أقلام

الشر وخيرية الله

علي محمد عساكر

في مقالنا (الشر: معضلة أبيقور) أشرنا إلى أن من ضمن الإشكالات التي تثيرها هذه المعضلة هي أن الشر ينقض الادعاء بالخيرية المطلقة للإله، إذ كيف يكون متصفاً بالخير على الإطلاق، وهو قد أوجد كل هذه الشرور في العالم؟! فوجود الشر ينقض هذه الخيرية المدعاة، ويثبت اتصاف الإله بالشر!!
وهذا -كما أشرنا في مقال (الشر: معضلة أبيقور)- هو المنهج الذي سار عليه الماديون عموما في استغلال هذه المعضلة للطعن في الإله تارة، وإنكار وجوده أخرى، كما هو الحال -مثلا- في الفيلسوف الليبرالي والاشتراكي البريطاني (برتراند أرتل ويليام راسل 18 مايو 1872 ـ 2 فبراير 1970م) الذي شطح بعيداً جداً حين أخذ من وجود الشر دليلاً ليس فقط على عدم حكمة الإله وانعدام رحمته، بل اعتبره دليلاً على اتصاف الإله به، فبما أن الله أوجد الشر فلا بد أن يكون هو شرير، فقال: (إن الموجود الذي يمتلك القدرة المطلقة، الذي خلق عالما يحتوي على الشر ليس بسبب الخطايا، فلابد أن يكون هو نفسه شرير جزئياً).
ولهذا فإن هناك من يرى أن (مشكلة الشر هي مشكلة الإيمان، بل هي مشكلة لأي رؤية تقوم على وجود خالق كلي القدرة، وكلي الخيرية، وحافظ للكون) .
@ معنى الخير في اللغة والفلسفة:
قبل مناقشة هذه الشبهة، ومحاولة الرد عليها، حري بنا أن نتعرف أولاً على معنى الخير في اللغة والفلسفة.
الخير اسم، وهو مصدر خار، وصيغة مبالغة من خار، وجمعه: خيور.
يقول النمر بن تولب:
ولاقيت الخيور، وأخطأتني
خطوب جمة، وعلوت قرني
والخير ضد الشر ، ولعل جل إن لم يكن كل ما ذكر له من معانٍ في اللغة هي مصاديق أكثر مما هي تعريفات، ومما قل في تعريفه إنه (الحسن لذاته، ولما يحققه من لذة، أو نفع، أو سعادة).
والأصل في الخير هو اختيار الأفضل من بين الأشياء، وقد أوضح ذلك العلامة الطباطبائي خير إيضاح بقوله: (الأصل في معنى الخير هو الانتخاب، وإنما نسمي الشيء خيراً لأنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه، فهو خير، ولا نختاره إلا لكونه متضمناً لما نريده ونقصده، فما نريده هو الخير بالحقيقة، وإن أردناه أيضا لشيء آخر، فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، وغيره خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه، يسمى خيراً لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره، وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحداً منها وترددنا في اختياره من بينها).
وأما الخير والشر في الفلسفة فيرتبط معناهما بالكمال والنقص في الأشياء وصفاتها، فما هو كامل في نفسه وصفاته فهو خير، وما هو ناقص في نفسه أو صفاته فهو شر.
كما أن بعض التسميات الفلسفية للخير لا تكاد تختلف عن المعنى اللغوي، إذ أنه يطلق في الفلسفة على (اللذة والسعادة، وما هو حسن ونافع)، وهذه المعاني لا تكاد تختلف عن المعاني اللغوية كما رأينا.
والعديد من الفلاسفة يرون أن (الخير هو القيمة العليا التي تعود إليها كل القيم، كالسعادة والعدالة والجمال…).
ويرى أفلاطون أن (الجمال هو بهاء الخير) ويذهب تلميذه أرسطو إلى أن الخير هو الغاية العليا التي يسعى نحوها الجميع، ويؤكد على (أن الخير هو ما تعسى إليه الأشياء جميعا) .
@ عقيدة الزرادشتية في الخير والشر:
إن قضية البحث عن فلسفة وجود الشر -مهما كان نوعه- من القضايا المشهورة، المطروحة في مباحث العدل والحكمة الإلهيين منذ آلاف السنين، وربما يكون أبيقور هو أول أو من أوائل الذين طرحوها في الفكر الفلسفي كشبهة تثير الكثير من الإشكالات حول وجود الإله كما بيناه في مقالنا (الشر: معضلة أبيقور) كما تحدث عنها الكثيرون من الفلاسفة والمفكرين القدامى والمتأخرين، أمثال سقراط، وأرسطو، وأفلاطون، وزرادشت، والفيلسوف الإنجليزي هيوم، وروسو، وآدم سميث، وكانت، والحكيم السبزواري، والفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي…وغيرهم الكثيرون.
وكان لبعض هؤلاء الفلاسفة والمفكرين في هذه المسألة آراء صائبة ومرضية، ولبعضهم الآخر آراء خاطئة وغير مجدية.
فمؤسس الزرادشتية المجوسية (زرادشت) المولود قبل ولادة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بقرابة ستمائة عام بأذربيجان، دفعه ما يراه في الحياة من خير وشر إلى الاعتقاد بتعدد الخالق، فذهب أن إله الخير والنور هو غير إله الشر والظلام.
ففي العقيدة الزرادشتية أن هناك إلهاً للنور والخير، هو (موزد، أو يزدان) وإله آخر للظلمة والشر هو (أهريمان، أو أهرمن) ويعني الخبيث، أو القوة الخبيثة.
ويرى زرادشت أن الحياة قائمة على الصراع بين الخير والشر، وبما أن الشر جوهر مثله مثل الخير، فلا يمكن أن ننسب الشر إلى إله الخير والنور، ولا أن نجعله مسؤولا عنه، وإنما هو صادر عن إله الشر والظلمة، وهو المسؤول عنه مسؤولية كاملة.
وبما أن إلهي الخير والشر ما هما إلا وجهان أو مخلوقان للإله الأكبر، والموجود الأول الواحد الأحد (أهورامزدا) فلابد أن ينتصر الإله الأكبر لإله الخير على إله الشر، وبعدها يتم بعث الموتى ليعيشوا في الحياة الآخرة، وتنطلق الأرواح الخيّرة إلى الجنة لتنعم بالراحة والسعادة الأبدية، في حين تذهب الأرواح الشريرة إلى المعدن الملتهب لتحترق فيها عقابا لها على شرها، وحينها تبدأ الحياة السعيدة المنطوية على كل خير، الخالية من كل شر، وتكون حياة أبدية سرمدية.
ولكن حسن يوسفيان يشير إلى أن (بعض الباحثين يرون أن الزرادشتية لا تؤمن إلا بإله واحد هو الذي تسميه مزدا)
وينقل من ص461 من كتاب تاريخ جامع أديان لمؤلفه جان بي ناس، أنه (ليس واضحاً ما إذا كان خالق الشر “أهريمن” هو بحد ذاته مخلوق لخالق الخير “أهورا مزدا” أم هو قديم أزلي)
أما عن النصوص الموجودة في كتب الزرادشتية فهي (لا تكشف لنا بوضح عن مسؤولية أهورا مزدا عن إيجاد الروح الشريرة، ولا يُعلم ما إذا كانت الروح الشريرة “انكرة مينيو” موجودا أزلياً مقارنة في وجودها لأهورا موزدا أم لا.
وبعبارة أخرى: هل إن الروح الشريرة موجود قديم اكتشفه إله الخير؟ أم هو الذي أوجده، ونقله من العدم إلى الوجود؟)
ويشير في ص471-472 إلى أنه (إذا كان الشرير “الشيطان” هو الخالق الحقيقي للشرور، فلابد أن يكون موجود أزلياً قديماً كإله الخير…وإلا يلزم أن يكون خالق الشر هو إله الخير نفسه).
كما يشير ابن حزم الأندلسي إلى أنه (افترق القائلون بأن فاعل العالم أكثر من واحد فرقاً، ثم ترجع هذه الفرق إلى فرقتين، فإحدى الفرقتين تذهب إلى أن العالم غير مدبريه، وهم القائلون بتدبير الكواكب السبعة وأزليتها، وهم “المجوس” فإن المتكلمين ذكروا عنهم أنهم يقولون: أن الباري عز وجل لما طالت وحدته استوحش، فلما استوحش فكر فكرة سوء فتجسمت فاستحالت ظلمة، فحدث منها “أهرمن” وهو إبليس، فرام الباري إبعاده عن نفسه فلم يستطع، فتحرز منه بخلق الخيرات، وشرع أهرمن في خلق الشر)
ويرى ابن حزم أنه لا أساس صحيح لهذه الأقوال، ويصف القائلين بها بأن (لهم في ذلك تخليط كثير) ويذهب إلى أن (هذا أمر لا تعرفه المجوس) ويشير إلى أن القدماء بحسب زعمهم خمسة، فيقول: (قولهم الظاهر هو أن الباري تعالى هو أورمن، وإبليس وهو أهرمن، وكام وهو الزمان، وجام وهو المكان، وهو الخلاء أيضا، ونوم وهو الجوهر، وهو الهيولي، وهو أيضا الطينية والخميرة، وإن أهرمن هو فاعل الشرور، وإن أورمن فاعل الخيرات، وإن نوم هو المفعول فيه ذلك).
والحقيقة أن الزرادشتية يكتنفها الغموض الكبير، ولا يوجد من المصادر ما يوضح عقائدها وآرائها بشكل جلي لا لبس فيه، لكن ما يمكن استنتاجه مما هو منقول عنها هو أنها تعتقد بتعدد الخالق، وأن للخير إلها، وللشر إلها آخر.
@ فلسفة الشر في التوراة:
بعض ما هو منقول عن (التوراة) في بيان فلسفة الشر ووجوده في الحياة، لا ينسجم مع الاعتقاد بالخيرية المطلقة لله تعالى، بل وقد يكون فيه نسبة الظلم إلى الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وذلك لأنه تفسير يرتكز على الادعاء بأن الله عبّر عن كرهه للشر عن طريق تجسيده له في خلق العالم، لأنه يريد محاسبة الناس عليه يوم القيامة، أي أنه تفسير يقوم على وحدة الخلق والحساب.
بمعنى أنه يقوم على (تفسير عمليتي الخلق والحساب اللتين يقوم بهما الله على أنهما عملية واحدة، وفي هذه الحالة يكون الله قد جسّد كرهه للشر في العالم الذي خلقه، فهو يريد إقامة حساب عظيم وكامل للبشر على كافة أخطائهم، وإعلانها عليهم جميعا في يوم الحساب، ولأن الله سيعاقب مرتكبي الأعمال الشريرة يوم الحساب، فإن هذا يجعله إلها خيرا) .
@ الله خير محض:
من منطلق قرآني على وجه الخصوص، فإن الله تبارك وتعالى هو الخير المحض، ولا يمكن أن يصدر منه إلا كل خير، بل إن الخير لا يصدر إلا منه، إذ أن الخير كله بيده جل وعلا.
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تؤكد هذا المعنى، منها قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فقوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} يفيد حصر الخير كل الخير بيده سبحانه وتعالى، وكما يقول العلامة الطباطبائي: (تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخير، والمعنى: أن أمر كل خير مطلوب إليك، وأنت المعطي المفيض إياه.
فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل، أعني قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ…} إلخ، من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره، أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعمّ من الملك والعزة، وهو ظاهر) .
أما هل (نزع الملك والإذلال) من الشر، وهل يصح نسبة ذلك إليه تعالى، فسيأتي بيانه في بعض مقالاتنا القادمة إن شاء الله تعالى.
أفلاطون يؤكد هذه الخيرية المطلقة للإله، إذ أنه يرى (أن ما هو خير ليس علة كل شيء، وإنما هو علة الأشياء الخيرة لا الشريرة، ليس علة معظم ما يحدث للناس، إذ أن الخير في حياة البشر قليل، والشر كثير، والخير ليس له من مصدر سوى الإله، أما الشر فلنبحث له عن مصدر غيره) .
ونحن نتفق معه في أنه ليس من مصدر للخير سوى الإله، كما أنه تعالى منزه عن فعل الشر، ويجب أن نبحث للشر عن مصدر آخر غير الإله، لكننا في الوقت ذاته نتلف معه فيما يذهب إليه من أن الخير في حياة البشر قليل، والشر كثير، وقد بينا في موضوعنا (الشر هل ينقض وجود الله) أن الأصل في الوجود هو الخير، والشر هو الطارئ والاستثناء.
ووفق بعض النظريات الفلسفية، فإن الموجودات الممكنة -بالقسمة العقلية- تنقسم إلى خمسة أقسام:
1- ما هو خير محض، لا شر فيه أصلاً.
2- ما فيه خير كثير مع شر قليل.
3- ما فيه شر كثير مع خير قليل.
4- ما يتساوى فيه الخير والشر.
5- ما هو شر مطلق، لا خير فيه أبداً.
ولا يوجد شيء من الأقسام الثلاثة الأخيرة في العالم، لأن ذلك يستلزم الترجيح من غير مرجح، بل ترجيح المرجوح على الراجح، وبما أن الله تبارك وتعالى قادر على كل شيء، وعالم بكل شيء، وحكيم في فعله، وكريم في عطائه، بل أن جوده لا يخالطه بخل أبداً، فلابد أن يصنع ما هو الأفضل والأصلح في النظام، وأن يعطي ما هو خير محض، وما خيره أكثر من شره، لأن في ترك الأول شرا محضا، وفي ترك الثاني شرا كثيرا.
وعلى هذا فإن نسبة وجود الشر قليلة جدا، بل هي نادرة ولا تكاد تذكر إذا ما قيست بوجود الخير الكثير.
@ الخلق لا يتعلق بالشر:
نود أن نشير إلى قضية مهمة متعلقة بالموضوع، وهي أن الخلق والإيجاد لا يتعلق بالشر، وإنما بالخير، فكل ما خلقه الله هو حسن، والخير والحسن فيه ثبوتي، أما الشر فلا يتعلق به الخلق أصلا، وكل ما نتوهمه من شر في بعض الموجودات فهو عدمي واعتباري.
وهذه حقيقة عظيمة يبينها القرآن الكريم أحسن وأوضح بيان، ولا بأس أن نقوم بتوضيحها على ضوء بعض الآيات القرآنية الكريمة.
فمتى رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى يؤكد في أكثر من آية قرآنية أنه سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء وموجده، كما يقول سبحانه: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، ويقول تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، ويقول عز وحل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} .
فالقرآن يصرح بأن الأشياء كلها مخلوقة لله عز وجل، وبما أن الشر شيء، فالبعض ذهب إلى أنه مخلوق لله تعالى بدليل التصريح القرآني بعموم الخلقة لكل شيء، فيكون الشر داخلاً في تلك الشيئية.
وقد أجاب عن ذلك جمع من الباحثين بما مؤداه: (إن الشر وما يتفرع منه، كالظلم والمنكر والفحشاء والكوارث…كلها أمور يحكم العقل والنقل بقبحها وشناعتها، وعدم جواز نسبة خلقها إلى الله، أو القول بصدورها عنه سبحانه وتعالى، وذلك لغناه وعدله وحكمته، وقد نزّه سبحانه وتعالى ذاته المقدسة عن كل ظلم وسوء وشر في الكثير من آياته الكريمات، كما في قوله عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} ، وقوله سبحانه: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ، وهذا ينافي عموم الخلقة لكل شيء، وعليه يجب أن نخصص عموم الخلق بهذه المخصصات العقلية والنقلية، ونقول بأن الأفعال الإنسانية هي من خلق الإنسان وفعله، وما وراء ذلك من الأشياء، كذواتها وآثارها هي من خلق الله جل وعلا.
ومما يؤكد لنا ذلك أن في قولنا بخلق الله لأفعال الإنسان سلب الإنسان الحرية والاختيار، واعتباره مسيراً مجبراً على أفعاله وأعماله، وفي ذلك ما فيه من إبطال نظام الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وانتفاء الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وسن القوانين وتشريع الشرائع)
ولكن هذا الجواب لا يخلو من إشكالات، ويمكننا أن نسجل عليه العديد من الملاحظات:
أولا- إن هذا الكلام يجرنا إلى القول بالثنوية، والاعتقاد بتعدد الخالق، حيث جعلنا الإنسان خالقا في مقابل الخالق العظيم، وهذا ما تنفيه الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت أن الله عز وجل هو خالق كل شيء.
وهذه الحقيقة الدينية الدالة على توحيد الله عز وجل في الخالقية تنفي أن يكون الإنسان خالقاً لأفعاله، ولا يمكن أن يستقيم معناها مع وجود ما لا يحصى كثرة من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته سبحانه وتعالى.
ثانيا- إن هؤلاء الباحثين خلطوا في بحثهم هذا بين الجهات الوجودية والجهات العدمية في الأشياء، ولم يفرقوا بين ما له وجود حقيقي، وما ليس له وجود حقيقي، وإنما هو من الأمور الاعتبارية، والجهات الوضعية، التي لا وجود حقيقي لها، وإنما يتصورها الإنسان، ويضطره إلى التصديق بها حاجة الحياة وابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع والتمدن الإنساني.
وسوف نوضح هذا الكلام في بعض مقالاتنا القادمة إن شاء الله تعالى، والذي يمكن أن نقوله الآن، وهو يوضح ما تقدم بعض التوضيح:
إن المستفاد من قوله تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وأمثالها من الآيات، هو إثبات عموم الخلقة وانبساطها على كل شيء، وبعد أن أكد الله عز وجل هذا العموم والانبساط، أكد سبحانه وتعالى أن كل ما خلقه متصف بالحسن، وليس فيه أي شيء من القبح، فقال عز من قائل: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} .
والذي نستفيده من الجمع بين الآيتين هو أن كل شيء هو مخلوق لله تبارك وتعالى، وأن كل ما خلقه الله هو حسن لا قبح فيه أبداً، فالخلق والحسن متلازمان في الوجود، ولا سبيل إلى التفكيك بينهما بأي حال من الأحوال، فلو عرض عارض السوء والقبح والشر على ذلك الموجود، كان ذلك من جهة النسب والإضافات، لا من جهة واقعية ذلك الشيء ووجوده الحقيقي.
وبهذا يتضح لنا أن الحسن في جميع الموجودات هو أمر ثبوتي، وأن السوء والقبح والشر…ما هي إلا أمور عدمية، وعناوين اعتبارية، ليس لها أي وجود حقيقي، ولا يتعلق بها الخلق والإيجاد، وإنما هي تلحق الموضوع الذي يقوم الأثر والعمل به من جهة النسب والإضافة.
فالحسن والقبح وصفان إضافيان، وكل قبح وشر معه من سنخه ما هو حسن وخير، وليس فيه أي شيء من القبح ولا الشر، وإنما الاختلاف بينهما يقع من باب أن أحدهما يشتمل على مخالفة الأحكام الإلهية أو العقلية، وتترتب عليه مفاسد أخلاقية واجتماعيه، في حين أن الآخر يكون على العكس من ذلك تماماً.
والأمثلة التي توضح لنا هذا المعنى أكثر من أن تحصى، كما هو الحال -مثلا- في من يتاجر بماله الحلال، ووفق الأحكام والضوابط الشرعية، ومن يتاجر بمال حرام، قد سرقه من هذا أو ذاك، وتجارته تقوم على الغش والربا، فهما فعلان متماثلان لا فرق بينهما أصلاً في حقيقتهما ووجودهما النوعي، ولكنهما يختلفان من جهة مخالفة التجارة بالمال الحرام للحكم الشرعي، وبما يترتب عليها من المفاسد والمضار الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، في حين أن التجارة بالمال الحلال تمثل الاستجابة الكاملة للأمر الإلهي، وتتحقق على أثرها مصالح نفسية وأسرية واجتماعية واقتصادية جمة.
وكذلك الحال في الزنا والنكاح الشرعي وتماثلهما من جهة الفعل واختلافهما من جهة الآثار، وأيضا في القتل قصاصا والقتل اعتداء وظلما وعدوانا، وما يترتب على الأول من المصالح وعلى الثاني من المفاسد، رغم تماثلهما في الفعل…إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
والذي نستخلصه مما تقدم:
أولا- إن الحسنات والخيرات عناوين وجودية في الأشياء والأفعال، في حين أن الشر والسيئات عناوين عدمية فيهما، والشيء المتصف بالحسن والقبح واحد.
ثانيا- إن المصالح أو المفاسد الناتجة عن العمل المعين (كما هو الحال في ما قدمناه من أمثلة، عن التجارة بالمال الحلال والمال الحرام، والزنا والنكاح الشرعي، والقتل قصاصا، والقتل ظلما وعدوانا) ما هي إلا أمور وضعية، وجهات إضافية، تلحق الأشياء بحسب انطباقها على ما فيه صلاح المجتمع وخيره، أو فساد المجتمع وشره، مما يستوجب المدح أو الذم، والثواب أو العقاب، فلا دخل لها أصلاً في دائرة التكوين، ولا يتعلق بها الخلق والإيجاد.
وكما يقول السيد الطباطبائي : (الخلقة في عين أنها تعم كل شيء، إنما تتعلق بالموضوعات والأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع، المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها وواقعيتها الخارجية، وأما ما وراء ذلك من جهات القبح والحسن، والمعصية والطاعة، وسائر الأوصاف والعناوين الاجتماعية الطارئة على الأفعال والموضوعات، فالخلق والإيجاد لا يتعلق بها، وليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع، أو القضاء الاجتماعي، وساحة الاعتبار والوضع)
وبتعبير أوضح: إن ما يمارسه الإنسان من أفعال الشر ليس داخلا في دائرة الخلق الإلهي، وإنما هو يقوم به بما منحه الله من قدرة وحرية فلا يتعلق به الخلق والإيجاد، كما أن بعض الحوادث الطبيعية إنما هو نتاج النظام الكوني العام الذي يصلح هذا الكون ولا يقوم إلا به، كما سنوضحه أيضا في بعض مقالاتنا القادمة.
وعليه يتبين لنا أن عموم الخلقة وانبساطها على كل شيء لا يعني أن الشر من الله عز وجل كما زعم ذلك برتراند أرتل ويليام راسل حين قال: (إن الموجود الذي يمتلك القدرة المطلقة، والذي خلق عالما يحتوي على الشر، ليس بسبب الخطايا، فلابد وأن يكون هو نفسه شريرا جزئيا) .
وقد وضحت لنا سخافة هذا الكلام وسقوطه مما تقدم، كما وضح لنا أن عموم الخلقة لا يستلزم شيئا من المفاسد التي ذكروها، والمتمثلة في إبطال نظام الأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتشريع الشرائع…وإلى آخر ما توهموه.
والذي نخلص إليه من هذا العرض هو أن الله عز وجل هو الخير، ولا يمكن أن يصدر منه إلا الخير، فله المنة وله الحمد على نعمه وخيراته التي لا تحصى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى