الإنجاز بين الفرد والمجتمع (الجزء الأول)
د/ عبدالجليل الخليفة
من المسؤول عن الإنجاز و صناعة الحضارة، هل هو الفرد أم المجتمع؟ و من المسؤول عن تطوير الذات، هل هو الفرد أم المجتمع؟ هذا السؤال مهم جدا، فهل يتحمل الفرد المسؤولية أم يتركها على المجتمع؟ وهل تسن القوانين لمصلحة الفرد أم لمصلحة المجتمع؟ و إذا أردنا أن نرفع الإنتاجية ونحقق الرفاه، فهل يكون التركيز على الفرد أم على المجتمع؟
توجد ثلاث نظريات:
النظرية الأولى: تقول بأن الفرد هو الأصل، فهو المنجز وصانع الحضارة. فإنتاج المجتمع ما هو إلا مجموع إنجازات الأفراد. فالمجتمع يشبه مركبة صناعية كالسيارة، تتركب أجزاؤه من أفراد المجتمع. فكل فرد كأي جزء من السيارة يؤدي دوره ليتحرك المجتمع. فالأصل هو الأجزاء المختلفة التي تقوم بأدوارها، ويتكون من مجموعها المجتمع أو السيارة. وبناء عليه يجب احترام أصالة الفرد، وسن القوانين التي تحافظ على حريته في الاستثمار والإنتاج والاستهلاك، لأن مصلحته الفردية هي الأساس. أما المصلحة الاجتماعية فهي حصيلة مجموع مصالح الأفراد. وهذه هي القاعدة الفلسفية للنظام الرأسمالي.
تبلورت الرؤية لهذه الرابطة الميكانيكية بين الفرد والمجتمع منذ عهد آدم سميث عبر نظريته المعروفة في توزيع العمل، وهي ببساطة ترى أن الإنتاج يرتفع كثيرا حين يتخصص كل فرد بجزء صغير من العملية الإنتاجية. فمثلا لو فكرنا في مصنع للكراسي فهناك خياران هما:
الخيار الأول: أن يصنع الفرد لوحده أجزاء الكرسي المختلفة من مسامير و أرجل و قاعدة و خلفية ثم يجمعها.
الخيار الثاني: أن يتوزع العمل بين عدة أشخاص كل في تخصصه، فأحدهم يصنع الأرجل و آخر يصنع القاعدة وثالث يصنع المسامير، ثم تجمع هذه الأجزاء.
و هكذا برهن آدم سميث على أن الخيار الثاني أكثر سرعة وإنتاجية.
واستخدم هنري فورد نفس النظرية في صناعة السيارات، حين استفاد من فكرة خط التجميع، فكل مجموعة من العمال تتخصص في صناعة جزء من السيارة، وتضعه على خط التجميع، ليصل إلى مجموعة أخرى، فتضيف إليه جزءا، و هكذا حتى يتم تجميع السيارة في آخر خط التجميع.
ويؤيد توزيع العمل وخط التجميع فكرة أن الإنجاز الجماعي يعادل مجموع إنجاز الأفراد. ولذلك ركزت مبادئ الإدارة حتى منتصف القرن العشرين على ذات الفرد، وزيادة إنتاجيته في المصنع.
وقد رأى بعض المفكرين أن الحضارة ما هي إلا نتاج عدد قليل من المبدعين، وهم يستحقون بجدارة أن يجنوا ثمرة إبداعهم. فهم يرون أن التطور الحضاري يستدعي تشجيع المبدعين، واستثمار طاقاتهم اللا متناهية. ولذلك فلا مانع لديهم من أن يكون المبدع جشعا، فيحصل على نصيب الأسد من أرباح العملية الإنتاجية، و بهذا برروا النظرية الرأسمالية، وما نتج عنها من طبقية فاحشة في توزيع الثروة. ومن نتائج هذه المدرسة نشوء مدرسة تقدير واحترام الذات
(self-esteem) في الثمانينات والتي نادت بأنه من حق المبدع أن يشبع شهواته من ملذات الدنيا دون قيود، حتى يحرر طاقاته اللامتناهية، فتنتج مزيدا من الإبداع، راجع كتاب (Selfie، by: Will Storr).
ومع الأسف بنيت هذه النظرية على دراسات تم تحويرها، و نتج عنها الكثير من الانحرافات الخُلقية والأمراض النفسية كالنرجسية.
ولا شك أن الرأسمالية شجعت المصلحة المادية للأفراد، وأشعلت روح المنافسة، فنتج عنها التطور والرفاه الاقتصادي المعاصر. ولكنها أنتجت كثيرا من السلبيات، ونذكر هنا بعض الملاحظات:
١) إن هوية الفرد نتاج تفاعل مستمر مع محيطه الاجتماعي، فهي تتأثر بأسرته ومدرسته ومجتمعه وبالثقافة السائدة في عصره، بنسبة كبيرة قد تتجاوز ٥٠٪.
٢) المصلحة الفردية لا تحقق دائما المصلحة الاجتماعية، بل قد تتسبب بنقيضها كالاحتكار والغش.
٣) لبت الرأسمالية مطامع الأغنياء وغذّت جشعهم، وظلمت الطبقة العاملة. وخير مثال هو قانون الأجور الحديدي (ديفيد ريكاردو، عام ١٨١٧، وينص على أن أجور العمالة يحكمها العرض والطلب كأي سلعة استهلاكية، فحين يزداد عدد العمال عن الطلب، تنخفض أجورهم إلى أقل من الأجر اللازم لتوفير ضروريات الحياة، فيؤدي ذلك إلى سوء أحوالهم المعيشية، ومن ثم إلى موت عدد منهم. وحين يقل عدد العمال عن الطلب ترتفع أجورهم، وهكذا يكون أجر العمال عرضة لتذبذب العرض والطلب دون أي قيد على الحد الأدنى للأجور). و بعد معاناة وصراع طويل من قبل الطبقة العاملة، سنت قوانين تحترم بعض حقوقهم كالحد الأدنى للأجور و عدد ساعات العمل.
٤) أنتجت الرأسمالية طبقية فاحشة يملك فيها ١٠٪ أكثر من نصف الثروة، ويتحكمون في عملية الإنتاج برمتها.
٥) تحكمت الطبقة الغنية بصناعة القرار، فسنت القوانين المنحازة لمصالحها.
٦) الإدارة الميكانيكية التي ركزت على إنتاجية العامل فقدت بريقها في عصر المعلومات، التي لا تعتمد على إنتاجية العامل اليدوية، بل تحتاج إلى ثروته المعلوماتية. ولذلك تطورت الإدارة إلى نظم جديدة تحاول أن تلمس قلب الموظف، ولكنها بقيت مع الأسف محكومة بمبدأ الأرباح أولا، مما يؤدي إلى تسريح الكثير من العمال من حين إلى آخر.
٧) انتشرت فكرة جديدة تقضي بأن الهدف من الأعمال والشركات ليس زيادة أرباح المستثمرين فقط، و إنما رضا جميع أطراف العملية الإنتاجية، من مستثمرين وعمال ومجتمع وعملاء و غيرهم.
٨) نظام السوق المفتوح وأصالة الفرد المطلقة أثبتت فشلها في الدورات الاقتصادية المختلفة، فاضطرت الحكومات للتدخل بتريليونات الدولارات عام ٢٠٠٨ مثلا لمعالجة الآثار الوخيمة للسوق المفتوح، ونظرته الربحية قصيرة المدى.
و هكذا تبين أن نظرية أصالة الفرد كما أسست لها النظرية الرأسمالية غير صحيحة، ولذلك سنتطرق إلى نظريات أخرى في مقالات لاحقة إن شاء الله.