أقلام

إني جاعل في الأرض خليفة

د. عبدالجليل الخليفة

تحدثنا في مقالة سابقة تحت عنوان (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) عن مسيرة الأفراد و المجتمعات و الشركات  الى الكمال (كفاءة ومثابرة واستقامة و لذة الفريق).

وعرّفنا الكفاءة بالعلم والثقافة والخبرة والهواية و المهارات كالخطابة و الكتابة. وتحدثنا عن العلم في مقالة (وقل ربي زدني علما) وسينصب حديثنا هنا عن الثقافة.

يبحث الأنسان باستمرار عن إجابات شافية يطمئن اليها على التساؤلات التالية: كيف وجد هذا العالم؟  كيف جئت الى هذا العالم،  وماهي مسؤوليتي؟ أنا حر ومختار وأحب التكامل، فماهو الطريق الأفضل؟  أنا أحتاج لأخي الأنسان، فكيف أنظم علاقتي بالآخرين؟ ماهو مستقبلي؟ ماذا بعد الموت؟.

ولسنا في صدد بحث التطور التاريخي للإجابة على هذه الأسئلة، فما يهمنا هو الأجوبة المحتملة المطروحة حاليا.  ويمكن اختصارها بما يلي:  لا حاجة للخالق:  يرى هذا الفريق بأن المادة موجود أزلي فهي لاتفنى و لاتستحدث من العدم فلا حاجة للخالق.

ويفسر هذا الفريق وجود الكون و الحياة على الأرض كما يلي:

كي يفسر هذا الفريق وجود الكون؟  يتبنى بعض العلماء نظرية الإنفجار العظيم قبل حوالي اربعة عشر بليون سنة، حيث كان الكون مادة ذات كثافة  لامتناهية في الكبر في مكان أشبه مايكون بنقطة لامتناهية في الصغر(Singularity).

وفجأة حدث الإنفجار العظيم فأنبعثت السحب والغازات من هذه النقطة الصغيرة لتتسع وتكبر ولتكون المجرات والنجوم و الكواكب.

فهناك مايعادل مائة الف بليون تريلوين نجمة في الكون (أي ثلاثة و عشرون صفر في جنب العدد واحد)،  في مجرات عظيمة الترتيب و النظام تحكمها قوانين الجاذبية بين الأجسام وقوانين الطرد المركزي نتيجة الدوران. أما الأرض فتكونت قبل حوالي 4,5 بليون سنة.

وكل مانراه في التلسكوبات الفضائية هو 5% من الكون ( أما البقية فتوجد مادة مظلمة لاترى تعادل  27%، وطاقة مظلمة لاترى تعادل  68%)، ومانراه أي 5% فالمادة فيها التي تتكون من الأجسام الصغيرة جدا تساوي 1% من وزنها فقط، بينما تعادل القوة النووية الرابطة حوالي 99% من وزنها).

الأسئلة كثيرة ولاتوجد أجوبة شافية من هذا الفريق، نتيجة تبني فكرة عدم وجود الخالق، منها:  ماذا قبل الإنفجار العظيم؟، من أوجد المادة قبله؟ كيف تجمعت المادة في هذه النقطة الصغيرة جدا؟ كيف تحول الإنفجار من الفوضى العارمة الى النظام الصارم في الكون؟ الكون يتجه للبرودة و النجوم تنطفيء تدريجيا والقانون الثاني للديناميكا الحرارية يثبت ان العالم يسير الى اللانظام فهناك علميا نهاية للعالم.

كيف يفسر هذا الفريق وجود الحياة؟ نتيجة مرور بلايين السنين، توجد امكانية لتفاعل المواد الغير عضوية لتكون الأحماض الأمينية التي تدخل في تركيب الخلية الحياتية البسيطة الأولى (خلية بدون نواة و بها حمض نووي بشريط واحد).

لاتفسر النظرية كيف وجدت الحياة في الخلية البسيطة الأولى الى الآن بل تتركها لمستقبل الايام على أمل أن يكتشف العلم ذلك.

أما تنوع الحياة فتعلله بعملية الأنتخاب الطبيعي.  حيث ترى أن الخلية البسيطة الأولى التي وجدت قبل 3,5 بليون سنة قاومت الظروف الطبيعية وأستطاعت ان تستمر في الحياة وأن تتطور تدريجيا الى الخلية الحياتية المعقدة و التي وجدت قبل 1,5 بليون سنة (خلية فيها نواة و حمض نووي بشريطين)، و بدأت الحياة في التنوع والتعقيد تدريجيا في ظل الصراع والإنتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى.

حيث ترى هذه النظرية أن حب البقاء أمر طبيعي في الخلايا و في الجينات وبذلك تموت وتتلاشى أنواع من الحياة  وتتطور أنواع آخرى حتى وصلت الحياة الى مرحلة وجود الأنسان الذي يتكون من (10 الى40 تريليون خلية).

وقد أختلف في بداية وجود السلالة البشرية ( من ملايين السنين الى مئات الآلاف من السنين ).

وهنا بعض الأسئلة التي لايجيب عليها هذا الفريق.  كيف وجدت الحياة الأولى؟ ثم لو حسبنا بقانون الأحتمالات نسبة وجود الظروف الملائمة للحياة على كوكب الأرض (وجود الماء، الغلاف الجوي، المسافة من الشمس، كروية الأرض، نسبة الأوكسجين، نسبة النيتروجين، النبات والتنفس الضوئي، ….. و آلاف العوامل الآخرى) بطريق الصدفة دون تخطيط، لوجدناها تساوي واحد من البليون او أقل،  وهذا يعني أن الأحتمال ضعيف جدا بحيث لا يعتنى به.

ثم ماذا عن التنظيم العظيم في جينات الأنسان و تركيب الجسم بطريقة لم يستطع الأنسان حتى الآن فك رموزها بالكامل؟  فمثلا يبلغ عدد الجينات عشرين الف جين وتحوي ثلاثة بلايين قاعدة نيتروجينية، و يبلغ طول الكروموسومات مجتمعة حوالي المترين ملفوفة بطريقة هندسية غاية في الدقة لتتناسب ووجودها في نواة الخلية البشرية ( لايتعدى قطرالخلية عشرة ميكرون اي 0,01 من الميلليمتر).

وهكذا يتبين أنه من شبه المستحيل أن  توجد الصدفة هذا التعقيد و التنوع الهائل الذي عجز الأنسان عن فك رموزه كاملا حتى الآن.

الحاجة للخالق:  يرى هذا الفريق أن المادة لاتخلق نفسها، فلابد من خالق للكون والحياة. وهنا ينقسم هؤلاء المؤمنون بالخالق الى فريقين، هما من يؤمن بأن: التشريع ووضع القوانين حق إنساني التشريع ووضع القوانين حق إلهي  التشريع حق إنساني: يؤمن البعض بأن الكون والحياة تحتاج الى خالق، ولكن بعد الإيجاد والخلق، لاداعي أن يواصل هذه الخالق التدخل في حياة البشر، فقد أعطاهم العقل والقدرة على التفكير  والأختيار  وترك لهم مهمة تنظيم حياتهم.

وقد برزت هذه الفكرة  كردة فعل عنيفة على رهبانية الكنيسة وتعسفها ضد التنويريين والعلماء الغربيين.  فانطلق المفكرون الغربيون في بريطانيا و فرنسا و بعدها في امريكا لتقنين الحياة بعيدا عن الدين.

أما العلاقة بالخالق فتكون روحية يتأمل فيها الأنسان ليشبع حاجته وظمأه الروحي.

فيكفيه أن يتعبد يوميا أو اسبوعيا أو شهريا دون أن يتدخل الخالق في حياته اليومية. ويعتقد هذا الفريق بأن القوانين الوضعية و الدساتير البشرية قد أثبتت نجاحها فقد طوّرت الحضارة الغربية وأوجدت أنظمة كحقوق الأنسان.

ولاشك أن القانون الوضعي حقق قفزات رهيبة في بسط النظام و تحقيق الرفاهية المادية في الغرب.

ولكن هذا التطور لم يحقق السعادة الأنسانية بل أوجد التناقض الطبقي الرهيب في البلاد الغنية، فمثلا يملك أغنى 10% في امريكا 72% من الثروة بينما  لايملك  50% من البقية سوى 2% من الثروة.  أما عالميا، فلم يعبر هذا النظام حدود الغرب الى الدول الفقيرة، فالظلم و المجاعة و الأمية تغطي ثلث المعمورة، بينما ينشغل الثلث الغني غالبا بالأستهلاك و الركض وراء سراب الغنى و الثروة و الأنانية.

والسبب الحقيقي هو أن القوانين الوضعية لم تتمكن من معالجة تناقض الأنسان مع نفسه الداخلية فتغلبت الشهوة و اللذة السريعة وأنهارت عرى الأسرة، و سمح البعض تحت شعار الحرية الفردية بالمثلية الجنسية و حق الإجهاض و تدخين الماروينا.

كذلك لم تعالج القوانين الوضعية الصراع في نفس الأنسان بين غريزة حبه لذاته و أنانيتة المقيتة و بين احترام حقوق الآخرين، فأنقلب الأنسان المتحضر وحشا كاسرا يستعمر الآخرين و ينهب خيراتهم.

الخالق و شريعة السماء: يعتقد هذا الفريق بأن الخالق هو العالم القدير الرحيم الرؤوف فهو  الغاية في الكمال.  و قد أظهر جماله و كماله في خلقه فترى النظام و الدقة و التدبير، ووهب الأنسان العقل و الحرية و الأختيار و حب الكمال و حمّله الشرف الكبير و المسؤولية العظمى فقال : ( إني جاعل في الأرض خليفة).

فالأنسان خليفة الله في أرضه، وهو مستخلف يسير حسب النظام الذي وضعه الخالق نحو إعمار الأرض و سعادة البشرية و تطور الحضارة.

وحيث أن الخالق كامل يحب الكمال و عادل و عالم و لطيف فمن البديهي أن يكشف عن الحقيقة من خلال التشريع ليرشد البشر الى طريق الكمال و السعادة.

فبعث الرسل بالبينات وأنزل معهم الكتب فبينوا الشريعة و عاشوها في حياتهم. ثم جعل بعدهم الأوصياء الذين أكملوا المسيرة، ووعد بأن يملأ آخرهم الأرض قسطا و عدلا.

والحقيقة أن التشريع السماوي يقدم حلا لتناقض النفس البشرية، فهو: برشد الأنسان الى الحب الحقيقي لذاته فتضحيته للآخرين و صموده ضد أنانية نفسه هي في الواقع حب حقيقي للذات لأنها تحقق له سعادة الآخرة، يلبي غرائز الأنسان دون أن يضحي بالمثل و القيم والطموحات العليا، فهو يرسم له برنامجا حياتيا كالزواج مثلا و يربيه على التحكم في الغرائز، يطلق طاقة الأنسان و يشحذ إرادته ليتعلم و يعمل و يبني و يتكامل في مسيرة جميلة و محبوبة للنفس لأنها مع الخالق و الى الخالق: (يا أيها اللإنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه)،  لا يتبنى رأي أغلبية ضد أقلية، بل هو في كامل الموضوعية.  وكمثال على ذلك نرى الجمال الرائع في آية المواريث في القرآن الكريم قبل الف و أربعمائة سنة، بينما نرى عدم العدالة في نظام الإرث الأوربي الذي أستمر في توريث الأبن الأكبردون غيره حتى عام 1804 في فرنسا، و حتى عام 1919 في المانيا، و حتى عام 1925 في بريطانيا للأراضي الزراعية.

(انظر كتاب رأس المال، المؤلف : بيكاتي) يعتبر الدنيا فصلا قصيرا من حياة الأنسان، فالحياة الأبدية هي في الآخرة.  و هذا الإيمان بالحساب العادل في الآخرة يحقق الرضا و السعادة في الدنيا.

الدين اذن ثقافة تتبنى نظرة متكاملة للحياة في الدنيا و الآخرة، و ترسم علاقة متوازنة للأنسان بالخالق و الطبيعة و أخيه الأنسان.

و هذه الثقافة تحدد مسؤولية الأنسان العظمى و هي أن يعمر الأرض في ظل التشريع السماوي، إمتثالا لقوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى