فتوى .. الجهاد الإلكتروني فرض كفاية
كمال الدوخي
هناك أهمية كبرى للتأثير على أي مجتمع من خلال ما ينشر من محتوى في مواقع التواصل الاجتماعي، فمع تراجع واضح لتأثير القنوات الفضائية على رأي الجمهور، وصعوبة خلق رأي عام مؤثر دون الاستعانة بمواقع التواصل، لجأت الكثير من القنوات لمواقع التواصل وبث برامجها، في مقاطع تناسب ذائقة المتلقي، الذي يكتفي بدقيقة إلى ثلاث دقائق للحصول على المعلومة.
واستطاعت الحكومات والأحزاب والقوى المؤثرة في أي مجتمع أن تشبع المحتوى الرقمي بلغة تناسب توجهها، للتأثير على الرأي العام، واستقطاب الأنصار، والتأثير على الخصوم، وإيصال صوتها بعيداً عن القنوات والصحف الرسمية، التي كانت تمسك بزمام التوجيه والتأثير على الشعوب.
مع أحداث الربيع العربي، انطلق ما يسمى بالجيوش الإلكترونية، والتي كانت تقوم بالتأثير والتشويش وعمليات الهكر وسرقة المعلومات. ومن أشهرها الجيش السوري الإلكتروني، ويبدو أن الفكرة مستعارة من جيوش الهاكرز الإلكترونية الفلسطينية والتي كانت تقاوم إسرائيل عبر ما يسمى بالجهاد الإلكتروني. إلا أن الفكرة أصبحت ملهمة، لدول غربية وعربية، لتمرير أفكار ومعتقدات من خلال بث محتوى رقمي يمهد أو يطرح تلك الأفكار والمعتقدات كأمر واقع لا مفر منه.
وبالفعل استطاع هؤلاء كسب الجولات الأولى لحربهم الإلكترونية، وأصبحت مواضيع لم يعهدها المجتمع منها الجنسية، ومعتقدات إلحادية تطرح وتناقش ويك أنها حقيقة مسلم بها، وسبق أن نشرت صحيفة الحياة عن ٢٥ ألف حساب على تويتر، تستهدف السعودية، من خلال بث محتوى إلحادي ولاديني ومقاطع إباحية، والسخرية من الرموز والنصوص الدينية وعادات المجتمع وتقاليده. كما ذكر عضو مجلس الشورى السعودي الباحث والمستشار في استخدامات الإعلام الجديد الدكتور فايز الشهري عن وجود أكثر من 4500 حساب تختص بنشر الإلحاد موجهة للسعوديين.
يقول الألماني جوزيف جوبلز مهندس ماكينة الدعاية الألمانية النازية: «اكذب، اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس»، كذلك كرر أي فكرة حتى يصدقها الناس، وتصبح مسلمة من المسلمات، بل أصبحنا لا نبالي من مقاطع تسخر من الدين وأهله، ومن المجتمع وعاداته، وتروج للإباحية وتتداول باستخفاف بيننا عبر (الواتساب)، لتسقط الرمزية، وتتساقط القيم والأخلاق، بمزاعم الحرية التي يتحدث عنها أجهل الناس بها. وعندما نذكر جوبلز، فإني أشيد بذكاءه واستغلاله الوسائل المتاحة له للتأثير على العرب في القرن الماضي على الرغم من أن التأثير على العرب لا يحتاج لعبقري، وذلك من خلال اذاعة موجهة للبلدان العربية، بثت اشاعة أن هتلر اعتنق الإسلام وأن أصول هتلر عربية وأنه هاشمي، وسيأتي لتحرير العرب من الإمبريالية واليهود، وكيف تواصل مع هتلر شخصيات اسلامية شيعية وسنية، ولعل أبرزهم إمام المسجد الأقصى الشيخ أمين الحسيني، بل ألتقوا به وسلموه رسائل الأمة المهزومة المكلومة للقائد المنقذ.
هذه حروب تستهدف العقل، وتعيد برمجته وفق رؤية يراد منها أن تصبح واقع دون أدنى مقاومة، عندما أصيبت مصانع التبغ الأمريكية بخسائر نتيجة مقاطعة عالمية لها، روج الاعلام الأمريكي أن تدخين المرأة يدل على تقدمها ورقيها، وهكذا بعد أن كان الدخان حكراً على الرجال، أضاف الاعلام زبائن جدد للتبغ من نساء صدقن الكذبة، وذهب النساء خلف الموضة.
في القرن السادس قبل الميلاد، وفي كتاب “فن الحرب” للقائد العسكري الصيني البارز سون تزو ذكر أن أفضل انتصار هو الانتصار دون خوض المعارك،
وقال “إن أعظم فن لشن الحروب يتلخص في استهداف عقول الأعداء لا على مدنهم”. وهكذا يفعلون، من خلال سلخ المجتمع المسلم عن هويته وتشكيكه في دينه وقيمه، واعتبار كل موروثه الحضاري والثقافي هو دليل على التخلف.
ولعل أهم أسباب كسبهم الجولات الأولى في هذه الحرب الإعلامية هي الصدمة التي أصابت المحافظين، مما أربكهم. فالبعض واجهها بلغة ضعيفة وبسيطة لعدم امتلاكه الأدوات المناسبة، والبعض الآخر ابتعد عن هذه المواقع في ظنه أنها الخطوة المناسبة في ظل هذا العراك والمخاض الاجتماعي.
والحقيقة وجب علينا اشباع المحتوى الرقمي بلغة دينية وسطية راقية جامعة قادرة على مواجهة هذا الإسفاف والانحطاط، دون الدخول في مواجهة مع أي طرف، واستثمار مواقع التواصل لنشر الوعي الديني الحقيقي بعيداً عن الانغماس في تفاصيل ظاهرية ليست من الدين ولا العقيدة في شيء، والتركيز على الأخلاق الإسلامية، وفلسفة الاخلاق في الإسلام وإعادة تقديمه لأبناء الأمة، بما يناسب التحولات الاجتماعية.
إن أهمية إحاطة انفسنا ومجتمعنا برؤية دينية وسطية معتدلة، لا تعني أن نفرضها على الآخرين وإنما نمارس معتقداتنا وفق الأنظمة والقوانين التي تفرضها علينا البلاد التي نستوطنها أو نقيم فيها في شتى أرجاء العالم.
كما أجد أن تخفيف الصراعات البينية داخل المذهب الواحد، وبين الطوائف الإسلامية، هي من أوجب الواجبات في ظل هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الدين الإسلامي، بداية بتشويه الإسلام بابتكار الدولة الإسلامية (داعش)، ثم استثمار البشاعة التي خلفتها تلك الدولة اللقيطة، باشباع المحتوى الرقمي العربي على وجه الخصوص والعالمي بأفكار الإلحاد والشذوذ الجنسي.
حان الوقت لتقديم محتوى عربي وإسلامي مكثف يعزز من هويتنا الدينية والاجتماعية وانتماءاتنا القومية، عبر مواقع التواصل وعبر الصحف الإلكترونية، وصناعة ملتميديا تعيد إلينا ما أفقدتنا إياه هذه الهجمة الشرسة والغير مسبوقة في التاريخ الإسلامي، فغياب هذا المحتوى، جعل البديل محتوى شاذ وإلحادي.
ومن باب الدعابة، إن كان الجهاد فرض كفاية في الحروب التقليدية، فنحن الآن في حرب إلكترونية شرسة، فرضت علينا الجهاد الإلكتروني؛ لحماية مكتسباتنا الدينية والهوياتية.