أقلام

لنكتب ذكريات جميلة مع أبناءنا

أمير الصالح

مازلت أتذكر معظم تفاصيل حياتي في طفولتي لكونها ولله الحمد حياة جميلة، ولا سيما ما رسمه والداي العزيزان بمهارة تربوية فطرية. فمازلت أتذكر أنه بعدما تهطل السماء بالأمطار المباركة كما في هذا الموسم، يأخذنا أبي إلى أطراف مدينة الأحساء، للتنزه على بعض الكثبان الرملية، أو تناول وجبة الغداء، المعدة من قبل والدتي، وتناول الوجبة في منتزه الأحساء الوطني أو على سفوح جبل كنزان.

في أجواء الربيع يفاجئنا والدي في بعض السنين بإعلانه السفر جميعا إلى دولة الكويت، لزيارة بيت خالي العزيز (وهو بيت عمتي الغالية في ذات الوقت). القاطن يومذاك بدولة الكويت. امتلأ دفتر الذاكرة الجماعية بي و بجميع إخواني وأبناء خالي (أبناء عمتي) من جيلنا وصاعدا بذكريات جميلة، حتى أصبحنا نمتلك مشاعر الامتنان والوفاء والعزوة في جنبات الأسرة الكبيرة.

ما استنهض ذاكرتي لكتابة هذه الأسطر مشاهدتي حديثا لـ فيلم القاضي “The Judge”، حيث وجدت عمق الشرخ (والتشره)، وسعة مساحة القطيعة القائمة بين القاضي الطاعن في السن، وبين ابنه المحامي المخضرم (بطل الفيلم)؛ تلك القطيعة الممتدة لعقود، نتيجة فشل كل منهما في خلق ذاكرة جماعية جميلة، وبقاء كل منهما حبيس مشاهد الفشل في ذاكرته، وسوء تصرف الآخر بحقه.

لعل موسم الخريف والربيع من أجمل شهور السنة، للقيام بالرحلات، وحفلات الشواء وأنشطة متعددة في جو مفتوح (outdoor) وترتيب جلسات تسامر أسرية تعزز روح الانتماء، وترسم ذاكرة جماعية جميلة، تنعكس على روح الأبناء المشاركين لعقود طويلة.

وللحق فإنه يوجد أشخاص مميزون في أخذ زمام المبادرة، لجمع أبناء أسرته أو أبناء حمولته، أو محلته، دونما منّ ٍأو تصادم، وهو عمل يستحق التسابق عليه، لأثره الطيب في النفوس.

إن فصل الصيف الحار والشتاء القارس يمكن أن يتخذ كمبرر لعدم القيام بأي رحلات خلوية، لكنه لا يمنع من عقد أنشطة أسرية متعددة داخل مجالس المنازل، أو في الأقبية، إن توفرت، وهذا كاف لتعزيز العلاقات بين كل مكونات البيت الواحد، والبيوتات الأسرية الكبيرة ذات الأجيال المختلفة.

في الشتاء القارس في بعض مدن الشمال الأوربي يلتفون حول المدفئة، ويروي كل منهم ما في جعبته من قصص واقعية، تتضمن النكتة والطرفة والسرد الجميل، واستنطاق حسن التصرف في المواقف المحرجة، وإدارة الأزمات، والنباهة ونقل التجارب، وتبادل الأحجيات، أو التدارس في توصيات بكتب وأفلام وأقلام.

مازلت أتذكر إهداء والدي لي كتاب (الكشكول) وأنا في المرحلة المتوسطة، عند رجوعه من زيارة ضريح نبي الرحمة (ص)، بالمدينة المنورة؛ و هذا الحدث ألهمني فصرت أهدي أبنائي كتبا للقراءة في موسم الشتاء والصيف، للاستفادة من أوقات فراغهم بما ينفعهم.

ومازلت أتذكر حكايات ينسجها أخي يوسف من مخيلته الخصبة، وأتذكر تعليقات أخي عبد العزيز الطريفة على تلكم القصص، وأتذكر قراءة أخي علي لبعض حكم أمير المؤمنين (ع) من نهج البلاغة، وأتذكر تحلقنا حول المدفئة، مع والداي وجدي وجدتي وإخبارهم لنا عن شؤون الحياة، وهذه الصورة الذهنية ألهمتني لأن أتحلق مع أبنائي أو أحبتي أو أبناء حمولتي في مواسم الشتاء، حول المدفأة، أو حول حطب التدفئة.

في زمن الطفرة التقنية المعاصرة قد يواجه البعض أو الكثير من الآباء عزوف بعض الأبناء عن الحضور والمشاركة الاجتماعية، لأنه بالنسبة لأولئك الشباب أضحت تلكم الجلسات باهتة أو مكررة، أو غير محققة لطموحهم، أو مسيطرا عليها من قبل كبار السن، أو لا يوجد فيها هامش حوار من كل الأطراف المشاركة، وعدم قبول تعدد وجهات النظر . فيفر بعض الأبناء إلى المقاهي أو الاستراحات أو الأسواق مع أصدقائهم بشكل مستمر وصارخ. وهنا يبرز ذكاء وفطنة الوالدين في الابتكار للمناسبات، وخلق التجمعات الأسرية وإدراج أنشطة وفعاليات متعددة، تشبع توجهات الأبناء من كافة الأعمار.

أذكر نفسي أنه كما أن (الكلمة الطيبة صدقة)، فإني أزعم بأن الذكريات الطيبة التي نتشاركها مع أبنائنا وأصدقائنا وأبناء حارتنا وزملائنا في محيطنا، ونعمل على صناعتها معهم هي صدقة جارية لنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى