الإنجاز بين الفرد والمجتمع (الجزء الثالث)
د. عبدالجليل الخليفة
من المسؤول عن الإنجاز و صناعة الحضارة، هل هو الفرد أو المجتمع؟
استعرضنا في الجزء الأول النظرية الأولى وهي النظرية الرأسمالية التي نصت على أصالة الفرد و أنه هو المسؤول عن صناعة الحضارة، ثم ذكرنا في الجزء الثاني المناخات الفكرية والإقتصادية والدينية التي ولدت فيها النظرية الثانية وهي الماركسية.
وسنتحدث هنا عن بعض أفكار الماركسية، وسنكمل الحديث عنها في الجزء الرابع إن شاء الله.
المادية الجدلية:
أكدت فلسفة هيغل الجدلية دور الوعي الفكري في صناعة الواقع، حيث ينتقل الفكر بين المتناقضات و يركب بينها وصولا الى الفكرة المطلقة، والتي عرفت بالفلسفة المثالية. ثم جاءت مادية فيورباخ غير بعيدة عن فكرة ذرية المادة التي بشر بها الفيسلوف اليونان (الضاحك) ديموقريطس (٣٧٠ ق. م – ٤٦٠ ق. م)، والتي ترى أن المادة تتكون من أجزاء متجانسة صغيرة جداً لا يمكن تقسيمها.
وقد دعمها الفيسلوفان هيوم ولوك حيث أكدا أن إدراك الإنسان يتم عبر التجربة والمشاهدة بالحواس، ثم البناء عليها في نظريات علمية. وهكذا خالف فيورباخ أستاذه هيغل حيث رأى أن التطور الإنساني يتم عبر صراعه المادي و ليس عبر صراعه الفكري كما يرى هيغل. و لكن فيورباخ تحدث عن الإنسان المجرد بصورة عامة، و لم يتعرض لحركة الإنسان الإجتماعية.
فجاء كارل ماركس لينزل بأفكار فيورباخ الى حركة المجتمع و التاريخ، مؤكداً أن الواقع الإجتماعي هو الذي يصنع وعي الإنسان، و هذا عكس ما يراه هيغل بأن الوعي هو الذي يصنع الواقع الإجتماعي.
بإختصار، ترى الماركسية أن الكون مادي و يتحرك و يتطور تبعا للقوانين العلمية المادية و ليست تبعا للقوانين الغيبية و كذلك تتطور حركة المجتمع والتاريخ. لذلك يجب تطبيق القوانين العلمية على حركة المجتمع و التاريخ، ومن هذه القوانين التي يجب تطبيقها قوانين الجدل المادي.
الفرد والمجتمع في نظر الماركسية:
ترى الماركسية أن الإنسان كائن إجتماعي منتج، فالعمل و الإنتاج لتحقيق حاجاته اللا متناهية هو مايميز الإنسان عن باقي الحيوانات. كما أن لدى الإنسان قدرة ذهنية على التجريد، أي النظر الى ماحوله بهدف تحويله الى منتج يستفيد منه، فحين ينظر الى جذع الشجرة ينتقل ذهنه الى التفكير في صناعة الكرسي و الأثاث و غيره.
والإنسان في نظر الماركسية هو مجموع علاقاته الإجتماعية مع بقية أفراد المجتمع، و هو أيضاً أحد وسائل الإنتاج المهمة بالإضافة الى الأرض و المواد الخام.
ولذلك تربطه مع بقية وسائل وقوى الإنتاج علاقات يسميها ماركس بعلاقات الإنتاج كالملكية الفردية و طرق توزيع الثروة و التي تعتمد على وسائل الإنتاج الموجودة في المجتمع. و في كل حقبة تاريخية تتطور وسائل الإنتاج و ينقسم المجتمع الى طبقات حسب موقعهم و علاقاتهم في العملية الإنتاجية.
قوانين الجدل المادي:
و هي ثلاثة قوانين تنطبق على الطبيعة كما تنطبق على حركة التاريخ:
أولا:وحدة وصراع الأضداد، و هي أن كل ظاهرة في الوجود تحمل بذرة فنائها، أي تحمل ضدها ونقيضها بداخلها، مما يجعلها في حالة صراع مع نقيضها. و ينتج عن هذا التناقض و الصراع الداخلي، حالة تغير وحدوث مستمرة. و هذا الصراع قد يكون تناحرياً كما هو بين الماء و النار أو غير تناحري كما هو بين الأقارب.
ثانياً: تتراكم التغيرات الكمية حتى تصل الى درجة يصبح عندها التغير الكيفي حتميا. و المثال هو إرتفاع درجة حرارة الماء مع التسخين تدريجيا حتى يصل الى درجة الغليان فيتحول من حالته السائلة الى حالته الغازية كبخار ماء. ومعيار التحول هنا هو بلوغ الحرارة درجة الغليان. و هكذا ينشأ صراع جدلي بين حالة الماء السائلة السائدة حاليا و بين رغبة بعض جزيئات الماء للتبخر نتيجة الحرارة و يبقى هذا الصراع حتى يتبخر الماء.
ثالثًا: نفي النفي (او سلب السلب) و تعني استمرار التغير و التطور من مرحلة الى آخرى كحالة لولبية تتكون من حلقات متصاعدة، يدخل بعضها في البعض الآخر و ليست كخط طولي متصاعد. فكل مرحلة تنفي سابقتها لتأتي المرحلة التي تليها فتنفيها. و تحوي كل حلقة من اللولب المتصاعد الحالة السائدة و بداخلها بقايا الحالة السابقة كضد سلبي يحاول الرجوع الى الحالة السابقة، و كذلك تحوي بذور الحالة القادمة كضد إيجابي يحاول التغير الى الحالة التالية.
وحين ننتقل الى الحلقة التي تليها تتكرر حالة الصراع حيث تصبح الحالة التالية هي الحالة السائدة. و يضرب إنجلز مثالا على ذلك بمراحل تطور الفراشة حيث تنتقل من مرحلة البويضة الى الشرنقة ثم الى الفراشة الكاملة.
تطور وسائل الإنتاج عبر التاريخ:
بدأ الإنسان حياته البدائية بإستخدام يديه في عملية الإنتاج، ثم صنع الأدوات الحجرية للصيد، ثم القوس و السهام الحجرية للدفاع عن نفسه و للصيد، ثم المطرقة، ثم الفأس والمحراث اليدوي للزراعة، ثم العجلة والعربة التي تجرها الحيوانات، ثم السفن الشراعية، ثم الآلة البخارية و الماكينة والسفن و القطارات البخارية، ثم ماكينة الإحتراق الداخلي، ثم الكهرباء و السيارة، ثم الحاسب الآلي و الأنترنت و وسائل التواصل الإجتماعي و الروبوت و الذكاء الإصطناعي.
حقب الحركة التاريخية لدى الماركسية:
عاش الإنسان تاريخيا عبر المراحل التالية تبعا لتطور وسائل الإنتاج:
المشاعية البدائية:
بدأ الإنسان حياته البدائية في الصيد، حيث كانت علاقاته بسيطة وغير معقدة فلم تكن هناك كما يزعم ماركس ملكيات فردية. و تطورت الحياة تدريجياً فتعلم الإنسان الرعي ثم الزراعة، أي كيف يحرث الأرض و يزرع البذور و يرويها ثم يجني المحصول و يجري عملية تبادل مع غيره من الناس فيبادل محصوله برؤوس الأغنام مثلا.
العبودية:
أثناء الفترة اليونانية و الرومانية، ملك بعض الأسياد آلاف العبيد وسخروهم في الزراعة دون حرية او أجر مادي. الإقطاعية: ملك بعض الأستقراطيين الأراضي الكبيرة و عمل معهم الآخرين مقابل أجور زهيدة، و هذه هي حالة آوروبا في العصور الوسطى قبل القرن الخامس عشر الميلادي.
الرأسمالية:
أنشأت المعامل و أستخدمت الماكينة، وألتحق البعض بهذه المعامل كطبقة عاملة بأجر يومي او شهري بينما يحصل صاحب المصنع على فائض القيمة بعد بيع المنتج في السوق. و هذه هي الحالة السائدة الآن في أغلب الدول الغربية.
الشيوعية:
ماتبشر به الماركسية مستقبلاً؛ و هي المرحلة التي تنتصر فيها الطبقة العاملة و تلغى فيها الملكية الفردية و تنتفي فيها الطبقية.
البنية التحتية و البنية الفوقية لدى الماركسية:
يرى ماركس، أن وسائل الإنتاج في الطبيعة تؤسس علاقات إنتاج تتناسب معها. ويعتبر وسائل وقوى الإنتاج ومعها علاقات الإنتاج البنية التحتية في المجتمع، و التي تقوم عليها البنية الفوقية التي تتناسب معها و تتمثل في العلاقات الإنسانية كالفن و الدين و الأخلاق.
ويبقى الإنسان مؤثراً و متأثراً بوعيه في العملية الإنتاجية فيخترع و يبتكر و يؤسس لقوى ووسائل انتاج جديدة و لكنها تعود فتفرض عليه علاقات انتاج جديدة تحكمه و تؤثر فيه.
إن حجر الزاوية ومحور التغيير الإجتماعي هو تطور البنية التحتية من وسائل الإنتاج و مايتبعها من تغير في علاقات الإنتاج كالملكية الفردية وطرق توزيع الثروة، ونتيجة له تتغير البنية الفوقية كالأفكار و الثقافة و الأدب و الأخلاق فتفرض نفسها على الإنسان كفرد من أفراد المجتمع.
فالتغيير يحدث في البنية التحتية من وسائل و علاقات الإنتاج و هو الذي يسبب التغيير في البنية الفوقية من أفكار الإنسان ووعيه و ليس العكس. وكما يقول الماركسيون: إن واقع الإنسان الإجتماعي هو الذي يصنع وعيه وليس العكس، وهذا هو لب المادية.
بقي علينا أن نتحدث في الجزء الرابع عن: المادية التاريخية، و تطبيق الماركسية على الإقتصاد الرأسمالي كمثال عملي، و أخيراً التقييم الموضوعي للنظرية الماركسية بناء على فلسفتها الفكرية و تطبيقها العملي طيلة القرن الماضي.