الغائب الحاضر
أمير الصالح
عندما تم طرد المحامي الشاب الناجح غاندي ذي البشرة الحنطية من قاطرة الدرجة الأولى عنوة وبشكل مذل من رجل أبيض في منطقة بريتوريا جنوب إفريقيا قبل تسعين سنة ماضية، أحس غاندي بضرورة استرداد الاعتبار لكرامته وكرامة مواطنيه في بلده الأم، الهند. وكانت الهند وجنوب إفريقيا يرزحان تحت الاستعمار البريطاني. لامس المهندس غاندي حجم الظلامة والامتهان الجاثم على مواطنيه بعد أن ذاق من الكأس نفسه. رجع غاندي إلى بلده الهند تاركا وظيفة مرموقة ودخل مالي عال، و نزع ملابسه الأنيقة واكتفى بلبس ما تنسجه يداه من قماش. حتى صار دولاب خيوط الصوف وآلة الخياطة إحدى محطات التغيير نحو الاكتفاء الاقتصادي للهند وحفظ كرامة الهنود من ذل الاستعمار البريطاني والبضاعة البريطانية يومذاك. وانطلق غاندي نحو انتزاع استقلال بلاده من المخالب البريطانية بإطلاق عدة محطات عمل سلمية
ومنها مسيره ٣٥٨ كيلو متر مشيا. وبعد أن نال الهنود استقلالهم، أصبح المهاتما غاندي أيقونة الهند الحديثة والأب الروحي لها. وهو بالنسبة لمعظم ابناء الهند “الغائب الحاضر ” لكبير صنعه.
قبل حوالى مائتي سنة، خوفا على نفسه اضطر والده وجميع أفراد أسرته وهو أيضا إلى تغيير النحلة والملة، أي تغيير هويتهم الدينية إلى البروتستانتية المسيحية. ولد كارل ماركس في ألمانيا ودرس في جامعاتها حتى نال شهادة الدكتوراه، وبعد عدة مقالات له تم حجب أي فرصة لإسناد التدريس الأكاديمي له، هذا ما قاله مريدوه.
وتمت محاصرة كتابات كارل ماركس وإغلاق الصحيفة التي يكتب فيها بمدينة كولون الألمانية، فارتحل إلى العاصمة الفرنسية باريس ثم ارتحل لمدينة بروكسل
وأخيرا فر إلى لندن بعد مضايقات عدة وقعت عليه. وقد كان يعيش كارل حياة الكفاف إلا أنه مايزال من الأكثر تأثيراً إلى يومنا هذا في صراع الطبقات الاجتماعية ولا سيما صراع العمال ضد أصحاب الرأسمالية ورموزها. ” لا أعرف أي شخص من السابقين قد كتب عن المال أكثر مني مع تملكي للنزر القليل من المال “، جملة قالها كارل ماركس صاحب النظرية الماركسية عندما أودع كتابه لصاحب دار نشر بلندن البريطانية. وإلى يومنا هذا نسمع ونرى آثار تحليله للصراعات بين الطبقات الاجتماعية في مجال توزبع الثروات وصراع حقوق العمال، وهو بالنسبة لمعظم العمال في العالم،” الغائب الحاضر” لقوة ماسطره في نظرياته وازدياد عدد مريديه في الصين وروسيا وبعض أجزاء العالم وأوربا الشرقية. الغريب أن كارل ماركس ولد في ألمانيا بإقليم بافاريا وترعرع فيها ولم يتبنَّ الغرب أفكاره وإنما تبنى أفكاره الروس والصينيون والكوبيون.
في عهد جائحة الكورونا، أحس الجميع بالضيق الشديد من الحجر المنزلي واستشعر أغلب الناس أن لم يكن جميع سكان الأرض بالحاجة الملحة لصلة الرحم والتواصل والتعاطف والرحمة و التضرع للرب بالدعاء. هنا أحس الجميع بأهمية تعاليم الأنبياء والرسل والأولياء الصالحون في ترسيخ مفاهيم المعروف والخير والرحمة، فأصبح الأنبياء هم ” الغائبون جسدا الحاضرون روحا ”
أحس جميع من كان محيطاً به أن تحليلاته الاقتصادية والاجتماعية والمهنية السابقة كانت صائبة إلا أنه حين تم إطلاقها لم يرَ لها الاحتضان. كان ذلك الشخص يجتهد في إيصال أكبر قدر من المعلومات والتحليل الفني ليبصر الآخرون ما يبصره. ولكونه مستقلاً، وليس تابعا لأحد أو مطبلا لشخص ما أو محسوباً على شلة محددة، فلاحظ عدم وجود أدنى تفاعل مع ما يطرحه من معالجات استباقية. بل على العكس من ذلك، ما سجله من التفاعلات وردود الأفعال أمر شبه محبط. عندما بلغ حد خنقه في التفاعل من قبل بعض أبناء جلدته في محيطه، تارة بدعوات وتارة اخرى بإطلاق تهم أو إلصاق زوراً صفات منفرة لحجب أي نشاط توعوي أو إبداعي او تميز، حتى أنه عند ترتيبه وطرحه لأي محاضرات تثقيفية أو إصدارات علمية يتم إجهاضها عمداً والتشكيك في قدراته. اختفى ذلك الشخص من الساحة الاجتماعية،
وبانطواء السنين وتعاظم أهوال الزمان تذكر البعض ممن لهم ذاكرة ما حاول تغييبه المتسلطون والمتنفذون والمتنكرون والإقصائيون من جهود
ومناقب لذلك الإنسان الفاعل والصادق والأمين. وجلس البعض يندب قلة استمطار أيام ذلك الشخص النقي المخلص الفاعل الذي ارتحل جغرافياً أو زمانيا.
حيثما نكون فإننا نعيش في مجتمع متعدد الاتجاهات والأقطاب والمصالح والنوايا، وهذا يستدعي منا أن نكون مستقلين فكرياً لاستمطار الخير بيننا قبل أفول أهله. مبدئياً كل إنسان نتوسم فيه خيراً، ومن الذكاء العاطفي والاجتماعي والرياضي احتضانه واستمطار الخير منه قبل أن يرحل من بيننا، أما إلى مكان آخر أو محيط آخر أو عالم آخر . ومن الجميل أن نكون بيئات حاضنة لا طاردة فالجميع بحاجة إلى طاقة أعضاء المجتمع.
أخيرا ً ، تطرق مسامعنا بين الحين والحين: أنت الغائب الحاضر . ونعلم حينها أن القائل يقصد تبجيل من غاب عنا جسداً ومايزال حاضراً فكراً أو قدوةً أو أثراً. احرص أن يقال في حقك ” الغائب الحاضر ” وليس “الحاضر الغائب “.