(بين عامر ودامر)
د/ عبدالجليل الخليفه
عاش أبناء العم عامر و دامر في نفس المدينة و تربيا في مجتمعها. عامر و دامر سلكا سبيلين مختلفين في حياتهما منذ نعومة أظفارهما و حتى الآن.
كان عامر مجدا افي دراسته، كريما مع زملائه، ذا قلب أبيض لايشوبه حسد او أنانية أبدا، و كانت المبادئ و الأخلاق تملأ قلبه و كيانه. أنهى دراسته الثانوية و قرّر أن يدرس الطب فحصل على بعثة الى احدى الدول، تخصّص فيها في الجهاز التنفسي حتى تخرّج بامتياز و حصل على فرصة عمل في مستشفى الجامعة التي درس فيها، فذاع صيته على مستوى العالم.
قرّر عامر قبل أربعة أعوام أن يعود من بلاد المهجر ليؤسّس مستشفى تخصصيا في بلاده يعالج فيه مرضى الجهاز التنفسي. أحتفل أهل مدينته و محبوه و من عرفه في العالم بافتتاح مستشفاه أواخر عام 2018، و قد شاركه في ذلك نخبة من الأطباء الذين ألتحقوا بفريق العمل في هذا المستشفى. تفانى عامر و فريقه في خدمة المجتمع و ترجم تضحياته الى عمل دؤوب لا يكل و لا يمل في خدمة المرضى. و في أواخر عام 2019، أصابت العالم جائحة الكورونا، و أصبح مستشفى عامر مركزا لعلاج المرضى من كل حدب و صوب.
أمّا دامر فكان نفعيا بامتياز يبحث عن المصلحة في كل خطوة يخطوها حتى مع الأقارب و الأصدقاء، و مع ذلك لا يشعر الآخرون بذلك ، فهو مراوغ بدهاء، ذو حديث لبق و لسان عذب. و حين أنهى دراسته الثانوية حصل على بعثة لدراسة الكيمياء العضوية في إحدى البلدان المتطورة. بعد سنتين من التعثر الدراسي، قرّر دامر أن يلجأ الى العمل لفترة قصيرة، عسى أن يستطيع بعدها مواصلة الدراسة.
ألتحق دامر بإحدى الشركات في دولة الابتعاث، والتي كانت تتخصص في صناعة المشروبات. حصل دامر على مرتب شهري مجزي و أستمر في عمله، حتى عرفت إدارة الشركة مؤهلات المراوغة و الإقناع التي يتميز بها دامر، فقررت الاستفادة منه و تم ترقيته و تعيينه مسؤولا لشراء الفواكه بأسعار رخيصة من بلده الأم و من ثم يتم تصديرها الى بلد الشركة حيث يتم عصرها و تصنيعها. مارس دامر وظيفته الجديدة بدهاء و مكر، فأقنع المزارعين في بلاده لبيع الفواكه بأرخص الأسعار. و كتقدير له من قبل إدارة الشركة، تم ترقيته بعد عدة سنوات الى منصب نائب أعلى لرئيس الشركة، و بعدها بسنتين عيّن مجلس إدارة الشركة دامر رئيساَ للشركة على مستوى العالم.
قرّر دامر الطموح أن يوسّع أعمال الشركة في بلدان جديدة، أحتاج بسببها الى قرض بقيمة مائتي مليون يورو من مجموعة من البنوك العالمية. و في عام 2019م، تم افتتاح مصنعين جديدين للشركة في أنحاء العالم. كان دامر يحلم بأن يدرج الشركة في الأسواق العالمية في عام 2020م، بقيمة اجمالية قدرها مليار يورو، يحصل منها شخصيا على أسهم كحافز تشجيعي تعادل قيمتها خمسين مليون يورو.
في نوفمبر عام 2019، اجتاحت العالم جائحة كورونا فقلبت الموازين رأسا على عقب، فقد أنخفض استهلاك المشروبات عالميا، و توقفت نصف الطاقة التصنيعية، فاضطرت الشركة أن تطلب من البنوك جدولة ديونها المستحقة. لم توافق البنوك، فعاش دامر أسوأ أيامه و هو يرى أحلامه تتبخر، و تحت ضغط البنوك و المستثمرين، قرّر مجلس إدارة الشركة عزل دامر و تعيين رئيس جديد للشركة.
تحت هذه الضغوط النفسية، أدمن دامر حضور الحفلات الصاخبة مع مجموعة من زملائه في إدارة الشركة الذين تم عزلهم معه. و نتيجة هذا الاختلاط، أصابت دامر عدوى الكورونا، فقرّر أن يعود بسرعة الى بلده الأم ليحتضنه تراب الوطن. وصل دامر قبل يومين فقط الى بلاده و لم يستقبله أحد، فقد قطع علاقته بأهله و زملائه السابقين و تنكر لهم عندما كان رئيسا للشركة، أمّا المزارعون فقد عرفوا مكره و أنانيته. أخبر دامر المسؤولين حين وصوله أنه مصاب بالكورونا، فتم نقله بسيارة الإسعاف الى مستشفى تخصصي للأمراض التنفسية.
في هذه الظروف النفسية و الصحية، أحتاج دامر الى من يمد اليه يده لينقذه من براثن الكورونا و مخالب الخيبة و الخذلان. أحتاج دامر الى من يعيش المبادئ و جمالها ليفتح له قلبه و سمعه، فوجع الخيبة قد يكون أقسى و أشّد من وجع الكورونا. وصل دامر الى المستشفى و ما أن لمح بمعينيه لوحة المستشفى: ” مستشفى الدكتور عامر للأمراض التنفسية”، حتى كاد قلبه أن يتوقف، فهو من كان يسخر من ابن عمه عامر و من مبادئه سابقا فهل سيشمت به عامر أو هل سيعامله بالمثل؟
بينما كان دامر يقلب يديه خوفا و حيرة، و اذا بالدكتور عامر يدخل عليه غرفة الطوارئ، ووجهه يتهلل حنانا و قد علت الابتسامة محياه. و ماهي إلا سويعات، حتى تأكّد دامر أن المبادئ تأبى الشماتة او المعاملة بالمثل، فها هو عامر صاحب القلب الكبير يشد من عزمه و يقول له بصوت حنون: “لا تقلق يا ابن العم”، و “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.