الشيخ الموسى: نحتاج أنْ نصنَعَ بيئةَ الاستقرارِ في بيوتِنا
مالك هادي – الأحساء
“الإنسان لا يعيشُ بدونِ سكَن، لأنَّ بعضَكهمْ يميلُ إلى بعضٍ، باعتبارِ أنَّ الجِنسَ إلى الجنسِ أَمْيَلُ، والنوعُ إلى النوعِ أكثرُ ائتلافًا وانسجامًا، لِذا فإنَّ الإنسانَ رجلًا كانَ أوِ امرأةً لا يستقرُّ ولا يَهْنَأُ في عيشٍ ما دامَ لمْ يتزوَّجْ، لأنَّ الطمأنينةَ والاستقرارَ والراحةَ والمحبةَ لا تحصلُ إلَّا معَ هذا الشريكِ الذي أنعَمَ اللهُ بِهِ عليه”.
بهذا افتتح سماحة الشيخ عباس الموسى حديث الجمعة، في مسجد الإمام الكاظم (ع) ببلدة العمران في الأحساء.
وأكد الشيخ الموسى أن السكن أو الاطمئنانُ ينشَأُ مِنْ أنَّ هذيْنِ الجنسينِ يُكمِّلُ بعضُهُمًا بعضًا، وكلٌّ منهُما أساسُ النشاطِ والنماءِ لصاحِبِهِ، بحيثُ يُعدُّ كلٌّ منهُما ناقصًا بغيرِ صاحبِهِ، فمِنَ الطبيعيِّ أنْ تكونَ بينَ الزوجينِ مِثْلُ هذهِ الجاذبيّةِ القويةِ.
وذكر سماحته بأن التعبيرُ بالسكنِ في دائرةِ العلاقةِ الزوجيةِ تعبيرٌ قرآني حيٌّ يتجاوزُ السكينةَ الجسديةَ الباحثةَ عمَّا يُشبِعُ جوعَ الغريزةِ ويَروِي ظمأَهَا، إلى السكينةِ الروحيةِ التي يَخرُجُ بها الإنسانُ مِنَ الشعورِ بالعُزلةِ والوحدةِ والوحشةِ، إلى الشعورِ بالاندماجِ والأنسِ والالتقاءِ بالآخرِ، مما يعمِّقُ في داخلِهِ السكينةَ الروحيةَ في كلِّ آفاقِ ذاتِهِ.
وفي جانب آخر أكد الموسى أن كلَّ إنسانٍ في هذِهِ الحياةِ يسعَى إلى أنْ يكونَ لهُ أولادٌ صالحينَ، يفتخرُ ويعتزُّ بهِمْ، ويكونونَ عونًا لهُ في دُنياهُ وآخرتِهِ، فقال: “وهذِهِ الأمنيةُ لا تكفِي لوحدِها، بلْ تحتاجُ إلى تربيةٍ وإلى تغذيةٍ إيمانيةٍ وأخلاقيةٍ، ويمكنُ أنْ نُشَبِّهَهُمْ بالشجرِ الذي يحتاجُ إلى الماءِ والهواءِ كَيْ ينمُوَ، وربَّما لا يمكنُنَا أنْ نتخيَّلَ أنْ يكونَ الأولادُ صالحينَ بدونِ أنْ نَسقِيَهُمْ مِنْ أخلاقِنا وإيمانِنا، نعمْ يُخرِجُ الخبيثَ مِنَ الطيبِ، والطيبَ مِنَ الخبيثِ، ولكنْ هذِهِ حالةٌ نادرةً”.
كما شدد سماحته على أن البيئة والمحيطُ الذي يعيشُ فيهِ الأبناءُ يساعِدُ على تربيتِهِمْ وتوجيهِهِمْ بالاتجاهِ المطلوبِ، وقال: “عندَما نلاحظُ بعضَ الأولادِ (ذكورًا وإناثًا) الذينَ انحرَفُوا عنْ جادةِ الطريقِ، والأحداثَ الذينَ ارتكبُوا بعضَ الجرائِمِ، وأُدخِلُوا السجنَ، الذينَ يتعاطونَ المخدِّراتِ، أوِ الذينَ انحرفُوا عنْ فطرةِ الإنسانِ الطاهرةِ ليمارسوا الرذيلةَ، والذينَ انغمَسُوا في السرقاتِ، والذينَ تركُوا منازِلَ أهلِهِمْ لمشكلةٍ معهُمْ ليَتِيهُوا في الشوارعِ والأزقة ويلتقِطَهُمْ أهلُ السوءِ، علينا أنْ نتساءَل عنِ الخللِ الذي جعلَ الأولادَ بهكذا وضعٍ سيء”.
وتعرض الشيخ الموسى للسبب الرئيس لانحراف الأبناء وهوَ الحِرمانُ العاطفيُّ، الذي يعيشُهُ الأبناءُ مِنَ الأبوينِ، فقال: “الفتاةُ التي لا تستشعرُ الاحتواءَ والحبَّ والحنانَ والعطفَ مِنْ أبوَيْهَا، ولا تسمعُ الكلماتِ الجميلةَ، والإطراءَ والمديحَ في داخلِ أجواءِ المنزلِ، ربما وجدَتْهُ خارِجَ أسوارِهِ، عندَما تكونُ موظفةً مثلًا قدْ يتحركُ الشيطانُ الإنسيُّ إليها ليُغْرِيَها بكلماتِ الحبِّ الشيطانيةِ، وقدْ تضعَفُ الفتاةُ أمامَ هذا الحبِّ المصطنعِ، وقدْ تواجِهُ هذِهِ الأمورَ في وسائلِ التواصلِ المفتوحةِ، واليومَ الدردشاتُ المفتوحةُ لا حدودَ لها، ما كانَ بالأمسِ صعبَ الوصولِ إليهِ، أصبحَ اليومَ يصلُ إليهِ في ثوانٍ.
والولَدُ الذي لا يستشعرُ الحبَّ مِنَ الأبوينِ وخصوصًا الأب، ولا يجدُ الاهتمامَ والرعايةَ والثقةَ الأبويةَ، بلْ قدْ لا يجدُ إلَّا الصراخَ والعتابَ والكلماتِ السيئةَ، فماذا تتوقعُ منهُ؟ هلْ يتوقعُ أنْ يأتيَهُ ابنُهُ الذي لا يدركُ مِنَ الحياةِ شيئًا، أوْ أنهُ يبحثُ عنْ بيئةٍ حسنةٍ -في نظرِهِ- يجِدُ فيها مبتغاهُ وراحتَهُ وسعادتَهُ، وقدْ تكونُ خارِجَ أسوارِ البيتِ، وكمْ هيَ الحوادِثُ المؤلمةُ التي لا تُقال!”
كما أكد الموسى أن الدراسات المختلفة النفسية والاجتماعية وغيرها أثبتَتْ أنَّ الحاجةَ إلى الإشباعِ العاطفيِّ غريزةٌ تُولَدُ مَعَ الإنسان، فالرضيعُ يستشعِرُ الحبَّ والحنانَ، والطفلُ كذلِكَ، والشابُّ والمتزوجُ والكبيرُ أيضًا، ولا تنقطِعُ عنهُ الغريزةُ لِكِبَرِهِ، بلْ يحتاجُ لها في كلِّ مراحلِ حياتِهِ كحاجتِهِ للطعامِ والشرابِ والأمنِ والاستقرارِ.
واستعرض الشيخ الموسى أسبابِ الجفافِ العاطفيِّ الذي يحصلُ للأولادِ، وأنه ناتجٌ مِنَ الخللِ العاطفيِّ بينَ الزوجينِ لأنهُ ينعكسُ كأثرٍ على الأولادِ ، وأن من مظاهره:
أولًا: انشغالُ الأزواجِ عنْ بعضِهِمْ، وإيثارُ أنفُسِهِمْ على شريكِهِمْ، فالزوجُ ينشغِلُ بعملِهِ وأصدقائِهِ وطلعاتِهِ، وانتقد سماحته هذه الظاهرة فقال: “واليومَ تلاحظونَ كيفَ يعيشُ بعضُ الشبابِ معَ أصدقائِهِمْ: السهرُ معَ الأصدقاءِ، والطلعاتُ والسفرُ معَ الأصدقاءِ، وماذا للزوجاتِ هلْ يَعِشْنَ على هامشِ الحياةِ؟
وعما تمارسه بعض الزوجات قال سماحته: تهتمُّ بعض الزوجات بأهلِها، وتريدُ أنْ تحضُرَ كلَّ مشهدٍ وكلَّ مناسبةٍ معَ أخواتِها وصديقاتِها، دونَ أنْ تلتفِتَ إلى الزوجِ، وربما تنشغِلُ بالأولادِ وتهملُ الزوجَ، وربَّما تنشغِلُ بالوظيفةِ خصوصًا معَ العملِ المتقلِّبِ أوِ العملِ المسائيِّ كما في الأسواقِ غالبًا، وربَّما نلاحظُ انشغالَ الزوجينِ عنْ بعضِهِما بوسائِلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، كما يشتكِي بعضُ الشبابِ مثلًا مِنْ عدمِ تركِ زوجتِهِ للواتساب خلالَ اليومِ، وأينَ نصيبُ الزوجِ؟ وهَذا كلُّهُ مِنَ الجهتينِ يضعفُ الرابطةَ العاطفيةَ لدى الزوجَينِ وبالتالي تنعكسُ على الأولادِ.
ثانيًا: التضجُّرُ وكثرةُ التشكِّي خصوصًا مِنْ حياةِ الزوجةِ معَ الزوجِ، وقلةِ ذاتِ يدِهِ، وبالأخصِّ عندما تكون المرأةِ لا تفكرُ إلَّا في القضايا الماديةِ، وعندما لا يُستجابُ لها لأيِّ سببٍ تبدأُ حالةُ المحاسبةِ لبعضِهِما على الصغيرةِ والكبيرةِ، ومِنْ ثَّمَ تصيُّدِ الأخطاءِ، ورويدًا رويدًا تبدأُ حالةُ التنافرِ والتضجرِ، وتقلُّ الحالةُ العاطفيةُ بينهُما، وربما تصبحُ الحياةُ مجردَ روتينٍ يوميٍّ وهذا ينعكسُ على الأولادِ.
وفي توجيه مهم تحدث الشيخ الموسى عن كيفية تقريب الأبناء إلى آبائهم، والوسائل التي تقوي حالة الترابط، فقال:
أولًا- لا بدَّ مِنْ جعلِ الحبِّ والحنانِ هوَ عنوانُ التعاملِ الأسريِّ معَ الزوجةِ والأولادِ، ولا بدَّ مِنْ إبرازِ حالةِ الحبِّ ليكونَ شعارَ العائلةِ حتى وإنْ أخطأَ الولدُ أوْ أخطأَتِ الزوجةُ أوْ أخطأَ الزوجُ، عندَما نحمِلُ الحبَّ غيرَ المشروطِ في قلوبِنا لبعضِنا فإننا نتغاضى عنْ الهفوات، الحبَّ الذي يعني قبولَ الابنِ والزوجةِ بمزاياهُما وعيوبِهِما؛ وكأنَّ لسانَ حالِ الأبِ يقولُ: (أخطأْت.. لا بأسَ ما دُمْت ستتعلمُ مِنْ أخطائِك، لكنِّي سأظلُّ أحبك على الدوامِ).
ومِنْ ثَمَّ علينا أنْ نَفْصِلَ بينَ الفِعْلِ والفاعِلِ، وكذلِكَ نفْصِلُ الأقوالَ عنِ الذواتِ، والتعاملُ معَ الأبناءِ مِنْ هذا المنطلقِ يجعلُنا نحتفِظُ بهدوئِنا، ونقومُ بالتصحيحِ والتقويمِ حالَ صدورِ الأخطاءِ أوِ التصرفاتِ السيئةِ مِنهُمْ.
ثانيًا- عندَما تُفَعِّلُ مبدأَ الحوارِ في داخلِ الأسرةِ معَ الزوجةِ والأولادِ ذكورًا وإناثًا مِنَ الصغرِ فإنكَ تفتَحُ قلبَكَ لقلوبِهِمْ، عندَما يتعرضونَ لمشكلةٍ يأتونَكَ، يطلبونَ حلَّها منكَ؟ لا تجعَلْهُمْ يبتعدونَ عنكَ في أيِّ لحظةٍ، لا تنشغِلْ عنهُمْ كثيرًا، فرِّغِ الوقتَ الأكثرَ لهُمْ، خصِّصْ لهُمْ أوقاتًا في الأسبوعِ للنزهةِ دونَ أنْ يشركهُمْ أحدٌ لا صديقٌ ولا قريبٌ.
ثالثًا: حسِّنِ الاستقبالَ والوداعَ: ليسَ عيبًا أنْ يُقبلَ الزوجُ زوجتَهُ أمامَ أولادِهِ، في المساءِ والصباحِ وعندَ العودةِ منَ العملِ، ليستشعرَ الأبناءُ حالةَ الودِّ بينَ الأبوينِ، وينعكسَ عليهِمْ بإيجابيةٍ، وليسَ عيبًا أنْ يحتضِنَ الأبُ أولادَهُ صغارًا وكبارًا وخصوصًا البناتِ اللاتي يَمِلْنَ في العادةِ إلى الأبِ، لا بدَّ مِنْ تدفُّقِ الحبِّ والحنانِ تجاهَ الأولادِ بشكلٍ فعليٍّ وعمليٍّ وليسَ مجردَ لفظٍ يردِّدُهُ الأبُ، نعمْ مطلوبٌ أنْ يردِّدَ الأبُ كلماتِ الحبِّ، ولا يخجَلَ منها حتى أمامَ أولادِهِ بلْ لأولادِهِ.
وفي ختام خطبته أكد الشيخ الموسى على أهمية إشباع احتياجاتِ الأبناء مِنَ الحبِّ والحنانِ حتى لا يلجَؤوا إلى غير آبائهم، و أنْ نكونَ قريبينَ مِنْ أولادِنا وبناتِنا، ونشعِرَهُم بالطمأنينةِ والاستقرارِ وراحةِ البالِ. وقال: “كمْ نحنُ بحاجةٍ اليومَ إلى أنْ نصنَعَ بيئةَ الاستقرارِ في بيوتِنا، لأنهُ معَ الانفتاحِ العالميِّ، الانفتاحِ اللاواعي، الذي لا يراعِي الحدودَ والضوابطَ، يصعُبُ على المؤمنينَ أنْ يعيشُوا دونَ المراقبةِ والمحاسبةِ لأولادِهِمْ”.