الـمنبر الفكري والمبرّرات المنهجيّة
في كل عام مع ذكرى عاشوراء، تعود إلى السّاحةالشيعيّة عدة قضايا موسميّة، إلا أنّ ما يهمنا فيهذا المقال قضيّة منهجيّة ترتبط بالمنبر الفكري، وهيقضيّة حديثة بحدوث المنبر.
في السّنوات الأخيرة بعد أن استدعت الحاجة إلىتنوّع المنبر ليشمل القضايا الفكريّة، برز فيها مايُسمّى بـ“المنبر الفكري“، استكمالاً لمشروع العطاءالذي ابتنى عليه طبيعة المنبر الحُسيني في أداءالوظيفة والتكليف الشّرعي، إلا أنّه بطبيعة أيّ مشروع يُحدث نمطاً مُغايراً للمألوف، وهو ما يُحتّم إخضاعه للدّراسة والنّقد بحسب اختلاف القراءات والتجارب الشخصيّة، وهي حالة سليمة –بل ضروريّة– تستقيم معها التجارب العلميّة، ولأنّ المنبرالحُسيني يُمثل أحد أهم معالم الخطاب الدّينيالشّيعي، ومن الأدوات الأولى في توجيه المجتمع،ومن ثمّ درجة الحساسيّة تكون في حقه على مستوى عالٍ بحق.
استطراد: ممّا يجعل النّقد عقيماً في مجال العملالاجتماعي، الممارسة الفرديّة في عمليّة النّقد، إذ أنّ طبيعة القضايا ذات البُعد الاجتماعي تتقوّم بعتدّدالأطراف، وأيّ محاولة للاستفراد بالرّأي، وعدمالتواصل مع أصحاب الشأن، هي خطوة نحوالفوضى، وفي مثل المنهج المُستجد للمنبر الفكري،ينبغي التواصل مع أرباب هذا المنبر، كما أنّه لا يمنعمن العلماء غير الخطباء الاجتماع معهم، لا سيما وأنّ أصحاب هذا المنهج ممّن يتمتّع بالفقاهة والفضيلة الحوزويّة.
هذا بالإضافـة إلى أنّ البعض لا يمتلك فنّ النّقد،وذلك إمّا من خلال الاستعراض الاستفزازي للنّقد،أو إقحام قضايا شخصيّة، أو حسابات اجتماعيّة،أو إضفاء الطابع الفئوي.. وغير ذلك، ممّا ينعكسسلباً على الموضوعيّة، ويقود السّاحة في كثير منالأحيان للجدل.
نحن بدورنا نسعى لتجاوز تلك المحاذير، ونستعرضالملاحظات والإشكالات العامة التي يمكن أن تردعلى منهج المنبر الفكري، وذلك في ملاحظات ستة:
– الملاحظة الأولى/ لماذا الإصرار على المنبرالفكري دون الاكتفاء بمثل الندوات والكتب؟
قبل نصف قرن تقريباً، كانت حركات الصّحوةالإسلاميّة والتيار السّلفي في ذروة نشاطاتهمالدعويّة وعلى نطاق واسع، وهو ما استدعى مواجهةتلك الموجة من الشّبهات في علم الكلام، وحينها شقّالمنبر له مساراً يقتضيه ظرف تلك المرحلة، واستطاعفعلاً أن يواكب احتياجات المجتمع حينها، ويدفع تلكالشّبهات ويُطوّق المجتمع بحصنٍ معرفي قوي،وارتفع بذلك منسوب مستوى الثّقافة والوعيالمذهبي، حتى لا يكاد تجد شاب في المجتمع إلاويمتلك حصيلة جيّدة من الأدلة على معتقداته،ويعرف مُسبقاً الشّبهات التي ترد عليها، ويمتلكالإجابة عنها، بل حتى العديد من الأطفال كانوايمتلكون حصة معرفيّة جيّدة بالنّسبة لأعمارهم،فاليوم لم تعد شبهة زيارة القبور والتوسل، والقولبالإمامة، والعصمة.. وغير ذلك من المسائل، لم تعدتُشكّل مشكلة حقيقيّة في مجتمعنا، ولهذا لم تتشكّلأدنى مستوى من الظاهرة في العدول عن المذهب،بل وجدنا العكس تماماً من الجانب الآخر، وقد سجّلالمجتمع الشّيعي ثباتاً منقطع النظير أمام حجمالتحدّيات حينها، فيما إذا لاحظنا قوة السُّلطة،والإعلام، والمادة، والعدد لدى الجانب الآخر.
ولم تكن مؤلّفات العلماء كافية لإحداث ذلك الوعيبمفردها، بل كان للمنبر الحُسيني الفضل فيتعريف وإشهار تلك الكتب، وكان باعثاً قويّاً لشرائهاواقتنائها.
واليوم من منطلق ذات الوظيفة والتكليف الشّرعي، لايمكن الاكتفاء بالنّدوات والكتب، لأن المشروع يستهدف وعي المجتمع بشكل عام، ونحتاج معه إلىتكرار تلك التجربة المُتميّزة في نشر الوعي، ونحننعلم أن الطبقة الاجتماعيّة الكُبرى مُتمثّلة تحت منبرالإمام الحُسين “ع“، وهذا المنبر هو الأداة الأهم فيتوجيه المجتمع الشّيعي، من هنا تحرّك أرباب المنبرالفكري لإتمام المسيرة¹، وكان في طليعتها ومن يقودزمامها، شخصيّات تتمتّع بالفقاهة والفضلالحوزوي، ليواكبوا احتياجات المجتمع في ردّالشّبهات المعاصرة، واليوم نلحظ اقبالاً نسبيّاً علىالكتب الإسلاميّة التي تُعنى بالقضايا المعاصرة، إلاأنّ المجتمع لم يصل إلى مستوى حصانة الحقبةالماضية، ولازال أمام المنبر الفكري مشوار طويليقطعه ليُحقّق الإنجاز المطلوب.
– الملاحظة الثّانية/ إشكاليّة الهويّة:
بلا شك بأنّ المنبر يحمل هويّة حُسينيّة، والرّثاءواستدرار الدّمعة جزء لا يتجزّأ منها، مع ذكر السّيرةبلوازمها من ذكر مقامات وفضائل أهل البيت “ع“،فذلك من المصاديق الواضحة لإحياء الأمر، ومن هذاالمُنطلق يستشكل البعض في المنبر الفكري بأنّهانسلاخ للصّورة النمطيّة للمنبر، وخروج عن الوظيفةالرئيسيّة له.
إلا أن هذه الملاحظة ترد فيما إذا كانت هويّة المنبرالفكري أجنبيّة عن المنبر الحُسيني، والواقع أنّ المنبرالأوّل متولّد من الثّاني، وهو ليس إلا طور ومرحلة منمراحل التكامل للمنبر، وليست هي الأولى، فقدسبقتها مراحل أُخرى أُستُحدِثت في وقتها ولظرفهاالخاص، بعد أن كانت الانطلاقة الأولى –للمنبرالحُسيني– مجرّد رثاء، ثم توسّع ذلك لذكر السّيرة،ومن ثم أُدخلت ذكرى ميلادهم الشّريف، وأصبحللمنبر ملامح الفرح والبهجة في قِبال طابع الحزن،وهكذا تواصل في نموّه، وشمل أبحاثاً فقهيّةوأخلاقيّة وتربويّة واجتماعيّة، إلا أنّ ذلك التحوّل لميُفقد هويّته؛ وذلك لكون هذه العناوين كلّها منالمصاديق الواضحة لإحياء الأمر، مع الحفاظ علىالرّثاء وذكر أهل البيت “ع“.
كانت ولادة المنبر الفكري في هذا السّياق،والاختلاف فقط في طبيعة المواضيع التي استدعتإدخال الفلسفة والشّبهات الحداثويّة في عرضالمواضيع الأُخرى، كما استدعت الظروف سابقاً –لعلّه ما يُقارب خمسة عقود مضت– من إدخالشبهات في علم الكلام، بعد أن لم يكن المنبر منشأنه التعرّض لها، وهذا ما استدعى حينها الانتقالمن طبقة الملالي إلى طبقة الخطباء –وهي طبقةحضت بدراسة حوزويّة–، واليوم ينتقل المنبر إلىطبقة الخطباء الفضلاء والعُلماء في التعاطي معالقضايا الفكريّة.
– الملاحظة الثّالثة/ إشكاليّة الفهموالاستيعاب لدى المُتلَقي:
عادة ما تكون مُحاضرات المنبر الفكري ذات بُعدفلسفي وحداثوي، وهو ما يستدعي الدّخول فيقضايا تخصّصيّة، أو ما له نحو من التخصّص، وهوما يعني زجّ الجمهور في قضايا لا يستطيعاستيعابها بنحو كاف، فضلاً أن يتخذ حكماً أوموقفاً موضوعيّاً فيها، وهذا ممّا يُربك ذهن المُتلقي،وقد يكون سبباً في إيجاد شبهة لديه.
وهذا الإشكال لعلّه يكون عمدة الإشكالات لدىالمُعترضين، وهنا يُمكن التعليق بعدة نقاط:
أ– مقدار التعمّق في الفكرة مسألة نسبيّة، يصعبمعها تحديد ضابطة أو مستوى موحّد في ذلك، لأنّهاتعتمد على عدة عوامل منها: طبيعة نفس الفكرة،ومدى خبرويّة الخطيب فيها، والطبقة المُستهدفة منالمجتمع، بالإضافة إلى الوقت المُتاح للمحاضرة.. ولهذا هي تعتمد على تشخيص الخطيب بالدّرجةالأولى مع الاستعانة بالنّخب الاجتماعيّة.
ب– ومع مراعاة العوامل السّابقة لا يبدو أن المحذوريرتفع فعلاً بنحو تام، ونقرّ باحتماليّة وروده، إلا أنّه لايقتصر على المنبر الفكري، فهو يرد كذلك على المنبرالتقليدي، كما في طرحه لمسألة البداء، والقضاءوالقدر، والأمر بين الأمرين، وبعض تفاصيل العصمةوعلم الإمام، وذلك لتفاوت ذهنيّات الجمهور، الذينيختلفون في الذكاء، وفي مستوى التعليم، وسعةالثّقافة الدّينيّة.
بل أنّ هذا المحذور لا يرد في خصوص الطرحالمنبري، فهو تحدّي يواجه أصل طرح هذه الأبحاثوالشّبهات، سواء من على المنبر، أو في كتاب، أوندوة، أو تسجيل يُبث على مواقع التواصلالاجتماعي، فكلّها منافذ يُحتمل فيها ذلك، بل أنغالب الشّبهات التي يتصدّى لها المنبر اليوممصدرها المنافذ المتعدّدة الأخرى، فلا أحد يقولبإغلاق باب ردّ الشّبهات لمجرّد احتمال وجود هذاالمحذور.
ثم لماذا لا نأتي لنقرأ الواقع بدل التنظير في عالمالاحتمالات، ما هي نسبة الجمهور المُربك أو الذيعَلَقت في ذهنه شبهة كان سببها منهجيّة المنبرالفكري؟!
في الواقع نحن لم نجد تشكّل أيّ ظاهرة من هذاالقبيل، بل ولم يوجد أدنى مستوى من الظاهرة، وإنكانت توجد حالات فهي فرديّة يُتوقّع وجودها، لايُمكن قياسها مع حجم الجمهور، سواء في طرحالمنبر الفكري أو التقليدي، بل لو تفحّصنا الأمر فيهذا البعض من الأفراد نجد أن الشّبهة عالقة فيأذهانهم مسبقاً، لكنّهم لم يستوعبوا الجواب، لا أنالمنبر أوجد الشّبهة، كما أن بعض الأفراد كانتالشّبهة بسبب نفس الخطيب الذي لم يُحسن عرضالقضيّة، أيّ أنّ الإشكال ليس في منهج المنبرالفكري بشكل عام، وإنما في خصوص طرح ذلكالخطيب، وهو ما يعني أن حقيقة هذا المحذور هو“بعضٌ من بعضٍ في بعض“.
في المقابل –وحتى نكون منصفين في توصيفالواقع– لابد أن نقرأ الجانب الآخر، وما هو مقدارالشّبهات التي استطاع المنبر الفكري أن يُعالجها؟وما هو حجم الجمهور الذي استطاع المنبر أنيُصحّح مساراته –أو على الأقل ساهم في إضعافالشّبهة في نفوسهم–؟ ولا أعلم لماذا تُهمل هذه الجنبةعند انتقاد المنبر الفكري؟! فإذا كانت توجد حالاتفرديّة عَلَقت في أذهانهم شبهة، توجد في المُقابلشريحة واسعة ارتفعت منهم شبهات، ومع ذلك لا زلنانعتقد بأن أمام المنبر الفكري مشوار ليس بقليل حتى يستطيع أن يحقّق النتائج المرجوّة.
ج– أجد من المهم أن لا نُقصر النّظر على مدىاستيعاب المُتلقي للفكرة، ونغفل عن آثار إيجابيّة أُخرى، من قبيل العامل النّفسي الذي ينعكس علىشريحة كبيرة ممّن لا يمتلك القدرة على استيعابالأفكار بنحو تام، وذلك أن طبيعة عمليّة الاستعراضفي تعاطي الأفكار كما أن لها أثر في البُعد المعرفيوهو الغرض الأصيل الذي يتحقّق معه بيان الحقيقة،إلا أنّ لها كذلك بُعد آخر إعلامي يؤثّر في الجمهورولو بنحو الإيحاء بأنّ هناك ردود وإجابات قادرة لدفعتلك الشّبهات –وإن لم يستوعب الجمهور الأفكار–،وهي حالة نفسيّة موجودة لدى شريحة واسعة فيالمجتمع تتأثر بالإيحاءات الإعلاميّة من خلال القوةالاستعراضيّة للقضايا الفكريّة –سواء كانت حق أوباطل–، وهي ذاتها الحالة التي يضحك عليهاالبعض، عندما يُشاهد أولئك الذين ينبهرون منمحاضرة لم يفهموا منها شيئاً.
نحن لا ينبغي أن نستصّغر هذه العوامل النفسيّةوالإعلاميّة في توجيه دفة المجتمع، فالعديد منالمتأثّرين بالشّبهات تولّدت في نفوسهم عن طريقالإيحاء، مثلاً: يستمع لنظريّة فيزيائيّة تُعارضمفهوماً دينيّاً، هو لم يستوعب المسألة ولا المفهوم، لكنّهيَشعر بأنّ هناك مشكلة حقيقيّة في هذا الجانبالمجهول والغامض. الأمر نفسه تماماً عندما يستمعالمُتلقي غير المستوعب للمنبر الفكري، يشعر بأنّالدّين يمتلك حلولاً حقيقيّة وإن لم يستوعبها، وهو مايبعث في النّفس على الاطمئنان.
د– يختلف الخطباء في منهج الخطاب المنبري، بينمن يرى ضرورة نزول الخطاب إلى مستوى ذهنالمُتلقي، وبين من يعتقد بأنّ وظيفته الأخذ بيد المُتلقيإلى الأعلى.
ويبدو أن طبيعة قضايا المنبر الفكري تأبى النّزولكثيراً، وتفرض على الخطيب إلا أن يأخذ بيد المُستمعليرتقي بذهنه حتى يستوعب الأفكار؛ وذلك لأنّ طبيعةتلك المسائل لا تخلو من نحوٍ من التخصّص، ولذااستيعاب أفكار المنبر الفكري لا يأتي دفعة واحدة،وانما مع مرور الوقت عند الاستماع المتكرّر، وحضورتحت منابر مختلفة الشخصيّات من أرباب هذاالمنبر.
كما أنّ من مميّزات هذا المنبر يبعث المُتلقي نحوالتساؤل والقراءة والتعلّم أكثر خارج نطاق المنبر،ولهذا نجد اليوم بعد عدة سنوات من الطرح الفكري،بدأت تتشكّل شريحة شبابيّة تتمتع بثقافة إسلاميّةمعاصرة، وهذه المجموعة في اتساع ملموس، أصبحالمجتمع يفهم –ولو بدرجات متفاوتة– معنى العلومالتجريبيّة، وحدود مخرجاتها، ويفرّق بين النظريّةوالحقيقة، وفيما إذا يوجد تعارض بين الدّين والعلم.. وغير ذلك من مفاهيم وضوابط ترفع من مستوىمنسوب الوعي والثّقافة، و يتقلّص معها الشّبهات فيالمجتمع، فاليوم بالإمكان أن تجد مجالس ثقافيّةوشبابيّة تتعاطى بعض الإشكاليّات المعاصرةوتستطيع معالجتها دون الحاجة لوجود رجل دينمهتم بهذا الشّأن، وذلك ببركة عطاء المنبر الفكري.
نعم.. هذا الوعي يبقى إلى الآن نسبيّ ومحدود أمامحجم المجتمع والتحدّيات المفروضة عليه، ولازالتدائرة المنبر الفكري تحتاج إلى توسّع، وتطوير فيأدائه وأدواته، وينبغي إغراق المجتمع بالمفاهيموالضوابط المُضادة للشّبهات المعاصرة.
– الملاحظة الرّابعة/ غالبيّة وأكثريّة الجمهور:
يعتقد البعض أنّ الطبقة الأكبر من الحضور فيالمجالس الحُسينيّة، لا تعيش هذا الهم الفكري، ولاتشعر بأنّها معنيّة به، وعلى ذلك يكون الخطيب قدفَرض على الغالبيّة هموم مجموعة محدودة.
هنا أيضاً يمكن التعليق في عدة نقاط:
أ– يُدرك خطباء المنير الفكري أن عطاءهم يتجاوزجدران الحُسينيّة، وبعضهم له من الحضور الغيرمباشر أكثر من المباشر تحت المنبر، بل لم يعدمقتصراً على المُستمِع الشّيعي، لا سيما فيالقضايا الإسلاميّة العامة، ومن ثمّ لا يصح إقصارالنّظر على المُتلقي المباشر، ولا يخفى اليوم حجمالتقلّص الكبير في المتابعين للمحاضرات الحُسينيّةالتقليديّة المُسجّلة، والتركيز على متابعة مخرجاتالمنبر الفكري، والاهتمام بها وترقّب صدورها.
ب– قد لا يكون الغالب من الحضور يستوعب الأفكاربشكل تام –وهي نقطة تعرضنا لها سابقاً–، لكن لايخفى شدّة اهتمام الجمهور بهذا النوع منالمحاضرات، ومن خلال ملاحظة الاستقطاب الواسعلهذا المنبر –المباشر وغير المباشر– يكشف ماذا يعنيلهم ذلك، لا سيما عندما يُرجَّح هذا المنبر مع وجودخيارات أُخرى من المنابر، ويمكن أن نُرجع ذلك إلىعدة أسباب، أهمّها:
١– لأن مواضيع المنبر لامست واقع التحديّات الدينيّةفي حياتهم العصريّة، أو التي يُمكن أن ترد علىمنظومتهم المفاهيميّة، ولو من خلال الماكينة الإعلاميّةالكبيرة الموجّهة ضدّهم، والتي تُصرَف عليهاميزانيّات ضخمة في السينما، والدعايات،والجامعات، والندوات، والكتب.. ومختلف الوسائلالتي تُمكّنها من بث القضايا الفكريّة والأخلاقيّة التيتتعارض مع أصل الدّيانات، من قبيل الإلحاد،والمثليّة الجنسيّة.. وغير ذلك من قضايا يدّعون أنّهانتائج علميّة، وهذا يعني أنّهم يجدون أنفسهم معنيين بهذه القضايا.
٢- الاستماع إلى قضايا وحقائق جديدة، تختلف عنتلك المتكرّرة لعدة سنوات، وهي حالة طبيعيّة لدىالإنسان في تجاوز الأنماط الروتينيّة، كما أنالتجديد بهذا النحو ضروري لبقاء حيويّة المنبر فينفوس النّاس، ولا يعني تكرار تلك المسائل والقضاياالسّابقة صفة سلبيّة، بل هي تندرج ضمن منهجإعلامي ضروري في ترسيخ الأفكار، ومواصلةالعطاء للأجيال الجديدة، وإنما أيضاً من الضروريمتابعة المستجدّات وعدم الاكتفاء بتلك القضايا.
– الملاحظة الخامسة/ مراعاة الأولويّات:
يعتقد البعض أن المجتمع في حاجة إلى معالجةقضايا أخرى غير تلك المسائل التي يُسلّط عليهاالمنبر الفكري، من قبيل المسائل الأخلاقيّة، بل يتطوّرالبعض في قراءته ويعتقد أن الخلل الفكري ناشئ من ضعف في السّلوك.
ويمكن التعليق في عدة نقاط:
١- لا خلاف في ضرورة مراعاة الأولويّات، لكن يقعالخلاف في تشخيص ذلك، ويبدو أنّ للتجاربالشخصيّة الدور الأكبر في تحديد الأولويّات،فللأسف لا توجد لدينا –بحسب علمي– جهاتمتخصّصة تُعنى بدارسة احتياجات المجتمع، إلا أنالعديد من الخطباء اليوم يلجأ إلى فتح بابالاقتراحات قبل موسم عاشوراء، وهو ما يساعد فيتشخيص الأولويّات.
٢- احتكار المشاكل الفكريّة في الخلل الأخلاقي،وإن كان هو أحد العوامل، لكنّه قراءة ناقصةللمشكلة ينتج عنها نقص في العلاج، بل أنّ العديدمن المشاكل الأخلاقيّة ناشئة من خلل في منظومةالمفاهيم والأفكار.
٣- ضرورة مراعاة الأولويّات لا تعني الاقتصار علىالأولى، وانما التأكيد والتركيز بنحو أكثر، وتبقىللقضايا الأخرى ضرورة تَغطيتها وعدم اغفالها، فلاينبغي الوقوع في مشكلة الإفراط والتفريط.
ونحن اليوم نجد أنّ المنبر الفكري أقل بكثير منالمنابر التقليديّة، ولازالت السّاحة بحاجة لإشباعأكثر في هذا الجانب، بل أنّ أرباب هذا المنهج لميقتصر عطاؤهم على القضايا الفكريّة، ونجد حصة ليست بقليلة في مواضيعهم المنبريّة في قضاياأُخرى.
نعم.. لعلّ لكون المنبر الفكري أصبح له صيت أعلىمن غيره، توهّم البعض بأنّ انتشاره أكثر منالتقليدي، ومن ثم كان على حساب أولويّاته، وهذاليس إلا مؤشّر على حجم الاستقطاب والتفاعلالجماهيري مع هذا المنبر.
– الملاحظة السّادسة/ إشكاليّة العقد الشّرعي:
الخطابة الحُسينيّة عقد شرعي بين صاحب المجلسوالخطيب، والمُنصَرف لدى العُرف في إنشاء العقدهو بحسب القراءة السّائدة والمُتعارفة، وعليه فإنالمنبر الفكري نمط مُستجد خارج عن المألوف، فلايخلو الأمر من إشكال، لا سيما إذا كانت القراءةامتثال لنذر أو وصيّة.
وهذا الكلام غير تام كذلك؛ لأنّه:
أولاً: ذكرنا أن المنبر الفكري لم يخرج عن هويّة المنبرالحُسيني، وليس ذو نمط مختلف جذريّاً عن المنبرالتقليدي، بل هو متولّد منه.
ثانياً: الولي للمأتم الحُسيني –عادة– يُدرك نوعالخطيب وطبيعة المواضيع والهموم التي يتصدّى لها،ومن ثم يكون الولي قاصد وملتفت لذلك.
ثالثاً: يرتفع الشّك –فيما لو وجد– مع سكوتالخطيب وعدم المطالبة بعد المأتم، وهو ما يعنيالقبول والرّضا بذلك، لا سيما عندما يتكرّر الطلب منالخطيب القراءة مرة أخرى في مناسبة وموسم آخر.
– كلمة أخيرة: لا ينبغي التحسّس أو التوجّس منانتقاد التجارب والمشاريع الدّينيّة الاجتماعيّة، ولاتحويلها إلى صراع ونزاع يستنزف معها الطاقات،حتى لو كانت ترتبط بشخصيّات معيّنة، فذلك ضرورةاجتماعيّة، ومؤشّر على سلامة المجتمع؛ والانتقاداتالموضوعيّة في أيّ مشروع إمّا أن تُهذّب الخلل، أوتعزّز مواطن القوة.
————————-
1- الجدير بالذّكر أن آية الله السيـّد منير الخباز هوصاحب المبادرة ومؤسّس المنبر الفكري.