الكورونا بين العلم والدّين
العالم كلُّه يعيش تحت وطأة زلزالٍ حقيقيٍّ اسمُه فيروس كورونا. وهذا الزلزالُ أصاب البشريّةَ في كلّ مجالات حياتها؛ إذ لا تقتصر ارتداداتُه على الجانب الصحّيّ أو الطّبّي أو الاقتصاديّ فحسب، وإنّما يثير أيضًا كثيرًا من الأسئلة الكبرى أمام المنظومات التي تتحرّك في هذا العالم، بما يُشبه عمليّةَ “غربلةٍ” للأوضاع القائمة والمتراكمة على مدى سنين، بحيث نَخْلص في مآلات الأمور إلى فرزٍ يَسمح بتحديد مستقبل البشريّة على كوكبنا.
ثمّة أسئلةُ مصيرٍ كبرى تفرض ذاتَها اليوم، وتبدو على صهوة ضعفٍ بشريّ، على الرَّغم من الجبروت المدَّعى والاستعلاءِ والتألّهِ المصطنع. ولا نتحدّث هنا عن أفرادٍ فحسب، في أثواب رؤساءِ دولٍ كبرى تَطْرح نفسَها حاكمًا للعالَم، بل نتحدّث كذلك عن منظوماتٍ واتجاهاتٍ فكريّة وفلسفيّة تنصِّب الإنسانَ إلهًا للعالَم، ومصدرًا لكلّ شيء، وليس منضبطًا في إطار أيّ منظومةٍ عُليا حاكمة.
وهناك أسئلةٌ كثيرةٌ مرتبطة بعدّة قضايا، يمكن أن نشير إلى بعضها على النحو الآتي:
– هناك سؤالٌ يتعلّق بالنظام السياسيّ الأقدر على مواجهة الكوارث. فقد بدا نموذجُ “الحكم الواحد” أقدرَ على مواجهة كوارثَ من هذا النوع، في حين بدت جليّةً عوراتُ النُّظُم التي سمحتْ، من خلال التركيز على المسؤوليّة ذات الطرفيْن، الدولة – الفرد، بضرب المنظومات الاجتماعيّة (كالأسْرة وتماسكِها) وضربِ التماسك الاجتماعيّ المرتكز إلى علاقات القرابة في الدرجة الأولى. ذلك أنّ تماسُكَ الأُسَر، فضلًا عن وجودها، هو إحدى آليّات مواجهة الفيروس الحاليّ. وهذا الأمر لا يقوم على اجتماع الأفراد قسرًا (نتيجةً لقرار الدولة، مثلًا، لزومَ الحَجْر المنزليّ)، بل يقوم على وجود الأسرة ناظمًا للعلاقات بين أفرادها؛ وهي علاقاتٌ قوامُها التواصلُ الناشئُ من الإحساس بالعاطفة المتبادلة وبالآخر. وهذه مسألةُ ثقافةِ حياة: فإمّا أن تكون موجودةً، وإمّا أن تكون معدومةً ضمن حياة المجتمع.
– وهناك سؤال مرتبط بالرؤية التي تحكم وجودَ الإنسان الحيّ، وهل يمكن اختزالُه بالعمل والإنتاج واللذّة الفرديّة؟
– وهناك أسئلةٌ ملحّةٌ عن العلاقة بين السياسة والأخلاق، والتعاطف والتعاون بين الدول، وأسئلة ترتبط بالتوسّع. تضاف إلى ذلك أسئلةٌ عن دور الذكاء الاصطناعيّ في المرحلة المقبلة، ووظيفة المؤسّسات الدوليّة (كالأمم المتّحدة والبنك الدوليّ ومنظّمة التجارة العالميّة)، وموازنات الدول تجاه البحث العلميّ.
– إضافةً إلى أسئلةٍ تتعلّق بالحرّيات (كحرّية التعبير والإعلام)، وأخلاقيّات المهن، وغير ذلك ممّا فرض نفسَه على طاولة التفكير بعمق.
حول ثنائيّة العلم والدّين
من بين الأمور التي طَرحتْ نفسَها بقوّةٍ في المجال الدينيّ العلاقةُ بين الدّين والعلم، والفهمُ الخاطئُ المتبادلُ بينهما. وهذا ما نريد التركيزَ عليه في هذه المقالة، وذلك في عدّة نقاطٍ وخلاصة.
أوّلًا: الرؤية الدينيّة للعلم. تؤمن المنظومةُ الدينيّةُ أنّ خالقَ الكون ومشرِّعَ الأديان واحدٌ، وأنّ هذا الخلقَ جاء وفق قوانينَ وسُننٍ؛ قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنّه الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)،[1] وقال تعالى: (ويتفكّرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربّنا ما خلقتَ هذا باطلًا سُبحانَك)،[2] وقال: (وما خلقْنا السماءَ والأرضَ وما بينهما باطلًا ذلك ظنّ الذين كفروا)،[3] إلى كلِّ الآيات التي تشير إلى ظواهرَ كونيّةٍ محدّدةٍ وثابتة، كقوله تعالى: (لا الشمسُ ينبغي لها أن تدركَ القمرَ ولا الليلُ سابقُ النّهار وكلٌّ في فلكٍ يسبحون)،[4] أو قوله: (وأرسلنا الرياحَ لواقحَ)،[5] أو ما يرتبط بمراحلِ خلقِ الإنسان، أو بالقوانين التاريخيّة للتغيير: (إنَّ اللهَ لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسِهِم)،[6] أو (ظهرَ الفسادُ في البرّ والبحرِ بما كسبَتْ أيدي النّاس ليُذيقَهُم بعضَ الذي عملوا لعلّهم يرجعون)،[7] وما إلى ذلك ممّا نفهمه على أنّه توجيهاتٌ تحفيزيّةٌ للبحث والاكتشاف والمعرفة
هذه السُّنن هي أيضًا سننٌ وقوانينُ ثابتةٌ لا تتغيّر: (ولن تجد لسُنّةِ الله تبديلًا)،[8] (لا مبدِّل لكلماته)؛[9] و”كلماته” عبارةٌ عن إرادة الخلق كما يَظهر لمتتبّع المفردة في مواردها في القرآن الكريم. وهذا الثبات هو الذي يحقّق للعلم ديمومتَه، ويعطي للبحث العلميّ جدواه.
استنادًا إلى كلّ ذلك، نستطيع أن نجد بوضوحٍ أنّ مجالَ البحث العلميّ هو الكون، الذي هو العالمُ المحسوسُ لنا بشكلٍ أو بآخر. والبحث فيه هو الذي قاد المسلمين سابقًا، والغربَ أو الشرقَ سابقًا ولاحقًا، إلى انبثاق العلوم المتنوّعة، البحتةِ والإنسانيّة؛ وهذا ممّا لم يختلفْ فيه جهدُ المسلمين عن جهدِ غيرهم. أكثر من ذلك: إنّ هذا هو أيضًا الشرطُ الأساسُ للبحث عن الله والإيمان به، استنادًا إلى أنّ العالَم يدلُّ على خالقِه ومدبِّره، وكذلك على صفاتِه، اعتمادًا على دلالة الأثر على المؤثِّر.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن تصنيفُ العلوم، التي تُعنى بالطبّ اليوم مثلًا، تصنيفًا “دينيًّا”: لنكونَ أمام علومٍ “كافرةٍ” لأنّها أُنتجتْ من قِبل “كافرين،” بحيث يجدُ المؤمنُ نفسَه غيرَ معنيّ بها، أو يجدُ أنّ الأخذَ بها يُوقعه في التناقض مع إيمانه ودينه؛ أو لنكونَ أمام علومٍ “غربيّةٍ” يشعر الشرقُ أنّها غريبةٌ عنه، أو بالعكس. فما دامت المسألةُ في نظرة المؤمن هي مسألةَ سُننٍ وقوانين، خلقها اللهُ مع الكون، فإنّ الجهدَ البشريّ المتوجِّهَ نحو استكشافها واحدٌ، والخبرةَ البشريّةَ خبرةٌ يُعنى بها كلُّ البشر – – مَن آمنَ ومَن كفر.
ومع ذلك، فثمّة اختلافٌ بين الرؤية الدينيّة والرؤية غيرِ الدينيّة في النظر إلى العالم. وهذا الاختلاف ينعكس في مسار البحث في العلوم. فغيرُ الدينيّ – بشكل عامّ – يقتصر على البحث في الظواهر، والوصولِ إلى تفسيراتٍ سببيّةٍ في ما بينها، ولا يعنيه شيءٌ ممّا وراءها. أمّا الدينيّ فيتابع البحثَ عمّا وراء الكون والخلق ومظاهرِ الوجود الحسّيّ والمادّيّ، ليقول – في نتيجة البحث – إنّ ذلك كلَّه عبارةٌ عن “آياتٍ” تدلُّ على مكوِّنٍ وخالقٍ ومُوجِدٍ لا يَخضع لقوانينها، لأنّه مقوننُها، بل هو المصدرُ الذي يُكسِبُ هذا الوجودَ معناه وجوهرَه وهدفيّته، وهو أيضًا منبعُ القيم، وإليه ينتهي أيُّ سؤالٍ مرتبطٍ بها.
ثانيًا: الدّين ووظيفةُ العلم. في مسار الدينيّ إلى البحث العلميّ، وبعد عمليّة الاكتشاف والاهتداء إلى قوانين الظواهر والسُّنن، يأتي دورُ استثمارها. وهذا الاستثمار على نحويْن:
– الأوّل: الاستثمار المباشر، كالاستفادة من نتائج الطبّ في العلاج، ومن علمِ الاجتماع في معالجة المشكلات الاجتماعيّة، ومن الاقتصاد في بناء اقتصاديّات نافعةٍ للشعوب، وما إلى ذلك. وهذا هو التطبيقُ المباشرُ للاكتشافات العلميّة في جزئيّاتها المناسبة لها؛ وهذه لا ينبغي أن يكون عليها اختلافٌ في المبدأ. ولكنّ الواقع أنّ جانبًا آخر يَحْكم عمليّةَ الاستثمار، وقد يغيِّر الوجهة في الاستفادة، وهو ما نعالجُه في النحو الثاني.
– الثاني: الاستثمار المرتبط بالقيم، وهو الذي يحدِّد كيفيّةَ الاستثمار ومداه وآليّاتِه. وهنا يفترق الدينيُّ عن غير الدينيّ جوهريًّا. ذلك لأنّ ركونَ الدينيّ إلى منظومة القيم التي تَحْكم السلوكَ، شرعيًّا وأخلاقيًّا، انطلاقًا من إيمانه، يَفترض أن يتحرّكَ ذاتيًّا نحو استثمارها في طريق الخير، لا الشرّ. ولا يعني ذلك حتميّةَ أن يستثمرَها فعليًّا كذلك؛ فهذا خاضعٌ لمدى إيمانه ولبناء شخصيّته تربويًّا وأخلاقيًّا وشرعيًّا. ولكنَّ ما نريد قولَه هنا هو أنّ غيرَ الدينيّ لا مُلزِمَ ذاتيًّا له كي يستثمرَ في طريق الخير، بل ما يُلزمُه هو عواملُ التربية أو سلطةُ القانون – – وهذه يلتزمها الإنسانُ كما يلتزم بأيّ شيءٍ عَرَضيّ في الحياة.
والمقصود هنا هو الناحية الفلسفيّة الناشئة من نظرة الدينيّ إلى الوجود، وهي التي تجعل المنظومةَ القيميّةَ فوق الإنسان من الناحية الوجوديّة، والتي هي ملزِمةٌ له بنظره انطلاقًا من صفته كعبدٍ مملوكٍ للخالق. أمّا المنظومة الأخرى المقابلة فلا تنطلق منسلطةٍ عليا وجوديّة، بل من سلطةٍ تفرضها وظيفةُ الأشياء وخياراتُ الإنسان المحدودة.
على سبيل المثال، يَطرح وباءُ كورونا إشكاليّةَ وجهةِ العلاج بين الدّول، وماهيّة المعايير التي تستند إليها هذه السلطةُ أو تلك للأخذ بوجهة العلاج هذه أو تلك. ثمّة جدلٌ ثار في بريطانيا مثلًا حول اعتماد الحكومة استراتيجيّةَ “مناعة القطيع” (Herd Immunity). والهدف من هذه الاستراتيجيّة”أن يُصابَ 60% من البريطانيّين من أجل تشكيل مناعةٍ ضدّ الفيروس… وذلك عن طريق تمديده وجرِّه وصولًا إلى فترة الصيف، حيث الضغطُ أقلُّ على المستشفيات.” وتركِّزُ الحكومةُ على إنقاذ حياة الأشخاص الأكثر هشاشةً أمام الفيروس، الأمرُ الذي قد يرجِّح لدى بعضهم – كما نُسب إلى وثائقَ سرّبتها صحيفةُ غارديان البريطانيّة – إصابةَ ثمانية ملايين شخص سيحتاجون إلى التدخّل الطبّيّ لمواجهة أعراض الفيروس، مع توقّع وفاة نصف مليون شخص.[10]
لا نريد الدّخولَ على خطّ هذا الجدل. ولكنَّ هذا الأمر يطرح بقوّةٍ النقاشَ الأخلاقيَّ للجوء إلى مثل هذه الاستراتيجيّة في ظلّ توفّر خياراتٍ أخرى ولكنّها قد تتطلّب تغييرَ نمط الحياة أو النظام الاقتصاديّ أو غير ذلك ممّا أشرنا إلى بعضه أعلاه. هذه الاستراتيجيّة قد يَنظر إليها البعضُ على أنّها تشبه فكرةَ “الانتخاب الطبيعيّ” الذي يعني أنّ “البقاء للأقوى،” أي الذي استطاع أن يطوّر جهازَه المناعيّ عبر التعرّض للفيروس نفسه، لا عن طريقة حقنه باللقاح.
مثالٌ آخر في هذا المجال، هو النّظرُ إلى الفرد نفسِه نظرةً اقتصاديّة: فيتمّ تحديدُ قيمةٍ ماليّةٍ له، وعلى أساسها يجري تحديدُ ما إذا كان التدخّلُ مُربِحًا للاقتصاد أو غيرَ ذي جدوى أو مخسِّرًا. هنا لم تعد للإنسان كرامةٌ في ذاته، ولا أهمّيّةٌ في وجوده نفسه، ولا عبرةٌ بنوعيّة الحيّز الوجوديّ الذي يستحقّه ما دام موجودًا؛ بل يتحدّد الإنسانُ وفق ملاءمته للاقتصاد، ومن ثم وفق ملاءمته للنظرة إلى هذا الاقتصاد، فضلًا عن ملاءمته للمتحكّمين فيه. وهنا نستطيع أن نلمحَ بعضَ الكلام الخافت الذي يطفو على السطح عن موارد الأرض المحدودة قياسًا إلى كثرة السكّان، وبعضَ النظريّات الاقتصاديّة التي تتحدّث عن طبيعة النموّ في الموارد وطبيعةِ النموّ السكّانيّ والخلل الذي يمكن أن يُحْدثه ذلك.
في مقابل ذلك، يمكن أن نلمح أمريْن في خيارات الدينيّ:
أ – ستختلف رؤيةُ الدِّين، الذي يرى أنّ قيمةَ الحياة هي قيمةٌ عليا ومركزيّة، انطلاقًا من احترام الإنسان كلّه، وأنْ ليس للإنسان أن يتسبّبَ في إماتة أناسٍ بغير ذنْبٍ، بل يجب العملُ على إنقاذ كلِّ نفسٍ ما دام ذلك في قدرتنا، ولكنّنا نقبل أن يموتَ أناسٌ لأنّنا لا نملك شيئًا أمام قدَرهم. هذه رؤيةٌ ستحتِّم اللجوءَ إلى خياراتِ تدخّلٍ مختلفة، كما صنع النموذجُ الصينيّ مثلًا في الحدّ من انتشار الفيروس، ومن ثمّ الحفاظ على أكبر قدْرٍ ممكنٍ من الأنفس – – بمعزلٍ عن أنّ التدخّل الصينيّ قد لا يكون وفق خيارٍ دينيّ، وإن التقى مع الوجهة الدينيّة عمليًّا.
ب – سيبدو البحثُ لدى الدينيّ مختلفًا في مدى حسمه، ابتداءً، لهذا اللون من التفكير الاقتصاديّ نفسه، لو قبلنا بهذا الأخير. فالدينيّ معنيّ بالبحث عن براديغم اقتصاديّ آخر يَحْكم النظرةَ والتعامل إذا كان البراديغم الحاليُّ مُخِلًّا بالمنظومة القيميّة. هنا، المنظومة الدينيّة واضحة في تأثيرها في خيارات التدخّل ووجهتِه، في مقابل المنظومة اللادينيّة التي لا يُلْزمها شيءٌ إلّا بمقدار ما تُلزِمُ نفسَها.
إنّ الوجهة هنا تتحدّد وفق مقتضيات الإيمان بوجود خالقٍ لهذا الكون، وبالتالي مالكٍ لهذا العالم بكلِّ ما فيه، وهو الذي يحدِّدُ للإنسان وجهةَ الاستفادة ممّا يَنتج من هذا الكون، وفق مبدأٍ حُدِّدَ للبشريّة منذ وجودها الأوّل: (قلنا اهبطوا منها جميعًا فإمّا يأتينَّكُمْ منّي هدًى فمَن تبعَ هدايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزَنونَ. والذين كفروا وكذّبوا بآياتِنا أولئكَ أصحابُ النّار هُم فيها خالدون).[11]
ثالثًا: الدِّين ومتسلّقوه في ظلّ الأزمات. تشكِّل الأزماتُ عناصرَ ضغطٍ على مشاعر الإنسان. والأزماتُ العالميّةُ ذاتُ التأثير السريع والخفيّ تسبِّب درجاتٍ عاليةً من التوتّر والقلق وتدفع إلى اليأس. وهذا، في حدّ ذاته، يشكّل بيئةً خصبةً للتعلّق بقشّة أملٍ تدفع عن الإنسان كابوسَ هذا اليأس، وبذرّةِ طمأنينةٍ ولو واهمةً تزيح عن كاهله شيئًا من التوتّر. ولكنّ هذا يشكّل أيضًا بيئةً خصبةً لانتشار التنبّؤات الغيبيّة والأفكارِ الدينيّةِ التي تتجاوز العالَمَ وأسبابَه إلى الماوراء الخارِق، وإلى ما له صلةٌ بنشاطِ صنفٍ من رجال الدّين، فضلًا عن نشاط العرّافين في المجال غير الدّينيّ. وهذا من الجوانب التي نشّطتها وسائلُ التواصل الاجتماعيّ التي أتاحت لأيِّ فردٍ في هذا العالَم فرصةَ التعبير عن رأيه وفكره. ولأنّ عالم التواصل الاجتماعيّ انعكاسٌ لما يجري في العالم الحقيقيّ، فإنّ التفاهة والضحالة والسطحيّة والتخلّف الموجود في هذا العالم سيفرض نفسَه بطبيعة الحال في العالَم الافتراضي، وسيكثّف مشاعرَ الحنق على ما هو دينيّ تبعًا لتكثيف المنشور في وسائل التواصل الاجتماعيّ.
والحقيقة أنّ هذا الأمر سيضع الجهاتِ الدينيّةَ على مبضع التصنيف:بين جهاتٍ ممثِّلةٍ نتيجةً للأفكار التي تطرحها، وجهاتٍ غيرِ ممثّلةٍ استنادًا إلى المعيار نفسه. وعندئذٍ يمكن أن تنزع العلاقة بين الجماهير والجهات الدّينية إلى أن تكون أكثرَ حواريّةً ونقديّة، من دون أن تخلَّ بمعايير التقدير والاحترام والاقتداء وما إلى ذلك.
بتعبيرٍ آخر: يمكن أن نشهد إعادةَ تصنيفٍ لجماعة رجال الدّين، التي كانت ممثِّلةً على أساس الاعتراف الرسميّ، إلى جماعة دينية قائمة على منطق طرحها للأفكار، وعلى تمثيلها الأكبر لِما تعتقد به. لكنّ هذا كلّه يتوقّف على ازدياد منسوب الوعي الجماهيري العامّ للتمييز بين الأفكار العلميّة للدين، والأفكار غير العلميّة المستندة إلى الوهم أو الخيال أو غير ذلك من المصادر غير العلميّة.
ومن المفيد هنا التشديدُ على أنّ العلوم الدينيّة، والمقصود هنا الإسلاميّة بالخصوص، هي علومٌ موضوعيّة، بمعنى أنّها خاضعة لمنهجٍ وقواعدَ أو أصول (بحسب الاصطلاح). والبحثُ فيها يتمّ اختبارُه موضوعيًّا انطلاقًا من كلِّ ذلك، سواءٌ في العقيدة أو الفقه أو الأخلاق وما إلى ذلك. وعليه، يمكن النظرُ إلى الدّين كمجالٍ يحتضنُ الحركةَ الفكريّةَ لعلماء الدّين. وهؤلاء ليسوا واحدًا، إذ قد تختلف مناهجُهم واجتهاداتُهم في فهم آيةٍ أو رواية، أو في توثيقِ نصٍّ، أو في تصحيح نسبة كتابٍ إلى عصرٍ ما أو مؤلِّف ما، أو في علاج الأدلّة المتعارضة، أو في إدخال بعض الأدوات من علومٍ أخرى، وغير ذلك؛ الأمرُ الذي يجعل من الاجتهاد الفقهيّ عمليّةً معقّدةً وتتطلّب مستوًى عاليًا من التخصُّص.
الأزمات التي تخلقُ نوعًا من المناخ المشترك تثير بدورها حساسيّةً ما تجاه بعض الأفكار، التي يستسهل بعضُ الناس قبولَها، وهي الأفكار التي لا تكلّفهم كثيرًا، ومصْدرُها غالبًا العاطفةُ التقديسيّة أو الخيالُ الخصبُ أو النوايا النفعيّة. وعليه، يمكن النظرُ إلى الأزمات على أنّها فرصٌ لغربلة المجال الدّينيّ وتصفيتِه ممّا يَعْلق به من الطفيليّين الذين فرضتهم ظروفُ الغفلة. وهذا رهنٌ بمساهمةٍ لا بدّ من أن تقوم بها الجهاتُ الدينيّةُ المتخصِّصة، التي قد يكون صوتُها خافتًا أمام نزعات العاطفة والقداسة الموهومة، ولكنّها تؤسِّس لفترةٍ انتقاليّةٍ من خلال طريقة مقاربتها العلميّة التي تدفع الخرافةَ جانبًا. هذه الفترة الانتقاليّة، لمرحلة ما بعد الأزمة، تحدّياتُها مختلفةٌ عن تحدّيات ما قبل الأزمة، وتتطلّب طاقاتٍ من نوعٍ مختلفٍ عمّا كان يتصدّر المشهد.
وأخيرًا، فإنّ الأزمة الحاليّة، التي تشبه الزلزالَ فعلًا، تضع المنظومات جميعًا أمام استحقاقاتٍ كبيرة، ذاتِ علاقةٍ بضرورة الإجابة عن أسئلة كثيرة: منها ما كان موجودًا لكنّه خافت، ومنها ما يُلزم بضرورة النظر من زوايا أخرى مستبعدة، ومنها ما يفرض التواضعَ الإنسانيّ الذي يفتح المجالَ أمام نزول بعض الأفكار من عرشها لتحاكي أفكارًا أخرى كانت توضع في خانة “التخلّف.”
إنّ الدينيّ لا يَطْرح نفسَه هنا من خلال رؤيةٍ ينزاحُ فيها الإنسانُ من محوريّته، بل من ضرورة تثبيت هذه المحوريّة من خلال وصفه بأنّه “الخليفة” المسؤولُ عن إدارة الحياة وتطويرها وفق المنظور الإلهيّ السننيّ والقيميّ. وذلك التثبيت ضروريّ حتّى لا يهتزَّ الإنسانُ فيهتزَّ معه العالَمُ.