الموسى: الإصلاح يثمر التآلف والخصام يدمر المجتمع
مالك هادي – الأحساء
“بِقَدْرِ ما تَكثُرُ بين النَّاسِ المنازعاتُ، وترتفِعُ في مجالِسِهِمُ الخصوماتُ، ويتهدَّدُ بناءُ الأُسَرِ والبيوتاتِ، وتَسُوءُ علاقاتُ الأفرادِ والجماعاتِ، بقدرِ ما تكثُرُ ميادينُ الإصلاحِ وتَتَّسعُ حلُولُه وتتعدَّدُ أساليبُهُ وطرقُهُ”. بهذا افتتح سماحة الشيخ عباس الموسى إمام مسجد الإمام الكاظم عليه السلام ببلدة العمران في الأحساء حديثه يوم الجمعة الماضي، متحدثا عن مفهوم الإصلاح وأهميته.
وذكر الشيخ الموسى أن القرآنُ الكريمُ استعرَضَ الإصلاحِ في مواضعَ متعددةً، كالإصلاحِ في الأسرةِ، وبيتِ الزَّوجيةِ، ودوره المهم في الحفاظِ على ذلك الكَيَانِ قبل اسْتِعْصَاءِ الحلولِ وتفاقُمِ المُشكلاتِ.
والإصلاح بينَ أصحابِ الحقوقِ، في الوصايَا والأوقافِ والولاياتِ، إسهاما في حفظِ عقودِهم ومعاملاتِهِمْ، ورعايةِ شؤُونِهِمْ، وصَوْنِها مِنَ الجَوْرِ والانحرافِ، ومِنْ تعرُّضِها للإهمالِ والضَّياع.
وأكد الموسى بأن أوَّلِ خطوةٍ نحو التَّغييرِ والإصلاحِ هي تصحيحُ النِّيَّةِ، وتسخيرُ القصدِ، لابتغاءِ مرضاةِ اللهِ وحدَهُ، وتجنُّبِ الأهدافِ الشَّخصيةِ، والأغراضِ الدُّنيويةِ الزَّائلةِ.
وأشار سماحته إلى ما نواجهه مِنَ خلافاتِ ومشاكلِ، في حياتِنا الاجتماعيةِ والعمليةِ، والتي تؤدِّي إلى الخِصامِ والتخاصُمِ، وقال: “ففي البيتِ مثلًا ربما يحدُثُ خلافٌ بينَ الزوجِ وزوجتِهِ، وربما قارَبَ الطلاقَ، وبينَ الإخوانِ قدْ يحدُثُ خلافٌ يؤدِّي إلى التخاصُمِ، بسببِ سوءِ تصرُّفٍ أو بسببِ اختلافِ الزوجاتِ والأولادِ، أو بسببِ بعضِ القضايا النفسيةِ، أوِ الماليةِ أوِ الاقتصاديةِ والإرثيةِ.
وفي دائرةِ العملِ كذلكَ قد يحصُلُ خلافٌ يؤدي إلى الجِدالِ، وقدْ تحدُثُ المشاكلُ بينَ الجِيرانِ، أقلُّها يقِفُ أحدُهُمْ أمامَ بيتِ الآخرِ فيتضايق… التخاصم يحصل بأيِّ شكلٍ.
وقدْ تحدُثُ المشاكلُ بينَ ناشِطَينِ اجتماعِيَّيْنِ فيتخاصمانِ ولا يلتقيانِ في أيِّ عملٍ، ولا يتعاونانِ في أيِّ مشروعٍ.
ولا ريبَ أنَّ الشِّقاقَ والخِلافَ مِنْ أخطرِ أسلحةِ الشيطانِ الفتاكةِ، الَّتي يوغِرُ بها صدورَ الخلقِ، لينفصِلُوا بعدَ اتحادٍ، ويتنافروا بعدَ اتفاقٍ، ويتعادَوا بعدَ أُخوَّةٍ.
وأكد أن هذِهِ الخلافاتُ غالبًا ما تكونُ في بداياتِها اختلافًا بسيطًا، يمكنُ تَلافِيهِ لوْ أحسنَ الناسُ التصرُّفَ، ولكنَّ الشيطانَ يَأبَى أنْ يتحقق جسم فلالتوافُقَ والتلاؤُمَ بينَ المؤمنينَ، ومع إن توارُدِ الخلافاتِ والنزاعاتِ يحدثُ في القلبِ ألما وحزنا، ولهذا كانَ لا بدَّ أنْ نسعَى للإصلاحِ بينَ المتخاصِمِين.
كما حذر الشيخ الموسى من تأخر البعض عَنِ الإصلاحِ بينَ المتخاصِمينَ بحجةِ عدمِ التدخُّلِ في شؤونِ الآخرينَ، فالأب لا يتدخلُ لإصلاحِ الخللِ بين ابنتهِ وزوجِها، حتى حصلَ الفراقُ بينهُما، والأخٌ لا يتدخَّل للإصلاحِ بينَ إخوتِهِ وأخواتِهِ، وهذا جارٌ يَرى ما يحصُلُ مِنْ خلافٍ بينَ جيرانِهِ ولا يتحركُ، مما أوصل الخلاف إلى تفرقَ القلوبُ وامتلائها حِقداً وبغضاءَ على بعضِها.
وأوصى سماحة الشيخ الموسى بعدة وصايا لكل متخاصمين، سواء كانا زوجينِ أوْ أخَوَيْنِ أوْ جارَيْنِ أوْ صديقين، أوْ حتَّى طائفتَينِ وفرقَتَيْنِ. فقال. “لا بدَّ أنْ نُدرِكَ أنَّ الخلافاتِ بينَ الناسِ قدْ تقودُ إلى نتائِجَ سلبيةٍ مدمِّرةٍ للمجتمعِ، فالخلافاتُ بينَ الزوجَينِ قدْ تؤدِّي إلى الطّلاقِ، أوْ إلى تمزُّقِ الأسرةِ وضياعِ الأولادِ، إضافةً إلى الانعكاساتِ السلبيّةِ على كلٍّ مِنَ الزوجِ والزوجةِ معاً.
والاختلافاتُ داخلَ الأسرةِ الواحدةِ بينَ الأبِ وأولادِهِ، أوْ بينَ الأمِّ وأولادِها، ربَّما تؤدِّي إلى أنْ يهجُرَ الأبُ أولادَهُ، أو يهْجُرَ الأبناءُ آباءَهُمْ، أوْ أنْ يتعاطَوا معَ أهلِهِمْ بالقسوةِ، ويتحولُ الحالُ؛ فبعْدَ المحبةِ والصفاءِ تحُلُّ العداوةُ والبغضاءُ، وبعدَ القُرْبِ والوِصالِ تكونُ القطيعةُ والهجرانُ، ويصبِحُ أصدقاءُ الأمسِ أعداءَ اليومِ والمستقبلِ، وهذا ما حرَّمهُ اللهُ في العلاقةِ معَ الأهلِ، وقدْ رأَيْنَا الكثيرَ مِنَ الآباءِ يهجُرونَ أُسَرَهُمْ، ولا يتحمَّلونَ مسؤوليَّتَهُمْ.
وفي وصيته الثانية قال: “نعلَمَ أنَّ البقاءَ على الاختلافِ والتخاصُمِ يؤدِّي إلى عدمِ قبولِ اللهِ لأعمالِ الإنسانِ العباديةِ وخصوصًا الصلاة، كما في الروايةِ عنْ رسولِ اللهِ (ص): “خَمْسَةٌ لَيْسَ لَهُمْ صَلَاةٌ … وَمُصَارِمٌ لَا يُكَلِّمُ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ…”، وقدْ ندَّدَتِ الشريعةُ بالتخاصُمِ والهَجْرِ بينَ المؤمنينَ لأكثرَ مِنْ ثلاثةِ أيامٍ، فقدْ ورَدَ في الصحيحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): “لَا هِجْرَةَ فَوْقَ ثَلَاثٍ”.
وفي الوصية الثالثة أكد الشيخ الموسى على ضرورة أنْ يَكْسُرَ المتخاصِمانِ الحواجِزَ بينهُما، وأنْ يُقبِلَ أحدُهُما على الآخَرِ، وقال: “ربما يقولُ بعضُهُمْ: كيفَ لي أنْ آتِيَهُ وقدْ ظَلَمَني وتحدَّثَ عنِّي وسلَبَنِي حقِّي حتَّى اضطُرِرْتُ إلى مخاصمتِهِ، هُنا يأتِي فنُّ التعامُلِ في حالِ التخاصُمِ”.
ثم وجه سماحته وصايا لعمومِ الناسِ الذين يرونَ التخاصُمَ بينَ أيِّ فردَيْنِ وبأيِّ نحوٍ مِنَ الأنحاءِ، هلْ يَبقَونَ متفرجين، حتى يتطورَ الخِلافُ ويحصلَ التباغض والتناحُرُ بينَ المتخاصِمَينِ.
وأكد في وصيته على أن الإسلام حرِصَ على وحدةِ المسلمين، وأكَّدَ على أُخُوَّتِهِمْ، وأَمَرَ بكلِّ ما فيهِ تأليفٌ لقلوبِهِمْ، ونهى عنْ كلِّ أسبابِ العداوةِ والبغضاءِ. فقدْ أَمَرَ بالسعيِ في إصلاحِ ذاتِ البينِ بينَ المتخاصِمِينَ، وحثَّ عليهِ، وجعلَ درجتَهُ أفضلَ مِنْ درجةِ الصيامِ والصدقةِ والصلاةِ. وذلك لأنَّ الصلاةِ تخص الشخص المكلَّف بالصلاةِ، وكذلِكَ الصوم، ولكنَّ الفتنةَ التي تحصلُ بينَ أبناءِ المجتمعِ، قدْ تؤدِّي إلى نتائِجَ سلبيةٍ على المجتمعِ والأمة، فالمفسدَةَ التي تترتَّبُ على الاختلافاتِ الحادَّةِ بينَ أفرادِ المجتمعِ، أكثرُ مِنَ المفسدةِ التي تحدثُ نتيجةَ عدمِ التزامِ بعضِهِمْ بالصَّلاةِ والصيامِ.