أرشيف

رسالة مفتوحة إلى الحوزة الاحسائية

عبدالله السيد هاشم العلي

تزهو الحضارات والمجتمعات بوجود العلماء فيها؛ فالعلماء هم روافد المجتمع ودعامة رئيسيّة فيه؛ فهم الّذين يحملون أمانة العلم والمعرفة للبشرية، وهم المنارة التي تهتدي بها المجتمعات إلى ما فيه الخير والسعادة.

إنّ التّقدم في أي مجتمع من المجتمعات يقاس بعدد العلماء وحجم الدّور الذي يقومون به في المجتمعات؛ فالمجتمع الذي يحترم علماءه ويجلّهم ويدعمهم هو مجتمع بلا شكّ يسعى للرّقي والتّقدم، بينما المجتمع الذي لا يحترم علماءه ويهملهم ولا يعطيهم الدّور الذي يستحقونه هو مجتمع متخلّف عن ركب الحضارة والتّقدم.

لذا جاءت رسالة الإسلام لتؤكّد على أهميّة العلم ومكانة العلماء؛ ففي الحديث الشّريف: من سلك طريقًا يبتغي به علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنّة.

وفي الحديث الآخر كذلك تفضيل للعالم العارف على العابد الذي يعبد الله تعالى بدون علم، فقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنه قال: فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.

لقد جاء الأنبياء والمرسلون بعلم ورسالات وشرائع؛ فكان العلماء من بعدهم من يرث ذلك كلّه ليعلم النّاس أمور دينهم ودنياهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فهم ورثوا علماً تنتفع به الأجيال.

قد جاءت الشّريعة الإسلاميّة لتُعلي من شأن العلماء وترفع قدرهم ومكانتهم بين النّاس، وقد ذَكر الله سبحانه وتعالى في كتابة العزيز فضل العلماء من وجوه عدّة؛ فهُم من أخشى فئات المؤمنين لله تعالى وخوفاً منه واستشعاراً لعظمته وقدرته، قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، ذلك بأنّ العلماء يطّلعون على أسرار قد لا يعلمها كثيرون من أسرار الكون والحياة التي تدلّ على عظمة الخالق، كما تتوسّع مداركهم وآفاق تفكيرهم بزيادة العلم عندهم عن غيرهم من النّاس، ومن زاد علمه بالله ومعرفته به زادت خشيته منه.

كما بيّن الله سبحانه وتعالى علوّ قدر العلماء عنده، قال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، فالإنسان يرتفع بعلمه درجات عند ربّه، لهذا جعل الله سبحانه وتعالى العلماء المرجع للنّاس في شؤون حياتهم واختلافاتهم، قال تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)، فالعلماء هم من يستنبطون من المسائل والأمور ما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم ويُصلح حالهم ويحسّن اختلافاتهم.

ولا شك أن بيان فضل العلماء يستلزم بيان فضل العلم؛ لأن العلم أجلُّ الفضائل، وأشرف المزايا، وأعزُّ ما يتحلى به الإنسان، فهو أساس الحضارة، ومصدر أمجاد الأمم، وعنوان سموها وتفوقها في الحياة، ورائدها إلى السعادة الأبدية، وشرف الدارين.

وحيث كان العلماء الربانيون متخصصين بالعلوم الدينية، والمعارف الإسلامية؛ قد أوقفوا أنفسهم على خدمة الشريعة الإسلامية، ونشر مبادئها وأحكامها، وهداية الناس وتوجيههم وجهة الخير والصلاح؛ فجدير بالمجتمع المؤمن أن يستهدوا بهم، ويجتنوا ثمرات علومهم، ليكونوا على بصيرة من عقيدتهم وشريعتهم، ويتفادوا دعايات الغاوين والمضللين من أعداء الدين.

يقول الشاعر:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهـم
على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه
والجاهـلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعـش حيـاً به أبداً
الناس موتى وأهل العلم أحياء

وجميع ما ذكر في فضيلة العلماء إنما هو في حق العلماء الربانيين المتقين, الذين قصدوا بعلمهم وجه الله الكريم، ومن مصاديق هؤلاء العلماء سماحة العلامة السيد محمد علي السيد هاشم العلي رضوان الله عليه الذي افتقدته الحوزة الاحسائية والمجتمع الاحسائي قبل بضعة أيام، والذي كان يتسم بعلو الفكر وسمو الروح مع صفاء النفس ونقاء القلب، هذه الجوهرة مع الأسف الشديد لم تكتشف من قبل الحوزة الاحسائية بالشكل الذي يليق بها، فبالرغم من وصولها إلى درجات من الكمال في الاعتقادات والأخلاق والأعمال والولاء والحب لأئمة أهل البيت عليهم السلام إلا أنها تعرضت لطعنات الأقلام وسياط الألسن وسهام القوافي من المنتسبين لسلك العلم والعلماء دون أن تحرك الحوزة ساكناً.

وقد يتساءل البعض عن سبب عدم الاهتمام بأمثال هؤلاء العلماء رغم انهم يحملون على أكتافهم مسؤولية النهوض بالمستوى العلمي والفكري والديني لأبناء المجتمع وتكريمهم في حياتهم والذود عنهم، ليقدموا لنا تجاربهم الغنية بالمآثر لانه لا احد افضل منهم يستطيع ان ينقل للتاريخ والأمة ما يدور في ذهنهم من مشاريع وفي قلبهم من آلام وفي عقلهم من آمال وما مروا به من معاناة وانجزوا من عطاء.

والجواب عن التساؤل يكشف لنا عن مستوى القصور في معرفة امثال هؤلاء العلماء، إنه بقدر أهمية العلماء الربانيين وحاجة الأمة إليهم يتبين خطر غياب دورهم أو تغييبه، فإن الثغرة التي هم عليها لا يسدُّها غيرهم، يقول الشاعر:

إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى
فَقَدْ ثُلِمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَهْ

وإذا كان فقيدنا السعيد لم ينل التكريم الذي يستحقه في حياته بل بالعكس حاول البعض النيل منه بشتى الوسائل بالرغم أن ما كان يطرحه من آراء علمية حول بعض المسائل ممارسة طبيعية لمقامه العلمي، فإنه يجدر بالحوزة العلمية الاحسائية تكريمه وتقديره بعد موته بالمستوى الذي يليق به وبما قدمه للحوزة وللمجتمع، إيماناً بدوره المتميز في إثراء الساحة العلمية والدينية وإلتزامه بالقيم الاسلامية، ولتصحيح الوضع السلبي الذي كانت عليه الحوزة العلمية الاحسائية اتجاه هذه القامة العلمية، لذا اتمنى على الحوزة العلمية الاحسائية ان تقوم بعدة خطوات:

أولا: اطلاق اسم الفقيد السعيد على القاعة التي كان يشغلها بالتدريس والبحث فيكون مسماها مدرس العلامة السيد محمد علي العلي.

ثانياً: وضع صورته المباركة في القاعة ليتسنى لكل من يستفيد من القاعة في الدرس والتدريس استذكاره وقراءة الفاتحة لروحه الطاهرة.

ثالثاً: تبني طباعة مؤلفاته بعد تحقيقها وإخراجها بالشكل الذي يليق بمكانته العلمية.

رابعاً: تكليف طلاب البحوث بكتابة البحوث والمقالات العلمية حول شخصيته العلمية والقيادية والأدبية وخصائصه النفسية.

خامساً: تخصيص جائزة علمية باسمه يكرم من خلالها الطلاب المتفوقين والاساتذة المبدعين في الحوزة في نهاية كل عام دراسي.

إنني أؤكد على ضرورة تفعيل هذه الخطوات المهمة، لما لها من دور كبير في أداء بعض حقوق هذه القامة العلمية وشحذ الهمم لطلاب الحوزة وإرجاع البوصلة للاتجاه الصحيح، لذا اتمنى أن تتوج هذه الخطوات قبل يوم اربعين الفقيد السعيد، وكما قيل أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل أبداً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى