قراءة في ديوان (شُرودٌ مُؤجلْ)

إبراهيم بوخمسين
وما الدهر إلا من رواة قـصائدي ..
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا
فـــسار بــه من لا يــسير مشمِّرا..
وغـــنّى بــه مـن لا يغــنّي مغرّدا
” المتنبي”
وجهت دفة سفينتي هذه المرة إلى بحر ديوان ” شرود مؤجل ” لعلي أرسو على شاطئه الجميل المملوء بالنفائس الشعرية العمودية منها والتفعيلة، فأغترف منه ما يروي عطشي، ولكني وجدتني أمام شطآن كثيرة كلها جميلة، فآثرت أن أقرأه من عنوانه، وإلا فإن القارئ سيجد زوايا كثيرة يستطيع منها الدخول إليه.
وبما أن العنوان شدني ولفت انتباهي أردت الولوج إليه منه.
وأول ما يلـفـت انـتـباهك هو عنوان ديوانه فكلمة شَرود: (اسم)،والجمع: شُرُد وشُرَّد وشُرُود، المؤنث: شَرُود، والجمع للمؤنث: شُرَّد وشُرُد، وصفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من شرَدَ/ شرَدَ عن. وشَرود: نافر مُستعصٍ، صعب القياد. وقافية شَرود: منتشرة ذائعة.
كأنه يريد أن يقول أنا الفتى الشاعر المُستعْصي على المُفرَدَات والحروف، وليست هي المستعصية عليَ، والتائه فيها توهاً أزليًّا مؤجلٍا من زمن إلى زمن لا نهاية له. ويبدو أن هذا التوهان هو ديدن الشعراء. فهنا شاعرنا الموسوي يؤكد هذا المعنى بقوله في ” عتبةً ثانية “:
” كان العالمُ ينتظرُ القصيدة الآتية من جهةِ الشعرِ التي كان
طَرَفَة بنُ الشعرِ قد أخبر عنها ذاتَ أملٍ وهو واقفٌ على صخرة
المُشقََّرِ الأزلية وهو في حالةِ شرودٍ مؤجلٍ عميق.
يكفيك أن تنظر إلى كلمة “بن الشعرِ ” لتعرف كم الشعراء تائهون وشاردون، وكلمة الأزلية التي تعني لا نهاية لها.
وكلمة شرود مؤجل لتعمق عنوان هذا الديوان الجميل وترسخه.
ففي *أبيات الإهداء* المعنونة بــ ” آخر الأماني ” بيتين رائعين هما أيضًا يدلان على العشق غير المتناهي لإبنه محمد، ذلك العشق اليعقوبي ليوسف الذي هو عشق لجمال الخالق المتمثل في جمال يوسف، وهو عشق مؤجل لا ينتهي:
“محـمــدٌ” آخــرُ الآيـاتِ في ســـورَي …
ونفحةُ من شذا روحي ومن عُمُري
أحِـبُـهُ حبَ ” يعـقـوبٍ ” لـ ” يوسفِه ” … وأفــتـديه بـباقي العُـمـــرِ والـبــصرِ.
وعند ولوجنا للقصائد نجد في قصيدة شاعرٌ يقطفُ الدهشةَ من شجرِ المجاز، بين يدي شيخ المجاز الشاعر الكبير جاسم الصحيح. فإننا نرى أنفسنا في بحر الشرود، حيث أن معنى المجاز في اللغة هو التجاوز والتعدّي. وفي الاصطلاح اللغوي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة. وما دلالة هذا البيت إلا ترسيخًا لشرود اللغة الفصحى، فكلمة ” هَيْتَ لكْ ” بعد أن غلقت الأبواب كلها لتقول لجاسِمِنا أسرع فإني في شرود دائم معك:
وأتـتْ لك الفـُصحى
تـَضِجَ أناقـَـة
وتـقـولُ مُغرَمةً
حبيبيَ ” هَـيْتَ لكْ ” !
وفي قصيدة “لعلي أمسكُ بالضَّوء”:
هنا يريد الشاعر أن يتخذ الضوء سلمًا، ولكن أي ضوء يا تـُرى، أهو الضوء المتعارف عليه أم ضوء البوح والمجاز الذي لا هداية إليه حيث يؤكد ذلك في بوحه:
ورُحتُ أمشطُ صحراءَ روحي
وأطلقُ كلَّ جيادي
لأصطادَ معنىً أنيقًا
ذهبتُ عميقًا
أفكِّرُ
أسبُرُ بئرَ الكلامِ
ورَغمَ العَنا ما اهتديتْ
وتأكيدًا للشرود:
فأمسكتُ بالضَّوءِ حتى انـتـشيتْ
أفـتِّـشُ عن ومضةٍ شاردةْ
تجَّردتُ أكثرَ حدَّ الغيابِ وأصغيتُ للصمتِ في داخلي وكأنَ
صدًى عبر هذا السكونِ
يحرِّكُ أحرفيَ الراكدةْ،
لا يزال شاعرنا المجيد يتحفنا بشروده في آي القصيد مؤكدًا معنى الشرود مرةً بتصريح وأخرى بتلميح. فعلى لسان من ” كانت تمشِّطُ شَعْرَ الصَبر ” يقول:
هذي أنا
غيرَ أني الآنَ
لستُ أنا
أنايَ تغرقُ في وحلٍ
من المُثلِ
فكلمة أنايَ وهي النفس المدركة بالمعنى الفلسفي للكلمة تغرق في وحل من المثل، خيال يدعي إلى الشرود في مجاز جميل.
ما أغرب هذا الشرود الذي يلاحق شاعرنا الموسوي فهو لا يلاحقه في أناته وفي داخله بل وحتى في أيامه وزمانه. أنظر إلى قصيدته ” القصيدة “:
غريبٌ
يا لأيامي الشريدةْ!
أعيدُ كآبة المُدُنِ البعيدةْ
تعيشُ بداخلي
صورٌ ولكن،
بلا طعمٍ بلا لونٍ،
وحيدةْ
لا ينتهي الشرود والغربة فتلك قصيدة عنوانها ” غُربَة ” وقصيدة عنوانها” فوانيس تكاد أن تنطفي” فهنا يقول:
تَعِبتُ من غربتي
واثـّاءَبت رئتي
وصرتُ أهرُبُ مني
حين أقتربُ
كيف يهرب المرء من نفسه حين يقترب منها سؤال صعب يحمل في دلالته خفيات النفس، وهنا أتذكر بعض ما قاله زين العابدين في دعاء السحر: (هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ..)..
*إن مفهوم الهروب مستجمع لأركان ثلاثة* : فالأول: ما يُهرب منه.. والثاني: ما يهرب إليه.. أما الثالث: فهو سبب الهروب.. فالإنسان عندما يهرب إنما هو يهرب من شيء، ويلوذ بشيء، وهو في هذه الحالة من الهروب من جهة وإلى جهة، يعيش حالة الخوف والوجل لسبب ما. فيا ترى ما هو هروب شاعرنا الموسوي؟!
وهناك نجده يقول في موضع آخر وهو يرفض حالة الاغتراب الإبداعي رافضًا كل بوح شعري لا ينتمي للدهشة والجمال.
سئمتُ من غربتي
من كلِّ قافيةٍ
عرجاءَ
يرضعُ من أثدائها القلقُ
وفي قصيدة ” لا خطو بلا أثر” ترى أثر الشرود واضحًا في كل مقاطع القصيدة فتحتار بأيها تستشهد:
أم كنتُ أبحثُ عني
عن صدى وَتَري
عن غربتي
عن مواني الكبتِ في جُزُري؟
لا تمل تقرأ مفردات الشرود في هذا الديوان فهو يأتي بها مترادفة تصب في ذات النهر فمن قصيدة ” من عينيك لم أتبِ” والمعنى واضح فهو جاء بأداة الجزم ” لم” ليدلل على التأكيد والعزم والثقة:
أتيهُ أُبحِرُ في عينيكِ يَغْمُرُني
موجٌ من الشوقِ
للغافي على الهُدُبِ
فكلما اردتُ الشرود من الشرودِ أعود فيه ولكن في رِجْلِ هَيْفَاء مُهَـفْهَـفَةٍ في قصيدة ” رفقاً بي “:
يَرِنُّ برجْلِها
حِجلٌ
شـَريدٌ
فيُشعِلني
فَمَا أحلى فَتيلَهْ
كم من المعاني العميقة ضمتها هذه الكلمات على قصرها، ” يرن برجلها حِجلٌ “، وما أدراك ما تحدث هذه الرنة في قلب الرجل، يقول الشاعر ابراهيم محمد ابراهيم:
فكأنما الخلخالَ أحدثَ ضَجّةً …
في خَافِـقي وكأنّها الزّلْزالُ
أما المقطع الآخر ” شريد فيشعلني فما أحلى فتيله ” كناية عن الغواية المتأججة التي لا تطفأ شعلتها وفي ذلك يقول الشاعر أدونيس: أنه من أكثر الإكسسوارات النسائية ذات الوقع الحميم والغامض والمباغت، وهو وسيط يقدم رسائل شعورية متنوعة من خلال الإشارة إلى جمال رجل وأصابع المرأة.
إضافة إلى الشرود الماضي هناك شرودٌ وغربة عند شاعرنا عبدالمجيد وهو شرودٌ نحو الحنان والحب ومن التي الجنة تحت أرجلها فهو يكرس هذا المعنى غير المتناهي في حبه لأمه، والذي يرى كل رسم على جسدها رسمه الزمان خارطة طريق. ففي قصيدة ” نَـقـَاءٌ ” يقول: التجاعيدُ المكتظةُ في وجه أمي هي التي ترسمُ لي خارطة الحياة:
أشتاقُ قـربَكِ؛ كي أشـرِّدَ غُـربتي …
لا شيءَ غـيرُكِ في ثنايـا مهجتي
أمي خـذيـني نحـو طهــرِكِ إنـني …
مـتـنــسـكٌ يــرنو لأقــدسِ كعــبةِ
أحــتاج أنــسك في الحياة فغربتي …
ليــلٌ طــويــلٌ يسْــتـَـبـِـدُ بوحدتي
وعودًا على بدء في الشرود في الغزل العذري، يطربنا الموسوي حد الثمالة في قصيدة ” ثملت بمقلتيك”:
لياليَ كنتُ
كالمجنون أرنو
إلى ليلايَ
تجذبني الربوعُ
مهاةٌ أنتِ
شاردةٌ بعقلي
وعطرٌ أنتِ
في قلبي يضوعُ
والمهاة هي الجآذر التي تتميز بحسن العينين وجمالها. والمعنى من حسن عينيك طار عقلي وأن رائحتك الفواحة قد انتشرت بكل جوارح جسمي.
لا تكاد تخلو قصيدة من مفردة شرود بمختلف صيغها إلا ما ندر، وها نحن نصل إلى ما قبل القصيدة الأخيرة والتي يُؤكدُ شاعرنا السيد الموسوي بالإصرار على شروده في الحب لعلَّ بارقة أمل… في قصيدة ” حبٌ على قارعة الأمل”:
يكفي بأن تفهمي نبضي
فإنَّ به من الحكايات
ما للحبِّ من لغةِ
لا تجعلي الليلَ يقسو
شرِّدي ظُلمي
لا تخنقي عطرَكِ المسكوبَ
في رئتي
ما عاد قلبي
يطيقُ البعدَ
إنَّ به من الغوايات
ما يكفي لعربدتي
شَرِبتُ كَرْمَكِ
نـشواناً
وبي ظمأٌ
صُبِّي سُلافـَكِ
في إبريق شيطنتي
وما أجمله من مقطع فهو يقول
قد شربت عصارة لُماكِ ورضابكِ منتشيًا،
لكن ذلك لا يكفي فصبي أجمل خمرك وأجوده في إبريق شيطنتي،
وذكر الأبريق هنا لكونه الوعاء الذي يصب فيه أشهى الشراب، قال أبو نواس:
قامـت بإبـريـقها والـلـيل مـعـتـكرٌ …
فـلاح من وجـهها في الـبـيت لألاءُ
فأرسلت من فـم الإبـريـق صافيةً …
كأنــما أخـــذها بالــعـــين إغـــفــاءُ
رقَّـت عن الـماءِ حتى ما يـلائمها …
لـــطافـةً وجــفا عـن شكـلها الــماءُ
وبهذا نختم قراءة هذا الديوان الجميل من شاعر جميل، نرجو أن نكون قد وفقنا على تسليط الضوء على جانب من جوانبه. ويبقى أن هذا الديوان مليء بالقصائد الجميلة ومنها القصائد الإخوانية والوطنية التي لم نتعرض لها لعدم تضمنها الغرض الذي تطرقنا إليه. ولربما يقيض باحث آخر لاستخراج كنوز أخرى من هذا الديوان وقراءته من زاوية أخرى…..والحق يقال بأن السيد عبدالمجيد قد استفرغ وسعه وأهدى إلى المكتبة الشعرية ديوانا جميلًا ضم بين دفتيه قصائدًا حصدت جوائز على المستوى المحلي والدولي، ولقد شدتني مفرداته ومقاطعه الساحرة وإنه لينطبق عليه قول: إنَّ من الشِّعرِ حكمةً وإنَّ من البيانِ لسحرًا.