أقلام

العبود يضع المرجعية المحلية على طاولة التشريح والصراحة

مالك هادي: الدمام

تحت عنوان (جدلية المرجعية المحلية) تناول سماحة الشيخ علي العبود (أستاذ الفلسفة والإلهيات) ما أثير مؤخراً حول المرجعية المحلية التي دعا إليها البعض في ندوة علمية ثقافية، فانطلق سماحته من مبدأين:

المبدأ الأوّل: تجاوز اقتحام النوايا بغية الكشف عن المنطلقات والغايات.
المبدأ الثاني: ضرورة الفصل بين الجهة الحثيةالموضوعية – التي من مقوماتها، موضوعية البحث وسلامة الأدوات، وقبل ذلك كفاءة الباحث ولياقته؛ باعتبارها هي من ترسم الموضوعية والسلامة المذكورتين – وبين الجهة الجدلية التي لا ترتقي لمرتبة (البحث العلمي) أو لتلبية الرغبة المعرفية التي تدخل في طبيعة الإنسان، وكينونة كماله المعرفي.

وأكد العبود على مجموعة من النقاط المهمة حول هذا الموضوع، هي:
أولاً: هناك من يضع التساؤل حول المرجعية المحلية موضع الطموح والأمل المُساهم في تحقيق أهداف الإسلام من الوسطية والعدالة والكرامة والعزة للفرد والمجتمع، مُعللاً ذلك ببناء عقلائي يرتكز على (مدخلية القرب الزماني والمكاني في الوصول للأهداف).
ثانيا: أن الإنسان القريب من مجتمعه زمانا ومكانا يمتلك القدرة والأهلية في تحديد المشكلة وتصورها، ورسم معطياتها وتشخيص علاجها أفضل من ذلك البعيد من حيث الزمكان.
ثالثاً: تُمثل النقطة الثانية (القرب الزمكاني) روح وجوهر دعوى المرجعية المحلية، وكلّ ما يمكن ذكره من مبررات مرجعها إلى عامل القدرة والأهلية.
رابعا: أنّ تعليل الدعوى المذكورة – المرجعية المحلية -بالسلوكيات والأفعال والآثار السلبية من قبل بعض الوكلاء التي تتحمل (المرجعية العامة) وزرها وتبعاتها- بنظرهم – لا يخرج في محتواه عن فقدان الأهلية في مرتبة الأخلاق وسلامة الدين، وعلق سماحته قائلا: التعميم غير الأخلاقي، كما يمكن أن يكون بيننا من يتصف بتلك السلوكيات السلبية، فإنّه أيضا وبلا ريب هناك ممن عرفناهم معرفة حسٍّ وشهود ممن بيننا، عُرِفوا بسلامة أرواحهم، ونقاء فطرتهم، وحُسن سيرتهم.
وأضاف الشيخ العبود: نحتاج إلى تصحيح وتعميق فكرة (أموال الحقوق الشرعية) من جهة تحديد طبيعة هذا المال، وعلاقة الإنسان به، أما طبيعته فهو إما ملك لشخص الإمام المعصوم عليه السلام، وإما ملك لمقام ومنصب الإمامة، وعلى كلا التقديرين فهو ليس مالا شخصيا لأحدنا.
أما علاقة المرجع به فلا يتجاوز كونه أمينا عليه، وتكليفه الملقى على عاتقه وضع الأمانة في موضعها وأداء حقها مراعاة لمواثيق العهود والأمانات ورعايتها.
وعليه، إذا كانت تلك الأموال ترجع إلى الإمام عليه السلام بصفته الحقية أو الحقوقية، فما هو المبرر المنطقي لاحتكارها في منطقة دون غيرها، بحجة الأولوية وأنّها أموالنا؟

وتساءل سماحته: أليس هذه الأولوية تتنافى مع الإمامة العامة والمسؤولية والرعاية ذات الامتداد الواسع للمعصوم عليه السلام؟
أليس نسبة المال إلينا في قولنا(أموالنا) تتعارض مع الملكية الحقيقية لله تبارك وتعالى، وملكية الإمام عليه السلام له، وكون الإنسان أمينا على ما تحت يده وتصرفاته؟

وحذر سماحته من هذه المبررات قائلا: إنّ تثقيف المجتمع بثقافة الأولوية والغربة (نحن أولى من الغريب) له تداعيات سلبية تُفضي إلى التقليل من القيمة الجوهرية المترتبة على مشروعية الحقوق الشرعية، التي يمكننا استنطاقها من سيرة الائمة المعصومين عليهم السلام، التي ساهمت في استقلالية مدرسة أهل البيت منهجا أو مضمونا أو سلوكا.
أمّا رجوع المشكلة في الحقوق المالية إلى عدم الاطمئنان بهذا الوكيل أو التشكيك في نزاهة غيره، لا يبرر من الناحية العلمية تعديتها إلى المرجعية الدينية – من حيث النزاهة – وإلا لزم تحميل تعديات بعض وكلاء الأئمة عليهم السلام إليهم !!
كما لا يبرر تلك السلوكيات من بعض الوكلاء التنازل عن مقومات المرجعية الدينية من الكفاءة والأعلمية والقيادة، واستبدالها بالمحلية والمناطقية الفاقدة لتلك الاشتراطات، لأجل سهولة تفعيل الرقابة على الوكلاء ومحاسبتهم.
السبب في ذلك سهولة معالجة القضية بنحو يضمن بقاء الثقة والاطمئنان من جانب، والابقاء على بنية المرجعية الدينية وأركانها.

وأضاف الشيخ العبود بأن هذا التعليل يوجب التعميم غير الأخلاقي على جميع أفراد المجتمع العلمائي بالحكم على المرجعية المحلية بالموت السريري قبل ولادتها، لأنّها تنطلق من محاكمة البواطن وسياسة التفتيش في النوايا، التي حذّر منها القرآن الكريم تحت عنوان (سوء الظن) والروايات الكثيرة في ذات السياق تارة، وحرمة المؤمن وحمله على الخير تارة أخرى، فقال: لذلك تبقى (الوسطية) في تصدير الأحكام وتقييم الشخوص قائمة بين طرفين؛ أحدهما: السذاجة ويمثل الجانب التفريطي – الوثاقة العمياء – وثانيها: السفسطة ويمثل الإفراطي – أصالة الشك في التقييم – بحيث ليس في عالم الوجود والنزاهه والمصداقية والسلامة غيره، نستعيذ بالله من شرور أنفسنا.

وعرف سماحة الشيخ العبود الوسطية قائلا: عبارة عن التقييم الموضوعي القائم على المعطيات والشواهد والبراهين والأرقام التي تحدد الحكم على تصرفات الناس وسلوكهم، وهذا هو منطلق منهج القرآن والروايات في تأسيس بناء المجتمع الإنساني على حُسن الظن بالآخرين – بناءً إنثروبولوجيا – لضمان بقاء النظام وتعاونه وتعايشه وتكامله، تلك المضامين (التعاون، التعايش، الكدح والتكامل)حاول القرآن الكريم تأصيلها تأصيلاً فطريا وبرهانيا بدرجة واحدة.

ثم تطرق الشيخ العبود إلى ذكر مجموعة من الملاحظات المهمة بحسب وجهة نظره وهي:
الملاحظة الأولى: ضرورة استيعاب منشأ عنوان(المرجعية) وأدلة تكوّنها في الفكر الإسلامي، ومراحل صيرورتها إلى ما هي عليه اليوم، فقال: اكتشفت عند مطالعتي لبعض التغريدات أو المقالات ذات الصلة بالمرجعية المحلية، الغفلة عن هذا المرتكز الجذري، الذي يمكنه معالجة التساؤل؛ بل الإشكالية منذ البداية، وأهم ما يرتبط بذلك أمور ثلاثة:
الأوّل: ما هي الجهة المصححة التي تستمد منها (المرجعية) مشروعيتها؟
الثاني: ما هي دائرة المرجعية من حيث السعة والضيق وامتدادها الولايتي؟
الثالث: ما هي الغايات القريبة والبعيدة – بعد تجاوز المشروعية – من تشريعها؟
فلو كان المصحح التشريعي لفكرة المرجعية هو القرآن الكريم والروايات الشريفة، فمن حقنا أن نبحث عما إذا قيدت تلك الأدلة المرجعية بعنوان (المحلية) أو (العربية) أو (الفارسية) مثلا .
كذلك لو كان المصحح لها هو توافق المرتكز العقلائي عليها، فإنّ ذلك التوافق معلول لأسباب وغايات عقلائية، وحينئذٍّ يجب الوقوف عندها، لنعرف أين موقع صفة(المحلية) من بين تلك الأسباب والمنطلقات؟
كذلك يجب الالتفات إلى معرفتنا للملاكات التشريعية والمقاصد العُليا المترشحة عن فكرة المرجعية الدينية.
ونوه في حديثه أن الذي عليه إجماع الفقهاء بلا خلاف فيه هو) الحفاظ على الدين والإنسان والنظام الاجتماعي العام( وأن ينبغي التركيز على (الدين – الإنسان- النظام العام) التي يصعب بل يمتنع تحقيقها عندما نختزلها ونحجمها ونحدّها بـالمحلية.

الملاحظة الثانية: هناك تساؤل واضح، هو: عندما يعتقد من هم خارج المنطقة بكفاءة وقيادة وبصيرة ولياقة المرجع المحلي، فهل يُسمح لهم- غير المحليين – عند فقدان الكفاءة عندهم بالرجوع إليه – المرجع المحلي- أو لا؟
وأجاب سماحته قائلا: لا أتصور أنّ هناك مُنصفا يُجيب بالنفي، لأنّ ذلك مخالفا للطبيعة العقلائية القاضية برجوع كل مجتمع إلى غيره من الكفاءات لتحديد مصالحه ومنافعه الحياتية ناهيك عن الأخروية المصيرية !
إنّ الجواب بالإثبات وإمكان الرجوع إلى الغير، وتجاوز المناطقية والمحلية كاشف عن رفض العقل لفكرة المحلية غير الأهلية الفاقدة للمواصفات القياسية.
فيكون مقياس القبول والرفض وميزانه هو الكفاءة والأهلية، المصطلح عليها بشرائط التقليد في المدونات الفقهية، والبحث عن المختص الذي يُفرز الحقائق عن الدعاوى والأباطيل، وهذا كلام لا يختلف عليه عاقلان وحكيمان، كما أظنه.

الملاحظة الثالثة: تبقى أطروحة القرآن الكريم قائمة على النبوة والإمامة العامة اللامحدودة من حيث الزمان والمكان، وإن وجدت نبوة خاصة في إطار محدد، لذلك سعى القرآن إلى مواجهة بعض الاعتراضات ذات الطبيعة المناطقية لتقييد  (حجة الله في الأرض) وحصره في قبيلة أو منطقة أو قومية، بل حاول تهذيب النفوس على قبول النبي صلى الله عليه وآله حجة على الجميع بمختلف قومياتهم ولغاتهم وانتمائاتهم.

الملاحظة الرابعة: يوجب تقييد المرجعية بالمحلية (بمعنى عدم تجاوزها مكانها وزمانها) ضعف روح الدين ونظامه العام، بل مخالف للسلوك العالمي المتجه إلى تجاوز حدوده وجغرافيته مع الأخذ بعين الاعتبار القياس مع الفارق في المنطلقات والأهداف بين المرجعية الدينية العامة والسلوك العالمي.

الملاحظة الخامسة: عنوان (المرجعية) يستبطن في داخله روحا دينيا مكوناته: الاجتهاد و الأعلمية والتقوى.
وعلق العبود قائلا: عند التأمل في تلك الاشتراطات الداخلية كعلل قِوام في المرجعية نُدرك أنّها أكثر عمقا من مجرد بيان حكم شرعي يُستظهر من رواية موجودة في المجاميع الروائية، بل عملية الاجتهاد أكثر تعقيداً من نظرة سطحية ترجيحية أو انتقائية من بين النظريات أو الآراء المتاحة في بطون وأمهات المراجع العلمية.
إنما هي – عملية الاجتهاد -تأصيل وإيجاد حلول شرعية لأمهات المسائل المستحدثة على صعيد الاقتصاد والطب والمال والحكومات وغيرها، دون اختزالها في فروع الطهارة والصلاة والحج التي أشبع علماؤنا الخوض فيها نقضا وإبراما.
وأضاف: إنّ مدعي (الاجتهاد) اليوم ميزان صدق دعواه ليس ما اُستهلك بحثا وتحقيقا، بل امتلاك الملكة في تأصيل الكبريات والمباني وجودة تطبيقها وارتباطها بتلك المسائل الجديدة التي لم يبحثها السابقون من الأعلام، وهذا لا يمكن استكشافه إلا بواسطة أهل التدقيق والتمحيص والخبرة، لا من كثُرت دعاويه وإشكالاته التي قد تكشف عن عدم إحاطته وفهمه.
وعن الأعلمية قال: وهي المعتبرة عند كثير من علمائنا، فإنها عند بعض العلماء كالسيد الشهيد الصدر وغيره تتجاوز مستوى القدرة على استنباط الحكم الشرعي المعروف في أدبياتهم بالملكة الاستظهارية، إلى الاحاطة واللياقة بالقيادة العامة للمجتمع، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالإحاطة والشمولية لروح الإسلام والقرآن، كما يستفاد من كلمات السيد الإمام والسيد السيستاني وغيرهما، وهذه الإحاطة متوقفة على أصول ومقدمات نظرية وعملية في ذات الوقت، وليس مجرد المطالعة وحفظ المتون والنصوص واستنساخ مؤلفات الآخرين ومصادرة جهودهم.

الملاحظة السادسة: مسؤولية المكلف أمام خالقه والمنعم عليه والتزامه بأداء حقه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وحينئذٍّ يكون مُلزما بتفريغ عهدته من تلك المسؤوليات عن طريق يقيني، أولى مواصفاته (الجودة والضمان الأخروي).

وختم سماحته حديثه قائلا: وعليه من يطرق باب المرجع المحلي عليه أن يكون مسؤولاً أمام الله تبارك وتعالى إنْ كان هذا الرجوع يحقق النجاة من المساءلة والمؤاخذة يوم القيامة أم لا؟
ليست القضية برجوع مريض إلى طبيب أو صاحب منزل إلى مهندس، لترميم منزله أو مداوة جرحه، ليقال: يمكن تجاوز الخطأ بالضمان ودفع غرامة وعفا الله عن تلك الأخطاء المادية، بل قضية أخروية يكون الحاكم فيها هو الشاهد والناقد بصير !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى