، والاستفادة من ثورته التي لم يفجرها إلا من أجل الإصلاح في الأمة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعلّم الفداء والتضحية في سبيل تلك القيم الفاضلة بكل غال ونفيس…

فهذه القيم العليا المتجسدة في تلك الثورة المظفرة وأبطالها الفدائيين، من شأنها أن تشد الناس بمختلف دياناتهم ومللهم ونحلهم وتوجهاتهم إلى الإمام الحسين، وتجعلهم يحتفون ويحتفلون به عن طريق ممارسة تلك الطقوس.

وهذا عامل يتجاوز الدين والجماعة والهوية وكل شيء، وما كان له أن يغيب عن تلك الأطروحات بأي حال من الأحوال، خصوصا وأنها تحاول تسليط الضوء على تلك الطقوس من الناحيتين: الاجتماعية والنفسية.

وكل ما أود التأكيد عليه وبقوة، هو أنه إذا أردنا ممارسة الدراسات النقدية والتحليلية لمختلف الظواهر (سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو دينية… أو أي ظاهرة أخرى) ونريد أن نبحث عن أسباب ظهورها، وعوامل تطورها…وذلك وفق ما تتطلبه الدراسات الأكاديمية، والمناهج العلمية الصحيحة، فيجب علينا حينها أن نراعي جميع الجوانب المتعلقة بتلك الظاهرة بدون استثناء، كما من المهم أيضا أن يكون الباحث دقيقا جدا في دراسته للظاهرة وإرجاعها إلى أسبابها الحقيقية، وأن لا يخلط في ذلك بين الدوافع والمنافع، أو بين العوامل والنتائج، فتضيع حينها الثمرة الحقيقية، والغاية المتوخاة من وراء تلك الدراسة.

وبما أن تلك الأطروحات تبحث عن علل وعوامل وأسباب ظهور الطقوس الحسينية، ومن ثم كيفية تطورها، والاصرار على ممارستها، فمن المهم هنا أن نفرق -أولا- بين عوامل الظهور، وأسباب التطور، وأن نعيد الظهور إلى عوامله، والتطور إلى أسبابه.

وأما ثانيا: فمن المهم أن نفرق بين دوافع تلك الطقوس وبين منافعها، أو بين أسبابها وبين الآثار المترتبة على ممارستها، سواء كانت آثارا ونتائج حسنة أو سيئة، فلا نخلط بين الأمرين فنجعل المنافع دوافع، أو الآثار والنتائج عوامل وأسباب.
إن إرجاع الظواهر إلى سببها الصحيح، وعاملها الأصيل، هو الذي يوصلنا إلى النتائج الصحيحة، كما أنه يصحح لدينا المفاهيم، ويمكننا من التفريق بين الدوافع والمنافع.

ومن الأمثلة الحية التي تساعدنا على فهم ما أعنيه في هذه الجزئية، هو أن من بين عوامل التدين والإيمان (بالإله) أن الإنسان مفطور على ذلك، كما أن هناك رابطة عقلية بين وجود الكون ووجود المكون، وذلك استنادا إلى قانون العلية، الذي ينص على أن لكل معلول علة، وبما أن الكون معلول لثبوت حدوثه، فلابد له من علة هي ذلك الإله الخالق المبدع.

وعليه فمن يريد أن يبحث عن أسباب وعوامل ظهور الدين ونشأته في حياة الإنسان، فلا يصح له أن يغفل جانب الفطرة الإنسانية، ولا أن يتجاهل وجود هذه الرابطة العقلية بين وجود الكون ووجود المكون، لأنه متى تجاهل ذلك سيضطر حينها إلى وضع عوامل أخرى قد تكون غير صحيحة من جهة، كما أنه سيخلط بين دوافع الدين ومنافعه من جهة أخرى.

وهذا ما وقع فيه الماديون فعلا حين تجاهلوا تلك العوامل الأصيلة، إذ اضطروا حينها إلى تعليل الظاهرة الدينية بعوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية…كما خلطوا في بعض تلك النظريات بين منافع الدين وبين دوافعه، كما هو الحال في النظرية التي تعلل الظاهرة الدينية بعامل نفسي هو (الخوف)، والذي شرحها الفيلسوف الإنجليزي (برتراند راسل) بقوله: “في عقيدتي أن الإقبال على الدين والتدين في تاريخ الإنسان ينشأ عن الخوف، فإن الإنسان يرى نفسه ضعيفا إلى حد ما في هذه الحياة، وعوامل الخوف في حياة الإنسان ثلاثة:
فهو يخاف أولا من الطبيعة، التي قد تحرقه بصاعقة من السماء، أو تبتلعه بزلزال في الأرض تحت قدميه.

ويخاف ثانيا من الإنسان، الذي قد يسبب له الدمار والخراب والهلاك بما يثيره من حروب.

ويخاف ثالثا من شهواته، التي قد ينحرف معها، وتتحكم في سلوكه، وتفوّت عليه ما يندم عليه في ساعات استقراره وهدوئه. ويكون الدين سببا في تعديل هذا الخوف والرعب، والتخفيف منه”

وليس القصد الآن أن نعرض نظرية الخوف، ولا أن نقوم بمناقشتها، وإنما فقط ذكرناها بقصد توضيح مدى حجم الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها حين نتجاهل العوامل الأساس في نشأة هذه الظاهرة أو تلك، ونعزوها إلى عوامل أخرى لا تمت لها بصلة، وكذا حين لا نملك القدرة على التفريق بين دوافع الشيء ومنافعه.

فحين تجاهل (راسل) العوامل الأساس لظهور الدين ونشأته في حياة الإنسان، دفعه ذلك إلى عزو هذه الظاهرة إلى عامل غير صحيح أبدا، هو (الخوف)، وعزوه ظاهرة التدين إلى هذا العامل النفسي أوقعه في مشكلة أخرى، هي: عدم التفريق بين دوافع الدين ومنافعه، وإلا فصحيح أن التدين والإيمان بالله، والاتصال به سبحانه وتعالى يمنح الإنسان الهدوء والاستقرار والطمأنينة والأمن والأمان…

ولكن كل ذلك هو من منافع الدين وثمراته وبركاته، وليس من عوامل ولا أسباب ظهوره ونشأته في حياة الإنسان.

وكذلك الحال في هذه الأطروحات التي أغفلت العامل الديني فيما يتعلق بالطقوس الحسينية، فإنها بذلك جعلت هذه الطقوس مجرد عادات وتقاليد لا صلة لها بالدين، كما أنها خلطت بين الدوافع والمنافع فيما يتعلق بتلك الطقوس، ولذا فنحن لا نرى صحة لتغييب هذا العامل المهم، وذلك لأمرين مهمين، هما على النحو التالي:
أولا: حماية هذه الطقوس الحسينية من تجريدها عن الدين، واعتبارها مجرد موروثات اجتماعية، مما يفقدها قدسيتها الدينية، بل قد يصل الأمر إلى حد أن يعتبرها البعض غير مشروعة دينيا، رغم ما تحققه من مكاسب اجتماعية، وما يترتب عليها من آثار نفسية.

ثانيا: لو أن تلك الأطروحات ذكرت العامل الديني في الموضوع، لساعد ذلك أصحابها على التفريق بين دوافع ممارسة هذه الطقوس وبين المنافع المترتبة عليها، ولأصبح من الواضح لهم أن الدافع لممارستها هو مشروعيتها الدينية، بل دعوة الدين إليها، وتأكيده عليها، وأن جل إن لم يكن كل ما ذكروه في أطروحاتهم من أن هذه الطقوس تحقق الانتماء، وتعزز الوحدة، وتحافظ على الهوية، وتبعث الراحة في النفس، وتشعر الإنسان بالطمأنينة والأمان…إنما هو من منافع وثمرات وبركات ممارسة هذه الطقوس، وليس هي عوامل ظهورها، ولا منشأ ممارستها لدى المتدينين.

نعم، في حال كان أصحاب تلك الأطروحات لا يؤمنون بوجود العامل الديني، أو لديهم شك في صحته، فحينها عليهم قبل أن يقطعوا أن تلك الطقوس مجرد عادات وتقاليد متوارثة، أن يقوموا بمناقشة ذلك الثبوت الديني، ويثبتوا عدم صحته، أما أن يغيّبوا العامل الأساس، ويستبدلوه بعوامل اجتماعية ونفسية، قد يكون لها ارتباط بتطور تلك الطقوس، وليس بأصل نشأتها، كما أن بعضها قد يكون من المنافع والثمرات المترتبة على تلك الطقوس، وليست دوافع ولا عوامل لا للظهور ولا للتطور، فهذا خطأ فادح في منهجية البحث، يؤدي إلى أخطاء أكثر وأكبر فداحة في الاستنتاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى