(ما أطيب العيش بقلوب الفقراء و أموال الأغنياء)
د/ عبدالجليل الخليفه
احمد ابن أسرة فقيرة تعيش في إحدى القرى، يعمل الوالد موظفا في مؤسسة أهلية براتب شهري قدره ثمانية الاف ريال، أما الوالدة فهي ربة الأسرة حيث تهتم بأبنائها و بناتها الثمانية. تسكن الأسرة في بيت بناه الوالد قبل أربعين عاما مستفيدا من قرض الصندوق العقاري آنذاك. لم تسافر الأسرة خلال العشر سنوات الماضية، و لم تجدد أثاثها المنزلي، و غالبا ما أشترت الملابس الجديدة في الأعياد و المناسبات الضرورية من مراكز التخفيضات. يجتمع الأب مع الجيران و الأقرباء مساء الخميس من كل أسبوع، و يشربون الشاي و القهوة في مجلسهم المتواضع، ثم يجمع الحضور ما تجود به أنفسهم لمساعدة الفقراء و المحتاجين في قريتهم. يشارك احمد عادة في هذا المجلس و يرى الألفة و المحبة و الرحمة تغمر الجميع و هم يتشاطرون الحديث عن حالتهم الأقتصادية البائسة.
احمد يحمل هما مضاعفا في الفترة الأخيرة ففرص التوظيف شحيحة جدا و تكاليف المعيشة تتضخم تدريجيا مع الزمن، و هو لايريد أن يكون عالة على والده الذي طالما انتظر على أحر من الجمر تخرج ابنه أحمد عسى أن يكون عونا له على تكاليف الحياة. لم يكن في تصور أحد أن يستلم الوالد أخيرا رسالة من المؤسسة تخبره بأن تقاعده المبكر على الأبواب و أن راتبه التقاعدي سيكون ستة الاف ريال فقط. أزداد هم أحمد و هو يقلب الأمور مع والده يوما بعد آخر، فماذا يخبىء القدر لهذه الأسرة التي عاشت حد الكفاف سنوات طويلة. ذات ليلة، أصيبت الأم بنكسة قلبية فأسرع بها الوالد الى الطوارئ في أقرب مستشفى، تبين بعدها أن الأم تعاني من مشاق العمل المنزلي و الهم النفسي مما سبب لها مضاعفات صحية، و أن أفضل حل لها هو تخفيف الإرهاق الجسدي و النفسي.
هذه حياة الفقراء الإقتصادية فهي معاناة مزمنة مع غلاء الأسعار و البحث عن فرص العمل، قد ينجح فيها البعض فيحصل على فرصة عمل رائعة او نشاط تجاري متميز، و بذلك ينجو من مصيدة الفقر و يكتب لنفسه و لعائلته صفحة جديدة في مستقبل الأيام. و رغم هذه المعاناة، غالبا ما يعيش الفقراء حالة الألفة و المحبة و الرحمة فتجود أنفسهم على من هم أشد منهم حاجة، “و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة”.
أما صالح فهو الإبن الوحيد لأسرة ثرية جدا تعيش في إحدى المدن القريبة من الجامعة. و الده عقاري أنتقل الى هذه المدينة من إحدى القرى في السبعينات و عمل وسيطا في شراء العقارات ثم تطور تدريجيا حتى أسّس شركة تطوير عقاري للمجمعات و الأبراج التجارية و السكنية. بنى الوالد قصرا سكنيا للعائلة في منطقة راقية بالمدينة على أرض مساحتها خمسة الاف متر مربع، فيه جناح خاص لإستقبال الضيوف، و جناح للرياضة و الترفيه، و جناح للخدم و العاملين، و في وسط الحديقة الغناء ينبسط قصر مشيد من الرخام و الجرانيت و الزجاج المعشق. يعقد الوالد مساء الأربعاء من كل أسبوع مجلسا مفتوحا يحضره شركاؤه العقاريون و رؤساء بعض الشركات و البنوك و يتداول الجميع فيه فرص المال و الأعمال و يعقبه وجبة عشاء فاخرة في جناح الضيافة. يشارك صالح في مجلس والده المفتوح كل أسبوع فيستمع الى الحديث المتداول بين الجميع و يستمتع بنقاش الأمور المالية و الأقتصادية. صالح هو الوريث الوحيد لوالده الثري، فمن الطبيعي أن يكون اليد اليمنى لوالده في أعماله التجارية و الأستثمارية. ما يشغل صالح ووالده هذه الأيام هو البحث عن فرص استثمارية تحقق لهم مستوى جيدا من الأرباح لايقل عن السنوات السابقة، و هذه مهمة صعبة بل و تزداد صعوبة.
في الفترة الأخيرة، لاحظ صالح أن النقاش أصبح حادا في مجلس والده الأسبوعي خاصة مع شركائه في الشركة العقارية، فغابت الأبتسامة العريضة و اصبح الجميع يتعامل بجفاف شديد و برود قاس يخلو من الألفة و المحبة. أستفسر صالح من والده فأتضح لديه أن الشركة تعاني من تلاعب مالي و أن تقرير المدقق المالي وضع النقاط على الحروف، فبعض الشركاء أستفاد من الشركة لتحقيق مصالح مالية على حساب الشركاء الآخرين.
ألتقى احمد و صالح في أروقة الجامعة و مع مرور السنوات الدراسية توثقت العلاقة بينهما رغم اختلاف مستواهما الإقتصادي. ذات مرة و في سنة التخرج الجامعية، دعى صالح أحمد لحضور مجلس والده الأسبوعي مساء الأربعاء، فذهل أحمد كثيرا من جمال القصر و روعة الأثاث و كرم الضيافة، و لكنه صدم بجفاف اللقاء بين الحضور و شدة المراوغة و غياب الشفافية.
أراد أحمد أن يرد الجميل فدعا صالح الى مجلس والده الأسبوعي في القرية مساء الخميس، و حين حضر صالح صدم بشكل المنزل المتواضع و بساطة الأثاث و ضيق المجلس الصغير، و لكنه ذهل كثيرا بجمال اللقاء و حلاوة المعشر و طيب النفوس.
توثقت العلاقة أكثر بين احمد و صالح، و كأنهما قد وصلا الى نتيجة مهمة و هي ضرورة أن يعملا معا في مستقبل الأيام. فما أحوج أحمد لفرصة العمل مع صالح ووالده في شركتهم العقارية، و ما أحوج صالح ووالده الى قلب أحمد النقي و إخلاصه و أمانته و تفانيه في العمل.
أيها الأحبة: هناك من الأغنياء من يعيش بقلوب الفقراء النقية و المخلصة، فهنيئا لهم هذا العيش الطيب و الحياة الكريمة. و هناك من الفقراء من يواصل العمل الجاد و يعيش الرضا و القناعة رغم قسوة الدهر و صعوبة الحياة، حتى تأتيه الدنيا ذليلة طائعة. الحكمة أيها الأعزة، هي: ما أطيب العيش بقلوب الفقراء و أموال الأغنياء.