In God We Trust
انطبعت جملة “في الله نثق” المكتوبة على النقد الورقي والمعدني للدولار الأمريكي في ذهن الملايين من الناس حول العالم منذ عقود خلت. لن أتعرض للأسباب التي جعلت العملة الأمريكية تحمل هذا الشعار إلى يومنا هذا فهذه قصةجميلة ولها سرد آخر و فيها أبعاد لا تمت للدين بصلة، إنما في أحد تشعباتها كانت تشنيعا بالاتحاد السوفيتي السابق ودولة الصين إبان المد الشيوعي. إلا أن جائحة وباء كورونا الحالية كشفت تناقضات الادعاءات المتضاربة بشكل مروع ويقين ملموس وانفصال الممارسة من الادعاء لدى الكثير من الناس في كثير من المناطق حول العالم. لن أتحدث عن المال أو العملات ولاسيما في تجار العقائد أو الأيديولوجيات
والشعارات البراقة.
في هذا المقال سأتكلم عن بعض المواقف التي حدثت لي في بعض المناطق حول. العالم وتنم عن سلوكيات أصحابها
وأترك كامل الحق للقارئ الكريم في خلق الرابط بين تلك المواقف، واستخلاص ما يود أن يستخلصه بعقله الرزين وتفكيره المنطقي.
الموقف الأول:
عام ١٩٩٦، ذهبت لمنطقة تُدعى هاكوني اليابانية Hakone حيث تشتهر تلك المنطقة بالينابيع الكبريتية الساخنة. منطقة هاكوني تقع على بعد حوالي مائة كيلومتر غرب العاصمة اليابان، طوكيو.هناك
وبعد أن دفعت رسوم الدخول لأحد المسابح
وقدر الرسوم للشخص الواحد 1000 ين ياباني أي مايعادل ١٠ دولار، يومذاك. فوجئت بعد دخولي للمسبح المفتوح وجلوسي في أحدى البرك المتناثرة والمعدة للاستحمام
وتنقيع الجسد، فوجئت بتصويب أنظار كل الحضور من السباحين نحوي. أوجستني الخيفة نوعا ما لكوني الوحيد غير الياباني هناك
ونزيل مستجد على الثقافة اليابانية واليابانيون ولا أدرك سبب تصويبهم الأنظار نحوي. وكنت الوحيد المرتدي لسروال السباحة وأما الآخرين ،
ودون غيبة لهم والله يستر عليهم ، كانو من دون أي ملابس. أي (سلط ملط). ولم أعلم بأن من شروط السباحة في مسابح البرك الكبريتية الساخنة هنالك هي أن يكون المرتاد لها يلج فيها كما ولدته أمه لكون الشروط مكتوبة باللغة اليابانية على لوحة
ومثبته عند المدخل. والمسبح عبارة عن مجموعة من البرك الكبريتية الحارة الصغيرة المتناثرة والمتجاورة وفي الهواء الطلق. تجاهلت نظرات اليابانيين المحيطين بي في برك السباحة المجاورة للبركة التي غمست جسدي بها وكنت وحيدا في تلك البركة، وحاولت أن استمتع بوقتي متأملا الأشجار والسماء تارة وزقزقة العصافير والبلابل تارة أخرى. فالبرك مفتوحة على السماء حيث الطبيعة والأشجار وحفيف الرياح المداعبة للأشجار. فجأة اقترب نحو مكان جلوسي رجل كبير السن، وأشار نحو سروالي وقال بضع كلمات لا أفهمها، وهو في حالة غضب، لم أرد عليه وتجاهلته.
وبعدمضي بعض الوقت ، رجع الرجل كبير السن ذاته، وأخذ يرعد
ويزمجر قائلا بعض الجمل اليابانية بصوت مرتفع
ومشيرا نحو سروالي، ثم أدار إصبعه نحو المخرج و قال كلمة مفادها “انصرف إلى هناك “. التقط سمعي من كلام الرجل، كلمة يابانية ” دآميهَ” وحسب فهمي للمعنى الحرفي لتلك الكلمة اليابانية حينذاك ،تعني ” ممنوع/ محظور/ لا يجوز ” . فقلت لذاك الرجل: ” هل بالإمكان أن تعلمني ما تريد مني متحدثاً معي باللغة الانجليزية “. سكت ولم ينطق ورجع نحو أصحابه. ثم أدرت وجهي نحو الاخرين وقلت لهم ظ: أنا لا أتحدث اللغة اليابانية، لطفا إخباري باللغة الإنجليزية بما يريد أن يقوله هذا الرجل. لم ألق أي صدى لما ناشدتهم إياه، ولكن بعد مضي بعض الوقت لم أجد من المناسب أن أكون في مكان مملوء بسباحين (زلط ملط) ومستنكرين علي كوني المتستر والمحتشم الوحيد فيهم. ياسبحان الله هل هذا الأمر من مصاديق عناوين صدام الحضارات! خرجت من المسبح واتجهت نحو الاستقبال وشرحت للموظف الحدث، وقلت له : إني لم أكن ملتفتا للاختلاف الثقافي،
وطالبتهم برد مبلغ رسوم الدخول لأني سأتصرف. إلا أنهم رفضوا أن يردوا المبلغ وعللوا ذلك بوجوب خلع سروال السباحة لأنه إجراء صحي وقائي. فقلت
وأنا منصرف لا أعلم بماذا أنت تدين سواء بدين بوذا أو كونفوشيوس أو الديمقراطية أو حتى الألحاد، إلا أن إلزام مرتادي المسابح بما لايليق ويمس الحشمة أمر غير مقبول. إلى جانب أن الشروط غير مكتوبة باللغة الإنجليزية حيث يرد الأجانب والسياح كما هو الحال بالنسبة لي. لطفااحترام التعدد. رفضوا إرجاع المبلغ
وانصرفت دون استرداد رسوم الدخول .
موقف ٢:
في منطقة مجاورة لشاطئ عالمي مشهور يدعى شيخفنجن Scheveningen الواقع امتداد مدينة لاهاي الهولندية، أسهبت مستمتعا برياضة المشي حتى وصلت لمنطقة ما بعد التلال الرملية وبعيدا عن منطقة فندق كورهوس الشهيرة.
وهناك أحسست بشيء من العطش وبعض الجوع فذهبت لمنطقة من الشاطئ يبدو أنها شبه خاصة أو مخصصة
ومنعزلة، وفور اقترابي من محيط مدخل تلك المنطقة، باغتني أحد الموظفين هنالك بالقول : لا يمكنك أن تدخل بملابسك هذه ، ولا بد لك أن تخلعها كلها قبل الدخول للداخل “. فقلت له إني لا أنوي السباحة ولكن أصابني بعض العطش، وكل ما أريده شراء قنينة ماء من المدخل، ولكوني بعيد عن الواجهة البحرية المركزية ببضع كيلوات المترات، فأرجوا مراعاة ذلك. فقال الموظف لي: عذرا لا يمكنك أن تدخل إلا بعد خلع كامل ما ترتديه من ملابس كما يفعل كل المرتادين لهذا المكان المخصص من الشاطئ، فهذا الجزء مخصص لمن يؤمن بالطبيعة التجريدية للإنسان. فقلت له: قصدك لابد أن أكون مؤمنا بنظرية معينة وأن أمارسها، وإلا لن يسمح لي بالدخول لشراء قنينة ماء . صمت ذاك الشخص، فقلت له: هذا مبلغ قنينة الماء ويمكنك أن يجلبها لي إذا كان هذا الإجراء مقبول منك. رد الموظف: لا يمكنني أن أساعدك. فإنه غير مسموح لي بفعل ذلك. فقلت له:
أين إنسانيتك وضميرك والحرية التي تدعيها؟ أين قيمك الإنسانية من ممارسة كهذه، أين التحضر الذي تدعيه.
ثم أقفلت راجعا وأنا في حالة غضب من رده وسلوكه.
موقف ٣:
في أحد السنوات الماضية، اتفقت مع حملة للحج والعمرة للذهاب معهم لموسم حج ذلك العام. وعند مكتب التسجيل تصادفت رؤية أحد أصدقائي المقربين عند ذات المكتب ولنفس الغرض. بعد إلقاء السلام والتحية على صديقي
والحديث معه، اتفقنا على أن نكون في ذات النزل خلال الإقامة بمكة المكرمة في موسم أداء فريضةالحج. وكان الإداري يردد بشكل مستمر جملة )نحن خدام لضيوف بيت الله). استفسرت من الإداري إذا يمكنني و صاحبي حجز ذات الغرفة خلال أداء مناسك الحج، لكوننا نعرف بعضنا البعض، ولا نريد أن ينتهي بأي منا المطاف بالنوم في مكان مع أحد يشتكي حالة شخير. فقال الإداري: أنا ما أعرفك
ولا أشوفك تماشي الشيوخ. ولذا لا يمكنني أن أعدك بشيء. كتمتها في صدري. ولاحقا اكتشفت بأن الغرف توزع بنظام (الزم لي واقطع لك) حتى في الإطلالات وموقع الدور والسعة الاستيعابية حيث عدد الأسرة وجهوزية الأجهزة كالمكيفات
والمغاسل . وعندما وصلت مكةالمشرفة اكتشفت بان حتى تأكيد حجز تذاكر الطائرة رجوعا تتم فيها مفاضلة وأولويات
ومعرفة في تأكيد الحجز. مررت على ذات الإداري
وقلت له: هل أنت متأكد بأنك تعتز بخدمة ضيوف بيت الله أم تعتز بخدمة من تعرفهم أنت. أشعر بأنك تتاجر بأسماء فلان وعلان وتجعل الكلام المنمق مطية لبلوغ مرادك وتتسلق على ظهورالسذج وتعيش الازدواجية.
أستغرب لمن لديه سجل حافل بالمواقف
والسلوكيات السلبية تاريخيا مع الآخر يتكيف معه، أن لا ينشغل مع وجود الجانحة بمراجعة نفسه
وتقويم سلوكه حتى يطابق قوله فعله
ويرتجي من ربه أن تنقشع هذه الجانحة وهو في إنسانية وسلوكيات أفضل.
لعل جائحة كورونا الحالية أوقفت الجميع على مواقف إنسانية كثيرة تؤرقه وتسلب النوم من عينه قلقا على المصير وخوفا من المجهول
وخشية أن يكون هو أحد الضحايا المستقبليين لوباء فيروس كورونا.
و من تلك القصص الواقعية المؤلمة ما وقع على سمعي بأن امرأة لمواطن عربية ومسلمة قبل عدة أشهر أضحت أرملة. وهي مع أبنائها الصغار يعيشون على الكفاف وبما تجود به أيدي أهل الجود قبل الجانحة، قد تقطعت بهم السبل بسبب الحجر المنزلي الصحي. ولكون الارملة العربية وأطفالها ليسوا مدرجين ضمن اي اعاناة رسمية وليس لهم أي اتصال بعالم التطبيقات الذكية، ولا يوجد لها أي إمكانيات مالية، ازدادت الدنيا ظلمة في عينيها وأعين أطفالها يوما بعد يوم.
بعد سماع بعض الصالحين بواقع حالهم
وبحمد الله أيقظ الله الحميد المجيد لها
ولفراخها بعض من أهل البر من الناس يعينوهم على قضاء أمورهم.
إلا أن القلق يزداد مع طول أمد المدة. هذه الصور المؤلمة عند سماعها لم أرويها لتسليه أو ملء الفراغ الزمني وإنما أطلقها كنداء لك ولي وللجميع في أن نتلمس حاجات الناس من حولنا ولاسيما المتعففين ممن هم حولنا وعندها يحق لنا أن فعلنا ما تجود به الأنفس أن نقول ” بالله نثق”.
كنت أتمنى وأدعو صاحب كل ادعاء أن يتخلق بأخلاق ربه الذي يعبده أو المبادئ الأخلاقيات التي يدعيها. فإن كان يعبد الطبيعة فليجود للآخرين كما تجود الطبيعة. وإن كان يصنم بوذا أو كونفوشيوس فليكن حكيما ومفيدا كما كانوا. و إن كان عابدا لله بأي دين إبراهيمي (مسلما أو مسيحيا)، فليكن رحيما ورؤوفا كما هو الله العلي الكريم. وإن كان يسعى لتسويق الحقوق والحريات والكرام فلينطلق في مديد العون لأخوه الإنسان حيثما هو موجود. عندها فقط
وفقط، عند انطباق الأفعال على الأقوال يكون شعار بالله نثق “In God we Trust ” محل توقير وتكريم واحترام واعتزاز من الجميع نحو من يفعل شعاراته الجميلة على أرض الواقع.
Sent from Yahoo Mail for iPhone