بشائر المجتمع

الشيخ المشاجرة ..نقلة في المنبر الحسيني

رباب المحمد – الدمام

بعد انقضاء الموسم العاشورائي من المحرم لعام 1441هـ، كان حريا بنا أن نقف على نوع مغاير للمألوف من الطرح خلال السنوات الأخيرة عبر منبر الحسين ع، ولا شك أن الشيخ الدكتور إسماعيل المشاجرة أحد أهم هؤلاء الخطباء.

فالمشاجرة يعتمد في طرحه على إثارة بعض القضايا الدينية من جوانب مختلفة؛ قد تكون تاريخية، أو عقائدية، أو فكرية، أو فلسفية، ثم يفندها من خلال المقدمات والمحاور وصولًا للنتائج، التي تعتمد على آراء ونظريات لمذاهب ومدارس لها جذورها وحضورها في الأوساط العلمية بكافة مناحيها الفكرية والفلسفية والاجتماعية وغيرها، فيصل بنتيجة مقنعة للمتلقي بعيدة عن الانحياز، محايدة في الطرح، وفي ذات السياق يأتي بالموقف الإسلامي و القرآني منها، معتمدًا في طرحه على البحث العلمي الأصيل، منتقيًا المنهج العلمي المناسب من البحث حسب الطرح بين التحليلي والتاريخي والمقارن، ليمرر من خلالها الفكرة و الرسالة التي يريد إيصالها، نتيجة جهد وبحث وإطلاع عميق في علوم و مناهج متفرقة، و ربما أشكل البعض هذا النوع الجديد من الطرح، وارتأى عدم ملاءمته لعاشوراء الحسين.

فيؤكد المشاجرة من خلال طرحه وتطرقه لبعض المواضيع ، أن الغاية منها الإصلاح الفكري و العقائدي، فمنبر الحسين امتداد لقضية الحسين التي كان منشؤها الإصلاح وعنوانها الأبرز :” إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”.

الجدير بالذكر أن الشيخ المشاجرة كان حاضرًا هذا العام في مجلسين، هما مأتم النمر الذي غلب على مواضيعه الشأن التربوي والأسري الذي تلاءم مع العنوان العام للمجلس (حجور طابت وطهرت)، ومأتم الرضا(ع) الذي قدم فيه الشيخ بحثًا بعنوان (الدين والبنية التوحيدية للإنسان)، والذي تضمن ثلاثة فصول، كان أولها تساؤل (مما يتركب الدين؟) تطرق فيه للدين كظاهرة إنسانية، وتأملات في حقيقته، والثاني (الأنسنة بين النشأة والصيرورة).

وكان قد تضمن قضية النزعة الإنسانية المعاصرة التي وصلت إلى حد تأليه الإنسان، ومشروع محمد أركون الذي يشكل المشروع الأبرز للأنسنة الإسلامية في الأوساط الإسلامية، والأخير (تعالق الدين والأنسنة) الذي تضمن عناوين متفرقة كان الأبرز من بينها مآلات ومآزق إنسانية من خلال قراءة لكتب متعددة لأشخاص متبنين التجربة الإنسانية، وختم مبحثه بالملف المهدوي في ظل المقاربات المعاصرة.

وتنوعت الأطروحات التي قدمها بحسب المجلسين اللذين قدم فيهما، يقول الأستاذ علي النمر: “أعتقد أن سماحة الشيخ نجح هذا العام في طرح متميز، لا بالطويل الممل، ولا بالمختصر النخبوي المخل، فحافظ على تواصله مع الحضور عبر التنوع باهتماماتهم الثقافية والفكرية، والفئات العمرية من النساء والرجال، وبطبيعة المأتم هو عائلي بامتياز، تحضره الأسرة بكل مكوناتها، من الجد ولجدة والأب و الأم إلى الأبناء، هذا التنوع استلزم سماحة الشيخ بطرح عناوين تميل إلى التربية وشؤون الأسرة و المرأة والشباب، ولم يغفل التعرض لدفع الشبهات العقائدية المعاصرة، وما يعرف بـ(علم الكلام الجديد).

فتعرض لمواضيع كالوحي، والحريات، وبعض المفاهيم القرآنية المغلوطة كضرب المرأة، إضافة لعدم خروجه عن الإطار العام للبرنامج العام لمأتم النمر بعنوان (حجور طابت وطهرت) الشامل للتربية والأسرة، وقد نجح في إيصال رسالة إصلاحية نافعة للناس في هذا الموسم العاشورائي، شاكرين له هذا الأداء المتميز والراقي، راجين له أن يكون بهذا المستوى و أعلى في السنوات القادمة بإذن الله “.

وكان للمهندس حسين العلي الذي كان من مرتادي مأتم النمر إضافة، حيث قال:” يمتاز الشيخ المشاجرة بالاستماع للنقد والملاحظات ويتقبل الرأي الآخر بهدوء وأريحية، ويمتاز خطابه بالتنوع في الطرح فتناول قضايا متعددة، كسرديات عاشوراء، وركز على قضايا تربوية في محاضرة رائعة حول التربية الالكترونية، وتناول قضايا إنسانية كالأنسنة ومآزق ومآلات التجربة الإنسانية، والتوازن في الوقت بين البحث الذي يطرحه وبين النعي والمصيبة من خلال ربطها بأسلوب سهل، ويمتاز بإعطاء المستمع عناية من خلال تركيزه على المفاهيم و المعاني عند طرحه للمواضيع العميقة، وضرب أمثله بشكل ممتع، كذلك الاستعداد والتحضير لمواضيعه من خلال سعة الاطلاع و التحليل و الربط والنقد ويخرج بموضوع جاهز للمستمع في قالب جميل متكامل، وخطابه عام يتناسب مع داخل وخارج حدود المنطقة، أسأل الله التوفيق له و المزيد من العطاء، فهو كفاءة ومشروع خطابي واعد”.

وكان للدكتور مهدي آل طاهر مقترح بمجلس ثالث يقدم فيه الشيخ مواضيع تتعلق بالجانب العقائدي: “نحن نؤمن بأن حركة أبي عبد الله الحسين حركة إصلاحية تتضمن الكثير من القيم، ومحاربة محاور الفساد، وبسبب الانفتاح المعلوماتي الواسع أصبحت هناك الكثير من الشبهات العقائدية والفكرية والشرعية، ومن المهم استغلال وجود الحشود التي تجتمع في الحسينيات والمساجد في المنطقة لرفع هذه الشبهات، وتخليص حركة أبي عبد الله الحسين من الشوائب التي قد تؤثر على بعض الناس بشكل سلبي من جانب، ومن جانبٍ آخر سد احتياجات الناس التربوية والاجتماعية، فالشيخ العزيز قام بطرح محاضرات فكرية في مجلس، ومحاضرات مجتمعية في مجلس آخر. أقترح عليه أن يقيم مجلس آخر يناقش فيه مسائل عقائدية لسد احتياجات الناس قدر المستطاع، ولملاءمة جميع المستويات الفكرية الأكاديمية، على أن يتم طرح المواضيع والمحاور قبل شهر المحرم، والمستمع يقرر ويختار المائدة الحسينية الفكرية التي يرغب حضورها بما يلائم مستواه وحاجته”.

كما أشار الدكتور الطاهر إلى أن الحسين (عِبرة وعَبرة) وبأن انتقاء الشيخ للقصائد وأسلوبه في النعي يحرك الدمعة والشجون تجاه أبي عبد الله الحسين، فيوازن بين طرفي هذه المعادلة، بمختلف الجوانب الروحية والعاطفية والنفسية والعقلية والسلوكية من خلال توفير البيئة القيمية التي تعيدنا لعاشوراء التي انتصرت فيها قوى لحق ضد قوى الباطل والانحراف الفساد.

أما د. محمد الشخص علق على طرح الشيخ المشاجرة قائلًا:” كان شعلةً ومتألقًا هذا العام -كما الأعوام السابقة-علمًا وفكرًا وطرحًا وأسلوبًا وعمقًا وسعةً وشمولاً، فهو مميز بكل معنى الكلمة، وأتوقع أن يكون لديه مكانة خاصة بين الخطباء، وسيعمل نقلة في المنبر الحسيني كما سبقه الشيخ الوائلي -رحمة الله عليه-.

وتابع :” أجل أن يحقق المنبر الحسيني أفضل ما يمكن أتمنى من الشيخ المشاجرة أن يلاحظ بعض النقاط: تطعيم المجلس بالآيات القرآنية والأحاديث والشعر العربي، والقصص القصيرة بحيث لا يخلو من الجفاف، وأن يكون هناك توازن في الوقت بين استعراض المواضيع العلمية والفكرية والثقافية، وبين النتائج والأهداف المراد تحقيقها، فلا يسهب ويتعمق في الجانب الأول على حساب الأخير، وأن يكون الطرح منوع، بين العلمي والفكري والعقائدي والتاريخ الحسيني ليثري الحضور، وأن يفرد الليالي منذ السابعة و حتى العاشرة بالحديث عن الثورة الحسينية، من حيث المسيرة والأهداف والنتائج، و يطرح في الليالي التي قبلها وبعدها بالبحث الذي سيطرحه. المنبر الحسيني رمز للنور والثقافة والمعرفة في كل الجوانب، فلا يمكن أن يفصل الخطيب عن الواقع المعاشي والاجتماعي لأفراد المجتمع وعلى أن يتصدى للمشكلات المتجددة والمؤثرة في المجتمع “.

وكان للأستاذة رباب النمر إضافة:” ثلاث عشرة ليلة من العطاء الفكري العميق، والطرح المتميز، وكسر رتابة المُعتاد، وجماهير متعطشة للعطاء، عشناها مع سماحة الشيخ الدكتور إسماعيل المشاجرة، كان تناوله يثير ملامح الإعجاب ويستفز مشاعر الدهشة، ويمزج ما بين أطروحات العالم الغربي والإسلام، للوصول إلى نقطة عقلائية ومنطقية”.

أما الدكتور هود العمراني الذي كان متابعًا لمحاضرات المشاجرة منذ سنوات:” استمعت هذا العام لمحاضرات شهر محرم الحرام لعدة من الخطباء الذين برهنوا للمستمع أنهم يستشعرون هموم الواقع من خلال الطرح والتحضير، ومن بين هؤلاء الدكتور إسماعيل المشاجرة، الذي كان كعادته حاضرًا بقوة بأن حول منبره فعلًا من حالة الانفعال إلى حالة الفعل والبناء والطرح المترابط الواضح الذي يُبين من خلاله طريقة متابعته للأحداث وقراءته لواقع الاحتياج المجتمعي.

وقال :”لفت نظري في طرحه عمق التبويب واتساع الأمثلة، والربط بين المحاور وتكامل المواضيع في سلسلة مقسمة وواضحة من خلال دقة الطرح وتسلسل الفكرة واستحضار المطلب وسرعة تدارك الخطأ حتى لوكان في نطق الاسم على سبيل المثال، هذا الحرص وإبرازه أعطى صورة واضحة المعالم لمنبره مما جعل التعاطي مع المواضيع سهلًا ومراجعة المعلومة غير ممتنعة.  وعلق العمراني بشكل عام على الطرح في المنبر: “من الواضح أن الجمهور بدأ يحدد خياراته المنبرية في عاشوراء ومن الصعب فعلًا إيجاد منبر متكامل مُرضي لكل الأذواق لذلك فإن صح لنا تصنيف منبر الشيخ الدكتور المشاجرة فسيكون حتما من منابر النخبة في الطرح الديني والاجتماعي والعلمي بطريقة ممنهجة، وإني لأحييه على هذا الجهد وعلى هذه القراءات الراقية”.

وبذلك نكون استعرضنا جملة من الآراء والقراءات لأسلوب ومنهج الشيخ الدكتور المشاجرة، الذي دعى الشباب بتأسيس قاعدة ثقافية متينة مستندة على المنصات المعرفية التي ركازها البحث العلمي والكتاب، وعدم الاعتماد على وسائل التواصل والمنابر الإعلامية التي تتأثر بالأهواء والآراء الشخصية، لأن نتاجها ثقافة هشة لا تبني العقل، ولا تلبي حاجته.

فالمشاجرة يعتبر من المجددين في خطاب المنبر الحسيني، وسيحقق نقلة نوعية للخطاب الواعي الذي يتلاءم مع حالة الانفتاح التي نعيشها اليوم على كافة المستويات الفكرية والثقافية والعقائدية، في خط متوازن يحفظ فيه الهوية الإسلامية الأصيلة دون تذويبها أو تضخيمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى