الأربعينية ( بطل المكان)
علي عيسى الوباري
العلاقة الروحية مع الرموز تنمو زمانياً كلما تعمقت في معانيهم وصفاتهم السامية، يتسع الفؤاد كلما امتد فضاء الرمز وتنظر العين إلى شعاع نوره الصاعد إلى السماء، لا يسأل المحب عن أسباب حبه ولا يعنيهه كل علامات الاستفهام كلما اشتد حبه وتعلقه به، يتوق للتعبير عن هذا الولاء بعدة طرق خصوصا إذا كان المعشوق يحدد هوية المحب ويمثل أحد رموز عقيدتيه، التعبير بالولاء والحب تتم بكل الأوقات والأماكن، للزمان مناخه وشعائره حين التعبير للمحبوب، وللمكان أضاءته وظلاله حين يترجم له ولاءه بسردياته وحركاته.
للوقت روح تخلق جو الانسجام بين المحب والمحبوب وللموقع حرم ينبض للساعي يرتل كلمات الاستقبال للقاصد.
علماء الفيزياء يقولون أن هناك رابط بين المكان بالزمان من خلال الحركة ( المشي) فالانتقال من مكان إلى آخر له مدة زمنية،إنشتاين يرى الزمان والمكان نسبيان، فكل إنسان بمقدوره يلاحظهما ويشعر بهما حسب إدراكه وحساب ما يرى فيهما من ذكريات وارتباط بهما وبشخصياتهما.
الكائنات الحية تشعر بالزمان والمكان من خلال تغير الجو، تجد الطيور تحلق في الفضاء وتهاجر مسافات طويلة على شكل أسراب ملفتة وجاذبة تسبح بالفضاء تنتقل من مكان إلى موقع مُستهدف بمدة محددة تمكث فيه فترة معينة لأن المكان حاضنة لاستمرار حياتها، تعتبره موقع مقدس فهو مصدر الأمان والدفء والغذاء. يستمد المكان قدسيته من خلال معلمه وبطله كما يسموه كتاب الرواية والنقاد، وللزمان خصوصية مقدسة إذا سكنه رمز، يتضمن أفعال وأقوال ودلالات تجذب الزائر، مثل الحج زمان ومكان ومدة محددة يرتبط بها الحاج يؤدي فيه مناسك الحج والعبادة التي تتضمن مشي وحركة بمكان محدد وزمان معين.
سيموطيقيا المكان تختلف النظرة لها من شخص إلى آخر، في جماعات مسكونة بالمكان وذاكرتها مملوءة بحدث ورموز المكان وبآثارها وأطلالها، المسكون بالمكان والتاريخ ذاكرته حية يبقى خياله متعلق بعلاماته وبما يذكّره وينعشها، فكل مكان له أحداثيات وأبعاد مادية ومعنوية يعرف بها ويستدل حين التوجه إليها، فالموقع يتميز ويسمو بأشخاصه وبما قدموا.
تتعزز العلاقة برمز المكان بما يحمل من رسالة وأهداف ومعاني، بعض المواقع تصبح لدى مرتاديها مقدسة تتلهف اليها القلوب مع تراكم الزمان، فكيف برمز مكان وزمان نصت عليه نصوصا دينية وعلى خصوصية زيارته واستحباب احيائها بالشعائر.
كل مكان يتكلم بما يحتويه ويتضمنه من أرواح مادية ومعنوية، يتحدث عن علاماته فالمكان ليس فارغا، فمثل ما يمثل السكن من راحة وهدوء للساكن، تبقى الأطلال قائمة في ذاكرة من ترتبط به علاقة روحية، رموز المكان ملتصقة بالفؤاد، صور الحيز تتجدد بالذهن والخيال يزداد خصوبة كلما تعلق به القلب، كما أن الفلاح يقدس مزرعته لأنها مصدر رزقه التي وطئت قدمه في ترابها وامتزجت طينتها بيديه، فمكان الشهيد والمضحي مقدس بروح من استشهد، كما هو في قبر الجندي المجهول الذي يعتبر رمزا لكل الشهداء للجماعة وللوطن يزار سنويا من قبل المحبيين والوفود الرسمية فهو مصدر إلهام بروحه وبما قدمه من تضحية ليبقى غيره كريما مصانا.
المكان التراثي له أصل في الشعر العربي بأيحاءاته ودلالته للشاعر من خلال اللقاءات مع من يحب ويعشق أو ذكرى رمزية لبطولات البطل تمثل ساحة شجاعته وكرامته وإيبائه، المكان يشتم منه روح الأنسنة والتضحية ويمثل المبادئ الدينية والقيم الإنسانية، المكان يتحرك ويمتد بأحداثه وتداعياته وشخوصه الأبطال، بعصرنا الحالي بعدما عمرت مساكن ومدن أبيدت بحروب مثل هيروشيما لكن بقيت آثارها تحيا ذكراها السنوية بشهدائها وبدلالاتها.
المكان ذاكرة حية ناطقة موثقة نداءات أصحابها ومسجلة صدى شهدائها ينادوا من سكنوا في قلوبهم وبمخيلاتهم، يروا في الشهادة روح باقية ممتدة ببقائهم وسر عظمة كيانهم وتمثل هويتهم الجماعية تحكي عن عقيدتهم، فيسافروا لها مشيا ويتحركوا بزمان ومكان معروفين بالمشي المقصود والمعنون بروح الشهادة والفداء والتضحية.
المتخيل الجمعي يعاضد بعضه البعض يعزز ما فهمه المشاة من مناجاة وأدعية ونصوص دينية تحث على الامتثال للفعل العبادي بشكل جماعي، الحدث الجمعي فيه قوة تماسك وتشجيع للممارسين الفعل يتحركوا بأجسادهم وتلهج ألسنتهم وتنبض قلوبهم على وقع أصوات أفواههم وأقدامهم.
بحضور الحشود إلى أرض كربلاء بالأربعين يرتوي جذور الارتباط بين الزمان والمكان وتنمو العلاقة برمز المكان الإمام الحسين عليه السلام.
يعبر بالمعنى إرفنج جوفمان عندما يكون الشخص في مشهد جماعي فإنه يجتهد لأستكشاف حقيقة الموقف من خلال الآخرين، الآخرون ينجذبون لمظاهر الواقع الجماعي وما يتضمن بأنبهار حتى لو لم يدركوا كل معاني الحركة والمسير .