أقلام

سفير الحُسين في هَجر.. السيد محمد علي (١)

مهدي المبروك – الدمام

ارتبطت شخصية السيد الراحل رحمه الله وما بذله من جهد كبير، وما قام به من جهاد عظيم، ارتباطا وثيقا بقضية عاشوراء الحسين الخالدة. فقد كانت هذه القضية مشعل النور، الذي حمله السيد الراحل في قلبه وعقله، منذ عودته إلى البلاد، بعد رحلة طويلة في طلب العلم في المهجر، فأنار به القلوب والعقول معا، لأكثر من أربعة عقود متتالية، (من ١٣٩٦ هـ حتى ١٤٤١ هـ) عملَ فيها دون كلل أو ملل، ولم يعرف خلالها طعما للراحة، حتى أسلم روحه لباريها صبيحة يوم الثلاثاء ٧/٣/١٤٤١هـ الموافق ٥/١١/٢٠١٩م.

و تحت عنوان (سفير الحسين في هجر، السيد محمد علي) نستعرض الجوانب المشرقة من سيرته العطرة، ومسيرته المباركة في عدة جوانب: الأخلاقية، وتأسيسه للحوزة العلمية في الأحساء، واهتمامه بالشعائر والدعاء، وأبوّته للفقراء.

عاش السيد محمد علي رحمه الله بين المؤمنين، وسار فيهم بما استطاع من سيرة النبي المصطفى وآله الطاهرين عليهم السلام، وما التفاف المؤمنين حوله في حياته بالجامع الكبير، وبمأتمه المبارك وبالمسجد الشرقي، إلا خير شاهد وبرهان على دماثة خلقه، وطيب سجاياه، بل تأكد هذا المعنى بجموع المؤمنين، الذين تهافتوا للصلاة عليه، وتشييع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير، فهو السيد الترابي حقا الذي تجسد فيه قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..}.

تجلت رحمته للمؤمنين من حوله بكل أشكالها، فها هو السيد محمد علي بغترته البيضاء، وصايته وعباءته، يشارك الكوادر في مأتمه، لتهيئة المكان وإعداده لاستقبال المؤمنين والمؤمنات، فيقف معهم كتفا بكتف، ويدا بيد، لينصبوا الخيمة للنساء ويفرشوا السجاد للرجال، ويعلقوا السواد هنا وهناك، متناسيا كبر سنه، محطما الفارق في العمر بينه وبين الكوادر، الذين هم في رتبة أحفاده، وربما شاورهم في أمور التنظيم وأخذ برأيهم.

ويظهر عطف سيدنا الراحل في مشهد آخر متكرر كثيرا، حين يتفقد من يتخلف عن حضور المأتم من عموم جيرانه. وقد اتفق أن أحد المستمعين بالمجلس قد امتعض من موقف ما في المأتم، فأعرض عن الحضور لفترة، فإذا برسالة من السيد مفادها أن يا فلان إما تأتي للمأتم وإلا أتيتك وقبلت رأسك حتى ترضى!

وجرت عادة هذا السيد الجليل -رحمه الله- على أن يجلس عند باب المأتم، يستقبل المؤمنين بابتسامته وعطفه، وإذا حضر أهل العلم والفضل قام لهم بشيبته وهيبته تواضعا، وأجلسهم بجانبه. بل كان يبادر بالاتصال بالنجباء من تلامذته، ويدعوهم بإصرار في كل مناسبة لحضور المأتم بمنزله المبارك.

وقدم السيد محمد علي -رحمه الله- دروسا عفوية في التواضع وخدمة المؤمنين. حيث كان يقف بنفسه لتوزيع الماء تارة، وتقديم الشاي تارة أخرى، أو توزيع البركة على المؤمنين. تكرر هذا الدرس منه في أماكن متعددة، منها مأتمه المبارك بمنزله العامر، وفي ساحة الأربعين، وفي أماكن أخرى، حيث يتواجد المؤمنون للعزاء على سيد الشهداء.

وطغى تواضع سيدنا الجليل -قدس سره- حتى كان لا يستنكف من أن يعتذر بنفسه، ممن يشعر بأنه قد تضايق أو استاء منه كائنا من كان. فقد تعددت المواقف والشواهد التي يعتذر فيها ممن هم في رتبة أبنائه بل وأحفاده، رغم أنه لم يسئ لهم إطلاقا، ولكنه استشعر منهم شيئا من عدم الرضا، فأعتذر خشية أن يكون قد أساء لمشاعرهم. فها هو يحاور رادوده بعد القراءة في الجامع الكبير، ويختلف في الرأي معه حول الطور المناسب للقصيدة، ويبدي عدم إعجابه ورضاه عن ما قدمه من أداء، ثم بعد دقائق معدودة يعود السيد للرادود ويعتذر منه، إن كان قد استاء من شدة النقاش والحوار، فيذوب الرادود خجلا أمام هذا التواضع الجم!

هذه العاطفة كانت جياشة بمقدار متساو بين أحفاده وأقربائه وكوادر مأتمه، فهو العطوف في داخل منزله. ومن الشواهد أنه هم يوما بالخروج من المنزل قاصدا تلبية دعوة، لحضور أحد المآتم، فإذا به يرى طفلا من أحفاده يبكي عند الباب، فسارع الجد ليتفقد سبب البكاء، فأجاب الحفيد جده أن الشاب الذي ينتظر السيد في الخارج ليوصله قد رفض أن يصطحبه معهما، فما كان من السيد إلا أن توجه لسيارة الشاب بوجه عليه ملامح العتب قائلا: “إن لم يذهب معنا هذا السيد الصغير فلن أذهب” فتوجه هذا الشاب المؤمن مباشرة لاسترضاء الحفيد.

هذه الصور المتكررة، والمشاهد المتتالية، التي رآها الناس من هذا السيد، غرست حبه ووده في قلب كل من عرفه، حتى ورث الأبناء هذا الحب من آبائهم، وقد استشرف المرحوم الحاج عبد الرسول العامر هذه الأخلاق الفاضلة، والسجايا الطيبة، في شخصية هذا السيد المقدّس، منذ عودة السيد من النجف الأشرف، فانتظم في خدمة السيد ومعاونته على إدارة شؤون الجامع الكبير، والحسينية الجعفرية، والمأتم، والمسجد الشرقي، وغيرها.. حتى أصبح بحق يمين السيد، ودرعه الذي يتصدى لضربات سيوف الدهر العصيب، ورماح الأيام السوداء، دون أن ينثلم فضلا عن أن ينكسر، وقد بذل أبو عامر رحمه الله في ذلك من وقته وجهده وماله ما شاء الله، متفانيا في حب السيد، حتى أنهكه المرض وفارق هذه الدنيا.

وبرهن الحاج عبد الرسول على إخلاصه وتولعه بحب السيد، حتى في أيام مرضه وشدتها، حيث أنه لم يتلكأ عن خدمة السيد ما استطاع، قائلا: “ما أقدر أقول له لا” وأورث هذا الحب والانصهار لأبنائه، الذي طالما غمرهم السيد بعواطف الأبوة، فتميزوا في خدمة السيد، من بعد رحيل والدهم، وكان الشاب عباس أكثرهم قربا، وأشدهم ملاصقة، وأطولهم نفسا في قضاء حوائج السيد، فكان يقوم بالأعباء التي تحملها أبوه من قبل.

تحدث سماحة الشيخ حسن بن عبد الله الدوخي من أهالي المبرز ، حي الشّعَبَة وهو أحد تلامذة السيد الراحل، فقال: “عشت معه أكثر من عشرين سنة، وكنت أعتبره أبي الروحي، وكان يعتبرني ابنا له. كان السيد أول من درّس الكفاية والمكاسب في السطوح في حوزة الأحساء، فكان المؤسس لهذه الدروس، ثم تبعه الفضلاء في تدريس السطوح.
وبعد أن أنهينا السطوح في حدود عام 1416 هـ تقريبا طلبنا من السيد أن يدرسنا البحث الخارج، وكان عددنا آنذاك سبعة طلاب أو ثمانية، منهم: الشيخ جاسم الشملان، والشيخ محمد الشريدة، وأنا.
لم يكن هنالك درس للبحث الخارج في حوزة الأحساء، فامتنع السيد عن قبول طلبنا تواضعا منه، فقد كان يأمرنا بأن لا نتحدث أننا نحضر البحث الخارج، لكيلا يقول أحد أن السيد وضع نفسه في مستوى أعلى من مستواه. ولكن بعد الإلحاح والإصرار قال: أبدأ في البحث الخارج على أمل أن أفتح بذلك المجال لبقية الفضلاء في المستقبل، أن يدرسوا البحث الخارج في الأحساء . ولم يكن يقبل بأن يسمي درسه بحث خارج مبدئيا، وشرع بدرس الخارج في الفقه بغسل الجمعة، ثم بدأ بالتدريس على ضوء العروة الوثقى، فيتعرض لرأي السيد اليزدي، والسيد الحكيم، وصاحب الجواهر، والسيد الخوئي، ويشير أحيانا إلى رأي أستاذه الشهيد الصدر، وكان يشيد به كثيرا، ويتطرق أحيانا إلى آراء من كتبوا حاشيتهم على العروة من الأعلام، ثم يناقش هذه الآراء، وربما انتخب رأيا أو رجح آخر أو احتاط، لقد كان متمكنا ولكنه متحفظ عن إظهار أنه صاحب رأي، فلا يطرح نفسه ندا للأعلام، بل كان يجل أساتذته إجلالا كبيرا، ويحترمهم احتراما واضحا، وقد طبع دروسه تحت عنوان (في طريق الاستنباط) في 8 مجلدات شملت باب التقليد إلى أواخر مسائل باب الصلاة.

وكان في بادئ الأمر يدرّس خارج الفقه ثلاثة أيام، ويوما لخارج الأصول، ويوما درسا في الأخلاق، ولكن درس الأصول رغم قوته لم يستمر أكثر من سنة، لأنه كان رحمه الله يريد أن يسير بشكل أسرع في درس الفقه، فآثر الفقه على الأصول، وبعد انتقالنا إلى المبنى الجديد في النزهة انقطع درس الأخلاق، واكتفى بدرس الفقه لخمسة أيام في الأسبوع حتى أواخر حياته.

ويقول الشيخ الدوخي عن الفقيد: “مما تميز به السيد الراحل أنه كان يقبل الإشكالات في الدرس بكل تواضع، ويجيب بكل أريحية، ويناقش طلابه دون توبيخ، أو إشعار للتلميذ بسذاجة السؤال والإشكال بتاتا، بل ينزل لمستوى السائل ويجيبه، ولم يكن ينزعج من مقاطعة الطلاب له أثناء الدرس، ولربما أخذ الإشكال وقت الدرس.
كان درس السيد درسا حيويا، فيه صبغة من فكاهة وأريحية، حتى أن طلابه يشتاقون إلى درسه شوقا كبيرا، لقد حافظ السيد بكل ما أوتي من قوة على كيان الحوزة الأحسائية، وكان يعتبرها ثالث الحواضر العلمية للطائفة، بعد حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة.

ويسهب الدوخي في حديثه عن السيد بذكر ميزاته فيقول: كان السيد يدير وقته بشكل متقن، فرغم انشغالاته المتعددة بين رعايته للشعائر، ونظمه للشعر الولائي، وتصديه لخدمة المؤمنين، واستقبالهم في منزله؛ إلا أنه يحضّر درسه بشكل يومي، ويكتبه بنفسه في كراسته، قبل أن يلقيه على الطلبة. وكان لا يقبل أن يضيع وقته، خصوصا في النهار، لأنه وقت مطالعته وكتابته. وقد كان جدوله اليومي مزدحما، فكان يقرأ يوميا على الأقل جزءا من القرآن، وكان يكثر من الأوراد والأذكار، فقد كان من السالكين العارفين، وكان مهتما بزيارة عاشوراء، والجامعة الكبيرة، اهتماما كبيرا، كما كان كثير الذكر، ومسبحته لا تبارح يده طلبا للكمال.
وعرف بتفاعله مع مصائب أهل البيت عليهم السلام، فيعطل الدرس في ذكرى وفيات المعصومين عليهم السلام، وكان المؤسس لظاهرة تعطيل الدروس الحوزوية في ذكرى استشهاد السيدة الزهراء عليها السلام في الروايات الثلاث.
كان له ارتباط خاص وتعلق مميز بالسيدة الزهراء عليها السلام، فقد كان يصر على نعيها في الأيام الفاطمية، فيقتطع من الدرس وقتا للنعي، فيُبكي جميع الحضور. وقد كان بخلاف الأعلام -كالشيخ الهاجري رحمه الله- حيث يحسب وفاة الزهراء منذ يوم وفاة الرسول الأعظم.

وأكد سماحته عن جانب مهم في شخصية السيد الفقيد، هو تفقّده شؤون طلبته النجباء، إذ تربطه بهم علاقة أبوية خاصة، لتنشئتهم وتربيتهم، على غرار علاقة أستاذه الشهيد الصدر مع السيد الهاشمي رحمهما الله، يقول: ففي يوم من الأيام رأى أحد طلبته يرتدي عباءة ممزقه، فبادر ببذل شيء من المال له ليشتري له عباءة جديدة.

وعن دقته في التعامل المالي قال الشيخ الدوخي: كان السيد دقيق في صرف الحقوق الشرعية، ويتحفظ بأكبر قدر ممكن في موارد صرف الحقوق، يقول: لن أكون قنطرة للغير، فأتأخر في الحساب يوم القيامة، ليعبر غيري من خلالي.

وفي إشارة إلى نكران السيد لذاته يقول سماحته: كان لا يقبل إطلاقا الحديث عن إجازاته وإشادة أساتذته به، بل كان إذا رأى مكتوبا قبل اسمه العلامة أو الحجة يبادر ويقول: ما أرخص هذه الكلمات، كنا في النجف الأشرف نرى أصحاب الفضيلة العلمية لا يحصلون على هذه المسميات، بينما الآن نرى التساهل في إطلاق هذه الألقاب.

يقول الشيخ الدوخي: شخصية السيد ليس لها مثيل في المنطقة أبدا، ولن تلد المنطقة مثله، فبصماته كثيرة ومؤثرة جدا، على مستوى الشعائر، وعلى مستوى إحساسه المرهف في المجمع بخدمته لكتابة عقود الزواج، وفي إصلاح ذات البين، وتكفل الأيتام، فقد كان سباقا لخدمة المؤمنين، فلو أن أحد القريبين منه مرض يوما فإنه يبادر إلى:
1. عقد جلسة جماعية للصلاة على محمد وآل محمد 14 ألف مرة، أو أمن يجيب المضطر.
2. دفع صدقة أو ذبح ذبيحة لدفع البلاء وشفاء ذلك المريض، أو التفريج عن ذلك السجين مثلا.

وفي حزن شديد قال الشيخ الدوخي: قد يمن الله تكرما على المنطقة بمن هو أفضل منه، ولكن لن يتكرر رجل مثله.

وحول حركة السيد ونشاطه الاجتماعي يقول سماحته: من قبل أن تنشأ جمعية البر، كان السيد يتولى بنفسه تهيئة مؤونة شهر رمضان وغيرها، للفقراء والمساكين. فقد كان يذهب إلى الدمام وما حولها، لجمع ما يستطيع من صدقات، من التجار وأصحاب الأيادي البيضاء، كما كان أسبوعيا حتى قبل وفاته بأيام يجمع الأموال لذبح الدجاج، وتوزيعه على أسر الفقراء والمساكين، فأسر كثيرة تيتمت من بعده تقدر بعشرات الأسر، كان يرعاها ويرفدها بشكل شهري.

ويذكر الشيخ الدوخي أن السيد الراحل كان لا يقبل بأن يتكلم عن أي شخصية بسوء، فلا يغتاب أحدا، ولا يرضى بأن يغتاب أحد في محضره، فلو سألته مثلا عن شخصية من دعاة الحداثة والتنوير، أو عن تقليد فلان؛ يجيبك بوجهة نظره عن هذا الخط، وهذا التوجه، وهذا الفكر، دون أن يمس أي شخص بسوء، ومن دون أدنى مستوى من الشخصنة، وتراه يكثر من الاستغفار، فلو نقل له أن فلان يتكلم عنك، أو عندما يسيء له أحد، يبادر بالاستغفار له مباشرة (اللهم أغفر له).

وفي تعلقه بالشعائر يقول الدوخي: كان السيد يرى إحياءه للشعائر من ضمن برنامجه الخاص في السلوك إلى الله، والتعلق بأهل البيت مفتاح لكل خير، فكان يردد: من أراد الله بدأ بهم فهم مفتاح كل شيء.

وعن وفاته المفاجئة يقول سماحة الشيخ الدوخي: استقبلتُ خبر وفاة السيد الأستاذ استقبال الفاقد لأبيه، فلم أبك على أحد بعد أبي كما بكيت على السيد، بل ربما بكيت عليه أكثر مما بكيت على والدي، من حيث التفاعل، ومن حيث الذكريات، ومن حيث الأبوة الخاصة، حيث كان المربي، فبفقده فقدت ركن من أركاني، والحوزة مظلمة من بعده، وليس للدرس طعم من بعده، فالدرس العلمي يعوض بغيره، ولكن ما الذي يعوض الجانب السلوكي والتربوي؟
العلماء كثيرون ولكن المربين قليلون جدا، فلا خير في علم لا ينعكس على السلوك، ولا قيمة للعلم بلا أخلاق، فإنه كالجسد بلا روح، فالعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى