الأُبَّهَة الحسينية.. سيد الشعائر نموذجاً
عبدالله السيد هاشم العلي
من مرادفات كلمة أُبَّهَة (وَجاهَة)، وقد وردت في القرآن الكريم كلمة (وَجاهَة) في موردين:
الأول: في قوله سبحانه تعالى﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ .
الثاني: في قوله سبحانه وتعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ .
ومادة الوجيه مأخوذة من الوجه، يقال: وَجْه القوم أي سيّدهم وشريفهم، والجمع وُجُوه، والوجيه هو: ذو الجاه، وسيد القوم، والجمع وُجَهاء. والوَجَاهَة هي: الجاه، والسيادة، والشرف، والحُرْمة .
والعرب تُطلق الوجه على مقدمة الشيء، والوجه مستقبِلٌ كل شيء، يقال: وَجْهُ الرجل له دور فاعل، وتقول اذا واجهت رجلاً: واجهت فلاناً؛ جعلت وجهي تلقاء وجهه، ومن هذا الباب قولهم: هو وجيه؛ فالوجيه الذي لا يقدر وجهه بثمن لمواقفه العظيمة ومنزلته الرفيعة؛ لأن وجه الإنسان هو أشرف أعضائه ظهوراً, به يستقبل الناس، وإذا ظهر إنسان شريف في أي مجتمع وبرز عن أقرانه قيل له وجيه .
ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من وجهاء وشخصيات بارزة فيه، مع اختلاف المواصفات التي يحملونها، والقيم التي يتعاملون بها، لأن الوجاهة بغية كل إنسان في هذه الحياة يطلبها ويلتمسها بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة؛ لتحقيق الذات، وإشباع رغبة متأصلة في طبع الإنسان.
والوجاهة نعمة من الله عز وجل ينعم بها على من يشاء من عباده، وقد خص بها أصفياءه من الرسل والأنبياء الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين، وجعل سبحانه وتعالى لأوليائه نصيباً من الوجاهة وإن كان لا يرقى إلى درجة وجاهة الرسل والأنبياء، كما جعل للعلماء ولعباده المؤمنين نصيبا منها، فعلى قدر استقامة الإنسان على الشكل الذي يرضي الله عز وجل يكون نصيبه من الوجاهة.
وقد يلتبس على بعض الناس أمر الوجاهة بأمر الثروة والمال، فيعتقدون أن كل ذي مال وثروة يكون بالضرورة وجيهاً، نعم المال والثروة قد يكونان وسيلة لبلوغ مرتبة الوجاهة؛ إذا كان صاحبهما يوظفهما في الإحسان وفعل الخير، فيكون وجيهاً عند الناس بإحسانه وكرمه، لا بحيازته المال والثروة، فصاحب المال البخيل لا حظ له في الوجاهة، بل بالعكس يجلب له بخله المذمة والمعرة.
ولقد ضرب الله عز وجل أمثلة في القرآن الكريم للوجاهة التي كانت تطلب بالمال والثروة، فتزول بزوالهما، فصاحب الجنة الذي دخل جنته وهو ظالم لنفسه يتوهم حصوله على الجاه والوجاهة بها، يقول سبحانه وتعالى﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ ، فزالت وجهاته المتوهمة بخراب جنته.
إذن معاير الوجاهة عند الله تعالى تختلف, فهي لا تكون إلا للأنبياء وأتباعهم، ومن سار على منهجهم, هؤلاء أهل الوجاهة في الدنيا والآخرة، وهي الوجاهة الحقيقية التي يمنحها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء من عباده، فيكون صاحبها بركة على الناس في كل أحواله، وهذا الوجيه تكون له مكانة في القلوب واحترام ثابت في النفوس، حتى ولو لم يكن ذا منصب وجاه، وأما حقيقة الوجاهة في الآخرة فهي أن يكون الوجيه في مكان عال ومنزلة عند الله، لهذا نقرأ في دعاء التوسل:… يا وَجيهاً عِنْدَ اللهِ اِشْفَعْ لَنا عِنْدَ اللهِ… .
من هنا، فإن الإنسان الوجيه هو الذي يتسيّد نفسه، بمعنى يجاهد هواه ويتجنب نزواته وأطماعه، ويعمل على التحكم بانفعالاته وتصرفاته، ويضبط كلّ ذلك وفق إرادة الله، وانسجاماً مع حدوده وتشريعاته، ويثبت ذلك فعلاً لا قولاً، بحيث تكون نواياه نوايا فيها كلّ الخير تجاه الغير، وتكون مشاعره فيها كلّ الرّحمة للغير، وفيها كلّ المحبّة والعاطفة، وتكون مواقفه مشرّفة، بحيث يسعى لوأد الفتن، ورفض أذى الناس، بل هو الساعي دوماً إلى حفظ مصالحهم وكراماتهم.
إذن أن يكون الإنسان وجيهاً ليس بالأمر الهيّن، ولكنّه ليس مستحيلاً، فهو يتطلب منه الإرادة والعزيمة والصبر والتضحية والوعي ونفاذ البصيرة، والتحلّي بالإيمان والانفتاح على الله، ومراقبة النفس ومحاسبتها وتربيتها على التزام الحقّ واتباع الهدى، لذا نقرأ في زيارة عاشوراء هذه العبارة: …اَللّهُمَّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجيهاً بِالْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ… ، فهذه العبارة المذكورة عالية المضامين والمعاني رغم اختصارها، فقد سلطت الضوء على ربط المؤمن بالإمام الحسين عليه السلام لينال بواسطته الوجاهة في الدنيا والآخرة، فالباء – وَجيهاً بِالْحُسَيْنِ – هي باءُ الواسطة، والتعبير بالصيغة فعيل – وَجيهاً – يفيد التحقُّق على جهة الثبوت والدوام.
من هنا لابد من البحث في حول الوجاهة التي يسأل المؤمن الله سبحانه وتعالى من خلال الإمام الحسين عليه السلام أن ينالها، فما هي هذه الوجاهة وما حقيقتها؟
من الواضح أنها ليست الوجاهة المادية، وإنما هي الوجاهة الإلهية المعنوية، لأن الوجاهة المادية محدودة، وكل ما يكون كذلك فهو فانٍ لأن المرتبط بالفاني لابد أن يفنى، بينما رغبة السائل هو طلب وجاهة لا يعرضها الفناء والزوال، فهو يطلب وجاهة تكون باقية مستمرة دائمية، وهذا لا يكون إلا إذا كان مرتبطاً بما لا يزول ولا يفنى، وهو الله سبحانه وتعالى.
وحيث أن الإنسان محدود؛ فهو لا يتحمل أن تفاض عليه الفيوضات الإلهية مباشرة، لأنه لا يملك القابلية لذلك، بسبب محدوديته، ومن المعلوم أن الوجاهة الإلهية نحو من أنحاء الفيض الإلهي، فيحتاج الإنسان واسطة حتى يتسنى له نيلها، ولا يوجد أقرب إلى الله سبحانه وتعالى من من النبي الأكرم وأهل بيته الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام فإنهم واسطة الفيض.
ومن هنا يتضح طلب السائل جعل الإمام الحسين عليه السلام طريقاً له لنيل الوجاهة الإلهية المعنوية، لأنه الواسطة لله سبحانه وتعالى، ويمكن تحقيق الوجاهة بالإمام الحسين عليه السلام من خلال عدة أبعاد:
أولاً: البعد العاطفي؛ وهو يرتبط بالقلب وهو المودة والمحبة، فبمقدار ما يملكه الإنسان من محبة في قلبه للإمام الحسين عليه السلام.
ثانياً: البعد المعرفي؛ وهو يرتبط بالعقل ويعود لمقدار الاعتقاد والمعرفة، ولا ريب أن هناك مواصفات ينبغي توفرها في كل من يرتبط بالإمام الحسين عليه السلام لنيل الوجاهة الإلهية.
ثالثاً: بُعدْ التفاني والتضحية، ويمكن الوقوف على هذا البعد من خلال المواقف والحوارات التي دارت بين أصحاب الإمام الحسين، فعندما وقع مسلم بن عوسجة رضوان الله عليه صريعاً على أرض كربلاء، قصده حبيب بن مظاهر مع الإمام الحسين عليه السلام، فألتفت حبيب إليه وفي مسلم رمق، قائلاً: رحمك الله يا مسلم، لولا أعلم أني في الأثر، لأحببت أن توصيني بما أهمك. وإذا بمسلم يشير بيده إلى الإمام الحسين عليه السلام قائلاً: أوصيك بهذا، قاتل دونه .
إذن الطريق لنيل الوجاهة الإلهية المعنوية بواسطة الإمام الحسين عليه السلام، يعتمد بصورة أساسية على حجم الرابطة التي تربط الإنسان المؤمن بالإمام الحسين عليه السلام، فكل ما كان مقدار ارتباطه به وثيقاً، كان ذلك سبباً لسرعة حصوله على الوساطة الحسينية لنيل الوجاهة الإلهية، وكلما كانت علاقته دون ذلك، صعب نيله على الوجاهة الإلهية، لعدم حصول الوساطة الحسينية بصورة مباشرة وسريعة، بل سوف يحتاج أموراً أخرى لتحققها.
ومن هنا يمكن القول أن الوجاهة الحسينية ليست لقباً ولا شهرةً ولا منصباً، وإنما هي صورة مستقاة من وجاهة الإمام الحسين عليه السلام نفسه، فهي عبارة عن الامتداد الروحي في القلوب والعقول في الدنيا التي عبر عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِيْ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لا تَبْرَدُ أَبَدَاً . ووجاهته في الآخرة هي شفاعته.
وهكذا كان سماحة العلامة السيد محمد علي السيد هاشم العلي، وجيهاً بالحسين في مجتمعه، لما تتمتع به مكانته من معزة في قلوب المؤمنين؛ هذا التوفيق لم يحصل له جزافاً بل لأنه كان منصهراً بالحسين عليه السلام في سلوكه وفي أطروحاته وخطابته.
وإذا أردنا أن نقف على جذور هذه الوجاهة في شخصية سماحته لا بد من التأمل في عدة جوانب:
أولا: الجانب العبادي؛ إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، لذا يمكن للحياة كلها أن تكون مسرحاً للعبادة مادام غايتها إرضاء الله سبحانه وتعالى، وتحقق للمؤمن ثمرات كثيرة تعود عليه بالنفع في دنياه وأخراه، ومن أهم تلك الثمرات:
– تربية الروح وتغذيتها: فكما أن الجسد يحتاج إلى العناصر المادية، فإن الروح تحتاج إلى إشباع حاجتها من خلال القرب من الله سبحانه وتعالى، لهذا القرآن يرشدنا إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴿97﴾فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴿98﴾وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴿99﴾﴾ . وهذه الثمرة واضحة في شخصية سماحة السيد رحمه الله حيث كان الذكر لا يفارق شفتيه، والسبحة تعانق أنامه، والخشية والخوف من الله عزّ وجل سكن عقله.
– تحقيق حرية الإنسان: فالعبادة تحرر المؤمن من الخضوع لغير الله تعالى، ومن الاستسلام للآلهة المزيفة، فيصبح بذلك حراً طليقا من سلطان الهوى، وبذلك يصل إلى شاطئ الأمان، ويشعر بالسكينة إلى الله سبحانه وتعالى، لأن مصدر العزة إنما هو اللجوء إلى الله عزّ وجلّ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ . وهكذا كان سماحة السيد رحمه الله متحرراً من عبودية النفس والهوى، لم تغازله الألقاب والمناصب، ولم تغره الدعوات للتقرب من هذا أو ذاك، بل كان حراً مستقلاً في مواقفه وآرائه، همه وشغله رضا خالقه سبحانه وتعالى.
ثانياً: الجانب الولائي لأهل البيت عليهم السلام؛ وهو الارتباط المنهجي بين الموالي والموالاة، وهذا الارتباط يتولد من معرفة أهل البيت عليهم السلام المعرفة الحقة, والمعرفة تفضي إلى الحب، والمحبة لا تكتمل إلا بالعمل، لهذا كانت محبة أهل البيت عليهم السلام فيها الرفعة والشرف والكرامة في الدنيا والآخرة.
هذه المحبة وهذا الولاء نجده متجذر في شخصية سماحة السيد رحمه الله من خلال سلوكه، فنلاحظ أن سماحته كان حريصاً على إقامة مآتم سيد الشهداء في منزله المبارك، مضافاً إلى العادات الأسبوعية التي كانت ولا زالت معروفة في وسطنا الاجتماعي، والتي تعتبر أحد المظاهر الموجبة لوجود العلاقة بالإمام الحسين عليه السلام، بل زيادة هذه العلاقة، وتقوية هذا الارتباط.
ولم يكتفي سماحته بذلك فقط بل كان حريصاً على خدمة المؤمنين في هذه المجالس رغم كبر سنه ومقامه العلمي، فيقف عند باب المآتم بكل تواضع ونكران للذات ليقدم هذه الخدمة أو تلك.
وأيضاً تجلى هذا الحب والولاء في شعره المملوء بصدق العاطفة والصور المؤثرة، وأريج عطر الكلمات، وعبق المعاني، يعبر فيه عن شدة الحزن والأسى لما جرى على أهل البيت عليهم السلام، فكان لهذا الشعر الرثائي صدى جماهيرياً واسعاً حينما يُلقى على المنابر لتصويره الجوانب المؤثرة، وقد رأيناه وهو يطلب أوراق القصيدة من الرادود أثناء قرأته لها، فيتأمل فيها بتفجع وآلم وينفجر بالبكاء والنحيب، فإذا كان هذا حاله، فكيف كان حاله وهو ينظم كلماتها ويرسم صورها.
ثالثاً: الجانب الأخلاقي؛ الأخلاق جمع خلق، والخُلُق هو الدِّين والطبع والسجية والمروءة، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها .
والحكم على أي انسان يأتي من خلال أخلاقه, فمهما بلغ من مكانة نسبية أو علمية أو كفاءة أو منصب؛ إذا كان سيء الأخلاق فذلك سيؤثر حتماً على مكانته في قلوب الناس, ورد في الرواية: رُبَّ عزيزٍ أذَلَّه خُرْقُه، وذليلٍ أعَزَّه خُلْقُه . وبذلك فإن الانسان حتى لو بلغ أعلى المراتب, لن يكون عزيزاً ويترك تأثيره في النفوس, ما لم يكن على درجة عالية من سمو ورفعة الاخلاق، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله عندما يتحدث عن الأخلاق يجعلها الهدف الأعلى من بعثته, فيقول صلى الله عليه وآله: إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ.
إن من المسائل المهمة التي جعلت شخصية الإمام الحسين عليه السلام قد أسرت النفوس والقلوب معاً؛ هي مسألة الأخلاق الإسلامية التي حملها واتصف وتحلى بها، فها هو يقول عليه السلام: لَوْ شَتَمَني رَجُلٌ في هذِهِ الأُذُنِ – وأومى إلى اليمنى – ، وَأعْتَذَرَ لي في الأُخْرى، لَقَبِلْتُ ذلِكَ مِنْهُ، وَذلِكَ أَنَّ أَميرَ المُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِب عليه السلام حَدَّثَني أَنَّهُ سَمِعَ جَدّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ: لا يَرِدُ الْحَوْضَ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْعُذرَ مِنْ مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِل .
هذا الجانب نراه ناصعاً في شخصية سماحة السيد رحمه الله، فقد كان متأسياً بأجداده في سمو أخلاقه، وحسن تعامله مع الناس بمختلف طبقاتهم وتوجهاتهم، حتى المناوئين له والمسيئين لشخصيته المباركة، فقد امتازت شخصيته بنهج الاستيعاب في إدارة الخلافات الفكرية والاجتماعية، وكان يرفض انتهاج القطيعة والتشنج والخصام، بسبب الاختلاف في تفاصيل القضايا العقدية والفقهية، أو المواقف الاجتماعية، فكان سماحته يهتم بإنتاج ونشر ثقافة المحبة بين الناس، أن يحبوا بعضهم بعضًا، وإن اختلفت انتماءاتهم الثقافية والفكرية.
لهذا كانت نفسه الطاهرة عامرة بالحب تجاه الآخرين، والترفع عن مواجهة المناوئين له والمسيئين لشخصه بنفس الأسلوب والطريقة التي تعاملوا بها معه، وهذا ما تشير إليه هذه الأبيات التي نظمها في حق بعضهم حيث يقول رحمه الله:
قــــد تعاليتُ عن فضــــــول الكـــلام وتـــرفعتُ عــــــــن مقــــــــــامِ الخصــــــــــامِ
ولبســـــــتُ الكمــــــــــــالَ حُلـــــةَ فخــــر وتحليــــــــــتُ بالعُـــــــــــــلا والتســـــــــــــــامي
وكفـــــــــــــــــــــانـــــــــي رداً كتـــــــــــــــــابــــــــــي إذ ذاك فقـــــــد حــــــازَ قُمــــــةَ الإحكـــامِ
حيــــــث اوفيـــــتُ حجــــــــــــتي ببيــــــانِ مــــن صريحِ المقـــــــــــــالِ لا الأبهــــــــــامِ
وخصمـــت النــــــد المُعانــــدَ بالقــــولِ وقـــــــد ضــــــاقَ من جليـــــــلِ كـلامي
وكــــــــــــــــوى قــلبــــــــــهُ البيــــــــــــــانُ فمــــــــــا ضنُك في جـــرحــهِ الشديدِ الدامي
ولقـــــــــــد جـــــــــــاءَ كي يُعيــــــدا اعتباراً في كــــــــــلامٍ يُســـــــــــــــيىءُ بالإعـــــــــــلامِ
أهــــــــلِ الحــــــــــــقُ يُجــتلــــــــى بسبــــــــابٍ أفيُعلـــــى شـــــأنــــــــاً قبيــــحُ الكــــــــــــلامِ
فليقــــــل مــــــا يشـــــــــاءُ ذاك هُـــــــــــــــراءٌ مــــــــــا إلى مثلـــــهِ أعــــــــــيرُ إهتمــامـــــي
وكفــــــاهُ عـــن فعلــــــــــهِ أن يخـــــــــــــــافَ النـــــــــــاسَ فيحتمــــــــــــي بالأســــامـــــــي
كـــــل يـــــــــومٍ يختـــارُ منـها قِنـــــاعـــــــــــاً كـــي يُغطيــــــــهِ عن عيـــــونِ الأنـــــــامِ
فهــــــــــو يخشـــــــى للنــــاسِ من نـــاشزِ القــولِ ويخشى منهمُ عظيـمَ الملامِ
أوليـــــــــــــــــــــس الأحـــــــــــــــــــــرى بـــــــــــه أن يخـــــــــاف الله ويخشى مغبــــــةَ الآثـامِ
ســـــــترى عينــــــهُ المصـــــــــيرَ عســــــــــــيراً حــــــــين تُطــــــــوى صحيفــــةُ الأيـــــــامِ
ويـــــــوافيـــــــــــــهِ للحمــــــــــامِ نـــــــــــذيــــــــــــــرٌ يا لهـــــــــولٌ يلقــــــــاهُ بعــــــــدَ الحمـــــــــــامِ
ســـــــيرى الله للـذي قـــــــــــــال بالمرصـ ـادِ فيــوفي حســــــــابــــــــهُ بالتمـــــــــــــــــــــامِ
فيعــــــضُ اليــــديـــــــنَ في نـــــــــدمِ الظـــــ ـلمِ فـــــلا شــــــافـعٌ ولا مـن مُحـــــــــــــــــامٍ
والمصــــــــــــــــــــيرُ المحتـــــــــــــــــــــــــــومُ آتٍ ولا يُنجيـــــــــهِ منــــــــهُ تغـــافــــلٌ أو تعــــــــــــامِ
قد شكل سماحة السيد رحمه الله نموذجاً بارزاً في معنى الوجاهة الحسينية التي يطلبها المؤمن ويسعى لتحقيقها، وقدوة صالحة لكل مؤمن ومؤمنة في تحقق هذه الوجاهة.