وألّوِ استقاموا على الطريقة
د/ عبدالجليل الخليفه
تحدثنا في مقالة سابقة عن رحلة الإنجاز نحو الكمال (كفاءة و مثابرة و إستقامة و لذة الفريق).
و حيث أن العلم أساس الاختراعات و المنتجات، (و الثقافة قاعدة مسؤوليتنا تجاه الخالق و الطبيعة و اخينا الإنسان، و المثابرة تطبيق العلم و الثقافة على أرض الواقع، فما هو دور الإستقامة)؟ إن الفساد المالي و التلاعب في القوائم المالية أفلس بشركة إنرون (ُEnron)، وبالمضارب المالي برنارد مادوف في البورصة العالمية و بالكثير من الشركات و المؤسسات في أقطار العالم.
و هناك الكثير من الشركات تعاني من الخسائر بسبب التلاعب و عدم أمانة الجهات التنفيذية و السبات الشتوي لمجالس الإدارة.
و تقدر تكلفة الفساد المالي العالمي بمئات البلايين من الدولارات سنويا في العقود و المشتريات و المبيعات و الاستحواذات مما ينعكس سلباً على مسيرة التطور و الحضارة الإنسانية.
و لمعالجة هذه المخاطر، أسّست الشركات وأسواق المال و البورصات العالمية الكثير من الدوائر الرقابية الداخلية و الخارجية، و تصدّرت الأمانة قائمة القيم داخل الشركات و عقدت الكثير من المؤتمرات وورش العمل للحديث عنها و عن الشفافية.
و طلبت الشركات من جميع الموظفين توقيع تعهد عدم تعارض المصالح و تعهد السلوك السليم (Code of Conduct (. أما على مستوى الأفراد فالأمر لايقل خطورة. أتذكّر أحد العلماء الرواد المشهورين عالميا أنه بينما كان يستقل دراجته العادية من مسكنه الى الجامعة اصطدم بشجرة وهوى في الوادي و فارق الحياة، ثم تبين بعدها أن هناك دعوى قضائية أقامها عليه أحد طلبته متهما إياه بممارسة الشذوذ مع ابن ذلك الطالب.
إن بريق المال و الشهوة و الجاه يسرق القلوب و يعميها عن المباديء و الأخلاق. فالرقابة الذاتية الداخلية التي غابت أفسدت رحلة الإنجاز و أضاعت بوصلة المسيرة! و السؤال المهم هو كيف يضمن الإنسان أنه بعد التحصيل العلمي و الثقافي و المثابرة لا ينتكس؟ أي كيف نعزز البوصلة و نضمن سلامة الإتجاه؟
إن كانت العقيدة توجه الإنسان نحو خالقه و التشريع يقنن له علاقته بربه من خلال العبادات و علاقته بالآخرين من خلال المعاملات، فإن كل هذا لايضمن سلامة التطبيق و الرقابة الداخلية.
إن بريق الشهوة و اللذة السريعة تتغلب أحيانا على الأهداف البعيدة فيبحث الأنسان عن مبررٍ قانوني و شرعي ليتحايل به على القانون و الضمير. من هنا، نرى أن من يكتب القانون يتحدّث دائماً عن إحترام روح القانون. أتذكر أحد رؤسائي حين كان يقول: ( إذا حدّثت نفسك بعمل ما فتصور أنك تعمله أمام الناس، فهل ستستمر في عمله أم لا؟ ).
ماذا تعني الاستقامة في عالم المال و الأعمال؟ قمة النزاهة و الشفافية و أداء الأمانة للبر و الفاجر و الانضباط في العمل، قمة العدالة و تكافؤ الفرص و اعطاء كل ذي حق حقه، الكفاءة دون أستقامة لاتحقق الإنجاز بل هي سبب الفشل و الخسارة، لذا تعمد الشركات للبحث عن خلفية المتقدمين التاريخية قبل تعيينهم في المناصب العليا لللتأكد من سلامة سيرتهم من الانحراف المادي و الفساد الإداري و الأخلاقي، على المتقدمين للعمل في الشركات أن يدرسوا ثقافة الشركة و تاريخ مسؤوليها للتأكد من استقامة الشركة المالية و الإدارية قبل الإلتحاق بها، وعلى من يرغب مشاركة الآخرين في تأسيس الشركات و الأعمال دراسة تاريخهم و إستقامتهم و التأكد من نزاهتهم.
ماذا تعني الاستقامة في عالم الأفراد و المجتمعات؟ قمة التقوى و العفة و الشرف و الصدق و النزاهة و الأمانة و الحب للآخرين، عدم استغلال الجاه و المكانة للحصول على مكاسب ماليةٍ غير مشروعة او إقامة علاقاتٍ تخرق القيم الإجتماعية، القيمة الإجتماعية ليست بالمسميات و إنما بالإستقامة و التقوى، والإستقامة جوهرة ثمينة فلا تباع بأبخس الأثمان كالمال و الشهوة.
فعلى الأبناء و البنات صونها و الحفاظ عليها لأنها مطلوبة و أساسية لحياة الفرد و لأصحاب المال و الأعمال: (إن خير من أستأجرت القوي الأمين). و من تزل قدمه، فعليه الرجوع للإستقامة قبل فوات الأوان، الحذر من الإنسياق وراء المحتالين في وسائل التواصل الإجتماعي و غيره.
إن قلب الإنسان بحرٌ متلاطمٌ تصب فيها أنهارٌ ثلاثة: نهر العقل المطمئن بالعقيدة ومصدر التشريع، نهر الجوارح العاملة بالتشريع كما وضعه الخالق، ونهر النفس اللوامة التي تراقب الإنسان فتضمن الأستقامة في جادة القانون. وحين نضمن صفاء هذه الأنهار الثلاثة و عذب مائها يعم الخير و الرفاه: (و ألّوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقًا)، و نأتي الله بقلوب سليمة: (إلا من أتى الله بقلبٍ سليم).