الشر: معضلة أبيقور
في موضوعنا السابق (الشر ابتلاء إلهي) أشرنا إلى أن الإنسان في الحياة معرض لكل أنواع الابتلاء والاختبار، ومن بين ذلك أن يبتلى بالشر والخير معا.
والحقيقة أن وجود الشر إلى جانب وجود الخير في الحياة نتج عنه مشكلة كبيرة، وهي أن بعض الماديين والكافرين بالله عز وجل اتخذوا الشر وسيلة لإثارة الشبهات حول الدين والإيمان، إذ اعتبروا وجوده ينقض ما يقوله الإلهيون من عدل الله في قضائه، وحكمته في تدبيره، ورحمته بعباده، إذ كيف يكون عادلا في الحكم، وحكيما في التدبير، ورحيما بالعباد، وهو الذي سمح بوجود الشر، وجعله قانونا من قوانين الحياة؟!
ثم تطورت المرحلة من الشك أو التشكيك في العدل والحكمة والرحمة لتصل إلى إنكار وجود الله عز وجل، لتصبح مشكلة وجود الشر من المشاكل الكبرى والمعقدة التي يتم طرحها (كمبحث فلسفي للاعتراض على منظومة لاهوتية بعينها، عجزت عن أن تنشئ توافقا ضمن مقولاتها المعترفة بوجود الشر، والعاملة -في نفس الحين- على صياغة تصوّر انطلوجي للمؤمن، كما تُطرح بصورة أعمّ من طرف الملاحدة باعتبارها مانعا دون التسليم بوجود رب خالق للكون) .
ومن المشهور والمرجح بقوة أن الفيلسوف اليوناني (أبيقور) هو أول من أثار هذه الشبهة، حتى عُرفت به، ونُسبت إليه، بل وسميت باسمه، فأطلق عليها اسم (معضلة أبيقور) ومنه انتقلت إلى الأوساط العلمية لتكون محلّ اهتمام الفلاسفة والمفكرين والعلماء من ماديين وإلهيين على السواء.
@ أبيقور-إلماعة تاريخية:
وقبل أن نتعرف على منهج أبيقور في طرح هذه الشبهة، وكيف اعتبرها معضلة كبرى تواجه الإلهيين وعقيدتهم في الإله، لا بأس أن نأخذ عنه إلماعة تاريخية سريعة وخاطفة.
أبيقور فيلسوف من فلاسفة الإغريق اليونانيين، وُلد في (أثينا) أو (ساموس) سنة (342 ق.م)
كانت أمه (ساحرة) وقارئة للرقي والتعاويذ في المنازل، وأبوه معلم في بعض المدارس الإغريقية.
اهتم بالفلسفة ودراستها وهو في معيّة الشباب، وتلقى بعضا من علومه في (ساموس) وبعضها الآخر في (أثينا) حين هاجر إليها سنة (323 ق.م) على نحو التقريب، لكنه لم يمكث فيها إلا قليلا ثم غادرها إلى (كولوفون) وبقي فيها (12) سنة مكبا على البحث والدراسة معتمدا على نفسه، إلى أن أسس في عام (310 ق.م) مدرسة (مبتلين) التي نقلها بعد ذلك إلى (لمبساكوس).
وكان (بانفيل الأفلاطوني) و (فوزيفان الديموكوني) من أوائل الذين تتلمذ أبيقور على أيديهم في أول عهده واهتمامه بالفلسفة.
وفي سنة (306ق.م) عاد إلى (أثينا) ليؤسس -وهو في الخامسة والثلاثين من عمره تقريبا- مدرسته المعروفة باسمه، والمنسوبة إليه (الأبيقورية) وذلك في حديقة جميلة كان قد اشتراها فبنى فيها بيته ومدرسته التي بقي يدرس فيها طوال حياته، كما أوصى أن تبقى مدرسة بعد موته، ولذلك أطلق على تلامذته ورواد مدرسته (فلاسفة الحديقة) واستمرت مدرسته من بعده قرابة الستة قرون.
وكان تأسيسه لمدرسته قبل تأسيس (زنبون) للرواق (المدرسة الرواقية) بعام أو عامين، وقد كان التنافس بين هاتين المدرستين قويا وشديدا رغم وجود الكثير من المشتركات بينهما في الكثير من المواضيع.
ومن أشهر تلاميذ أبيقور (هيرمارك) الذي رأس المدرسة من بعده، و (وميترودور) و (بوليانوس) و (وكولوتيس) و (أبيرومينية) كما كان مؤلفا مكثرا جدا، حتى بلغت مؤلفاته قرابة (300) مجلد، ومن أهم مؤلفاته كتاب (في الطبيعة) يقع في (37) جزء، كما وضع ملخصا لفلسفته في (44) قضية أرادها أن تحفظ عن ظهر قلب، وله كتاب (القانون) في نظرية المعرفة، ومن كتبه في الأخلاق كتاب (في الخير الأسمى) وكتاب (ما يجب أن نتجنبه) وكتاب (في أنواع الحياة) ورغم كثرة كتبه ومؤلفاته إلا أن التاريخ -بكل أسف- لم يحفظ منها إلا القليل.
ولأبيقور آراء فلسفية في المعرفة والأخلاق والإلهيات…وغيرها، لا نرى ما يدعونا إلى عرضها الآن لخروجها عن صلب الموضوع.
وتوفي أبيقور سنة (270ق.م) بعد معاناة مع مرض (الشلل) الذي كان شديدا عليه، وترك وصية من بعده تعتبر من الوثائق التاريخية الواصلة إلينا عن طريق (روبوجين لا إرس) .
@ معضلة أبيقور
بعد هذه الإلماعة التاريخية المختصرة عن (أبيقور) نأتي الآن إلى صلب الموضوع عن (مشكلة الشر) المعروفة (بمعضلة أبيقور) كونه أول أو من أوائل الذين طرحوا هذه الإشكالية حتى نسبت إليه دون غيره، لنتعرف على ما يقوله في صياغته وطرحه لهذه المشكلة.
وفلسفة أبيقور في طرح ما سمي (بمعضلة الشر) فلسفة إلحادية، تبدأ بالطعن في الإله، وتنتهي بإنكار وجوده، فهو -أولا- يتساءل عما إذا كان الإله عادلا، ومثالا أعلى للخير، فلماذا توجد الشرور في الحياة؟!
ثم يضع لذلك أربع إجابات، كلها ترتكز على التشكيك في الإله وقدرته، إلى أن تصل إلى إنكار وجوده، وهي على النحو التالي:
1- يريد الإله منع الشرور، لكنه لا يقدر على ذلك، وهنا يصبح الإله عاجزا، غير كامل القدرة.
2- يستطيع الإله منع الشرور، لكنه لا يريد، وبهذا يكون هو أصل الشرور في العالم.
3- يستطيع الإله منع الشرور، ويريد منعها، وهنا نصبح أمام معضلة أخرى، وهي من أين تأتينا هذه الشرور، وما هو مصدرها؟!، وبما أن الإله قادر على منعها فلماذا لا يمنعها؟!
4- لا يستطيع الإله منع الشرور، وهنا يكون من الصعب الاعتقاد بوجود إله من الأساس، إذ كيف يكون الإله عاجزا ومحدود القدرة .
ويجب أن نلاحظ أن الفرضية الرابعة هي الفرضية الأولى ذاتها، وفقط في الأولى اتخذ منها دليلا على العجز وعدم وجود القدرة المطلقة، وفي الرابعة اتخذ منها دليلا على عدم وجود الإله من الأساس.
وفي عرضه لهذه النظرية يقول الشيخ كامل محمد محمد عويضة: (الكون لا يحتوي على الخير فحسب، بل يحتوي على الشر أيضا، فإذا كان الله مطلق القدرة كان في مقدوره أن يخلق كونا دون شر، وبما أنه لم يفعل، فهو المسؤول عن وجود الشر، كما هو مسؤول عن وجود أي شيء آخر، فهو لذلك ليس مصدر خير فحسب، وإذا بدأنا بافتراضنا بأنه مصدر الخير وحده، وأنه لم يكن بمقدوره أن يمنع الشر في الخليقة، لم يمكننا أن نعده مطلق القدرة، ثم إذا كان مطلق القدرة، وفي مقدرته لذلك أن يمحو الشر ولم يمحه، فإنه لا يقدر أن يكون مصدر خير فحسب، أو إذا كان مصدر خير فقدرته ناقصه) .
وبصياغة أخرى واضحة ومختصرة: (هل يريد الله أن يمنع الشر لكنه لا يستطيع، لو صح ذلك فلن يكون كلي القدرة، أم يستطيع لكنه لا يريد، لو صح ذلك فلن يكون كلي الخيرية، أم أنه قادر ويريد في آن واحد، فمن أين إذاً يجيء الشر؟) .
@ ملاحظة على منهج أبيقور:
ويجب أن نلاحظ هنا أن أبيقور تبنى في طرح هذه المعضلة ومعالجتها الفلسفة الإلحادية المرتكزة على الطعن في الإله وقدرته، والتشكيك في عدله ورحمته، وصولا إلى إنكار وجوده من الأصل، وتغافل تماما عن الفلسفة الدينية التي يمكنها معالجة هذه المعضلة معالجة كاملة من منطلق ديني وعقلي، دون أن تلجأ إلى التشكيك في الذات لإلهية المقدسة، ولا أن تضطر إلى إنكار وجودها.
وكما يقول أرنستو المصري: (من أبرز النقاشات الإلحادية حول لا منطقية الإله هو الاعتماد على ما يُسمّى (بمعضلة أبيقور) وهو فيلسوف يوناني، ويعتبر من أوائل من صاغ فكرة الفلسفة الجدلية في التاريخ، حيث طرح وجهة نظره بالنسبة للإله في هيئة سؤال يعتمد على توضيح وجهة نظر واحدة فقط دون وجود أي تحليل منطقي لأى رد ديني) .
وهو المنهج الذي سار عليه الماديون عموما في استغلال هذه المعضلة للطعن في الإله تارة، وإنكار وجود أخرى، كما هو الحال -مثلا- في الفيلسوف الليبرالي والاشتراكي البريطاني (برتراند أرتل ويليام راسل 18 مايو 1872 ـ 2 فبراير 1970م) الذي شطح بعيدا جدا حين أخذ من وجود الشر دليلا ليس فقط على عدم حكمة الإله وانعدام رحمته، بل اعتبره دليلا على اتصاف الإله به، فبما أن الله أوجد الشر فلابد وأن يكون هو شرير، فقال: (إن الموجود الذي يمتلك القدرة المطلقة، والذي خلق عالما يحتوي على الشر ليس بسبب الخطايا، فلابد وأن يكون هو نفسه شرير جزئيا) .
ولهذا فإن هناك من يرى أن (مشكلة الشر هي مشكلة الإيمان، بل هي مشكلة لأي رؤية تقوم على وجود خالق كلي القدرة، وكلي الخيرية، وحافظ للكون) .
@ سبب نسب المعضلة إلى أبيقور:
ومن المهم أن نشير هنا بأن نسبه هذه المعضلة إلى أبيقور ليس لأنه أول من أدرك وجود الشر وتحدث عنه، وذلك لوجود الشر وإدراك الإنسان له منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض، وهناك الكثيرون ممن تكلموا عن الشر من الفلاسفة والمفكرين الذين سبقوا أبيقور، كما هو الحال في سقراط (469ق.م-399ق.م) وأفلاطون (427ق.م-347ق.م) وغيرهما، ولكن ربما تمت هذه النسبة إليه لأنه أول أو من أوائل من أولوها كل هذا الاهتمام، وحاولوا صوغها في قالب فلسفي جدلي ليتخذ منها دليلا على عدم وجود الله عز وجل.
كما من المهم أيضا أن نشير إلى أننا لم نقف على كلام أبيقور نصا في عرض هذه المشكلة فيما وصل إلينا من تراثه وكلامه، وإنما اشتهرت هذه الشبهة عنه في القرون المتأخرة، بعد نسبتها إليه من قبل الفيلسوف الاسكتلندي (هيوم) في كتابه (Dialogues Concerning Natural Religion) ولعل الدكتور هاشم عزمي يشير إلى هذه المسألة حين قال: (تعتبر قضية وجود الشر في العالم من أكثر القضايا حضورًا وتأثيرًا في الفلسفة الإلحادية، ويرى العديد من الفلاسفة الملاحدة والمتشككين عبر التاريخ أن وجود الشر يمثل إشكالاً عسيرًا أو تناقضًا لا يمكن رفعه للمؤمنين بوجود الله، فها هو ديفيد هيوم David Hume يقول: وما زال السؤال القديم الذي طرحه أبيقور Epicurus بدون إجابة: هل هو يريد منع الشر لكنه لا يقدر؟ إذن هو عاجز.
هل هو قادر لكنه لا يريد؟ إذن هو بغيض.
هل هو قادر ويريد معًا؟ إذن هو شرير) .
كما نبّه الدكتور سامي عامري إلى عدم الوقوف على النص الأصلي لأبيقور، مؤكدا عدم معرفة حتى المصدر الأصل الذي وردت فيه هذه الإشكالية، مشيرا إلى اشتهارها عنه بعدما نسبها (هيوم) إليه في كتابه المذكور، وعقّب على ذلك بقوله: (ولسنا حتى واثقين أنها شبهة إلحادية قصد بها مضادة الإيمان، إذ قد يكون أبيقور قد أوردها كمسألة حريّة بالنظر دون القول بها) .
والذي أظنه أن كلام الدكتور عامري هنا غير دقيق، إذ لا يمكننا اعتبار هذه شبهة غير إلحادية صادرة عن أبيقور إلا في حالة واحدة، هي أن يثبت لدينا أن (هيوم) قد حرّفها ولم يذكرها كما هي، وإلا فهي -في أصلها وحقيقتها- لا تؤدي إلى الإلحاد، وأما في حال كانت فعلا بهذه الصورة التي عليها الآن كما نقلها هيوم عنه، فلا شك أنها تكون شبهة إلحادية بغض النظر عن مراد أبيقور من إثارتها، إذ أن القصد لا يغير ماهية الشيء ولا يخرجه عن حقيقته، وخصوصا أنه لم ينقل لنا عن أبيقور أي شيء في رد هذا الإشكال كما نقل الإشكال ذاته عنه.
نعم، قد تكون إثارتها فقط كمسألة حرية بالحث والنظر، وهذا -في حد ذاته- ممكن جدا، ولكن الأخذ بها يوصل إلى الطعن في الإله، وصولا إلى إنكار وجوده من الأصل، وهذا واضح جدا بالنسبة للمتأمل.
@ تفاعل الإلهيين مع الشبهة:
وقد تفاعل الإلهيون من يهود ومسيحيين ومسلمين، بل وغيرهم من أصحاب الملل والديانات مع هذه الشبهة، فقاموا بدراستها ومناقشتها، ومحاولة ردها بما يتوفر لديهم من أدلة عقلية ونقلية على السواء، إلى أن كثر الجدل فيها بين الماديين والإلهيين منذ عصر ما قبل الميلاد وإلى اليوم، حتى طرح فيها الكثير من الآراء والنظريات، وأُلفت فيها الكثير من المؤلفات، إضافة إلى ما أُفرد لها من فصول كاملة في كتب الفلسفة وعلم الكلام.
(لقد ظهرت تلك المشكلة في كافة الديانات بغض النظر عن كونها وضعية أو سماوية… وقد بدأ ذلك في الديانات الهندية القديمة، والصينية بجانب الفارسية والمصرية، حتى بات من الصواب القول: أن هذه المشكلة قاسم مشترك بين الجميع) .
ومع أن مشكلة الشر من القواسم المشتركة بين الملل الوضعية والديانات الإلهية، باعتبار أن الشر مشكلة إنسانية قبل أن تكون دينية، مما جعل البشر جميعهم يهتمون بها، ويبحثون موضوعها، إلا أن الفارق الجوهري في مشكلة الشر بين بعض الملل الوضعية وبين الديانات الإلهية، هو أن بعض تلك الملل تخبطت حتى في مفهوم الشر إلى حد أن جعلته (إلها) يتجسد في الطبيعة أو غيرها، مما جعلها بدل أن تبحث عن حل للشر وكيفية الخلاص منه، أو تحاول أن تدرسه وتتعرف على فلسفة وجوده في الحياة، راحت تعمل على محاولة إرضاء (الطبيعة) كي لا تنزل بها نقمتها، وتحل عليها غضبها.
أما الشر في الديانات الإلهية التوحيدية فقد أصبح (يعبر عن مشكلة ميتافزيقية، مردها إلى الإجابة عن هذا التساؤل: هل وجود الشر في العالم ضروري؟ بما أن الإله خير فلماذا جاء الشر في العالم؟ ومن هنا صارت المسألة ذات ارتباط بالجانب الغيبي في المعتقدات التوحيدية الكبرى من حيث المنشأ، كاليهودية الموسوية، والنصرانية العيساوية، والإسلام الذي جعله الله الدين الخاتم للجميع، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، ونظرا لارتباطها لدى المسلمين بنصوص الكتاب والسنة والمسؤولية الإنسانية) .