أقلام

الدكتور محمود البقشي الجندي المجهول

علي محمد الحاجي

في خضمّ هذهِ العاصفةُ الهوجاء من تزايد حالات الإصابة بفايروس كورنا المستجد، وبعد الأرقام العالية التي سجلتها الأحساء لعدة أيّام متتالية، يقف استشاري الأمراض الصدريّة الدكتور محمود البقشي في ممرّات ذلك المستشفى المزدحم، وبين غرف العزل الكثيرة، وبين أعداد المصابين الذين تطوّرت حالاتهم إلى العدوى بالرّئة، يقف بهدوءه المعهود وبنظرته الثّاقبة وخبرته الطويلة في الأمراض التنفسيّة المعدية، موجّهاً هذا الطبيب وملبيّاً نداء تلك الممرّضة ومدوّناً بروتكولات العلاج لذلك المريض ومتنقلاً بين أقسام العزل المختلفة وأقسام العنايات المركّزة المتعددة ليدوّن استشارته للمرضى ويعطي توجيهاته للأطباء.

وعلى عادته المألوفة عنه يعمل بجدّه المعهود بعيداً عن الأضواء والإعلام وبعيداً عن الرّكض في الأقسام الإدارية (كما يفعل البعض) من أجل الحصول على بعض الميّزات أو البدلات الماليّة.

هذا الطبيب الإستشاري قضى عمراً حافلاً في خدمة المرضى وكان باستطاعته منذ سنوات أن يتقاعد وينعم براحة البال والهدوء بعيداً عن إرهاق العمل وضجيج المرضى لكنّه يردّد دائماً بأعلى لغة وطنيّة وأرقى التجلّيات الإنسانيّة: “ومن يخدم هالمرضى المؤمنين إذا تقاعدنا” ؟!
ورغم حصوله على عروض وظيفية مشجّعة جداً من المستشفيات الخاصة إلا أن المغريات المالية لم تغير من قناعته لخدمة المواطنين والفقراء والمحتاجين من المرضى.

بهذه النّظرة المختلفة لمجال العمل يترقّى هذا الطبيب ليمثّل الحالة الإنسانيّة الأسمى ويجسّد البُعد الإيماني للممارسة الوظيفيّة حينما تتحوّل المهنة لديه إلى مبدأ، فهو يعامل مرضاه بتكليفه الشّرعي قبل واجبه الوظيفي.

يستطيع ببساطة أن يمارس واجبه الوظيفي بحدوده الأدنى وبأقل عدد من المرضى حسب الوقت الرّسمي للعمل، لكن عندما يكون المحرّك هو المبدأ الإيماني والباعثُ الأساسي هو التكليف الشّرعي يتسامى الإنسان عندها ليضحّي بكلّ وقته وجهده وحرمانه الطويل من أهله وأحبائه من أجل هذا المبدأ الذي يجسّد قمّة الإيمان وأعلى مراتب الإنسانيّة.

فرغم خطورة العمل في أقسام العزل أثناء جائحة كورونا هذه، لم يتأخّر هذا الطبيب يوماً عن موعده في الصّباح الباكر، بل يبادر يومياً بالحضور قبل الوقت الرسمي ويبقى فترات طويلة في المستشفى بعد نهاية وقت عمله وكأنّه ماكينة لا تهدأ ولا تكلّ من العمل غير آبه لخطورة إصابته بالعدوى أو تعرّضه للإرهاق والتعب، ورغم طول الفترة التي امتدت لعدّة أشهر منذ بداية هذه الأزمة ورغم ما تسبّبه أدوات الوقاية الشّخصيّة للأطباء من أذى وازعاج شديد وتقييد مستمر على مدار ساعات اليوم.

بينما في الجانب الآخر عندما يرجع إلى البيت هو لا يرجع إلى حياة طبيعية بل يرجع إلى عزل اختياري خوفاً من أن ينقل العدوى لا سمح الله لأحد أفراد عائلته، فبالكاد يستريح قليلاً في مكان منعزل عن الأولاد وبقية العائلة حتى يستيقض ليوم آخر مليء بالمرضى والتعب والإجراءات وخطورة الإصابة بالعدوى وازدحام الإتصالات من الأصدقاء والمعارف والأهل والكل لديه سؤال وحاجة لمريض أو قريب، ثم تعود هذه السّلسلة المتكرّرة من أيّام العمل الطويلة المرهقة بالمستشفى ومن العزل الإلزامي -وإن كان اختيارياً- ليلاً بالمنزل.

أنت تشعر إذا أتيحت لك الفرصة أن تقف دقائق بجانب هذه الّشخصيّة المعطاءة المضحّية كأن الأحساء المليونيّة كلها تدور حول هذا الرّجل أو كأنّه هو عين العاصفة التي سبّبتها جائحة كورنا ومع ذلك كلّه لا تزال تراه مبتسماً كعادته، لا يتذمر أبداً من ازدحام المرضى وكثرة الطلبات وتساؤلات الزّملاء.

أكاد أكون على يقين تام أنّ في كلّ مدن مملكتنا الحبيبة وفي كل مستشفياتها طبيب آخر من أطبائنا المتميّزين المضحّين الذين تجسّد فيهم هذا المبدأ السّامي في النّظرة الإيمانيّة لعملهم الوظيفي كواجب إنساني و تكليف شرعي فهم لم يروا في هذه الأزمة إلا خدمة المرضى تقرّباً لوجه الله وامتثالاً لأوامر الحبيب المصطفى لقضاء حوائج الناس.

وإنما اخترت الحديث عن الدكتور محمود البقشي كرمز للجهود الخفيّة والغير مسبوقة لهؤلاء الأطباء في هذه الأزمة والذين هم فعلاً الجنود المجهولين لهذه المرحلة وللإضاءة على بعض تضحياتهم وتفانيهم الذي ربما لا يبدو واضحاً للمواطنين من خارج المؤسّسة الصحيّة، فهم فعلاً يستحقون منّا الدعاء لهم بأن يحفظهم الله من هذا المرض وأن يشكر سعيهم ويعيدهم كلّ يوم لأهلهم وأبنائهم سالمين معافين.

وإذا قدر الله وانتهت هذه الأزمة سريعاً فأوّل ما يجب علينا كمواطنين إبراز جهود أمثال الدكتور محمود البقشي وتضحياتهم وتخليدها في صفحات تاريخ الإيمان الصّادق والمواطنة الصحيحة كرموز لهذا المجتمع الكبير.

ألا يستحق أيّها الأحسائيون الدكتور البقشي وبقيّة زملائه من جنود الوطن في الخطوط الأولى من معركتنا الشّرسة ضد هذا الوباء أن نخصّهم يوميّاً بدعائنا بأن يجعلهم الله في حصنه الحصينة التي يجعل فيها من يشاء؟!

فهم فعلاً الجنود المجهولون العاملون بعيداً عن أنظار النّاس وبعيداً عن ضجيج الإعلام والمؤتمرات اليوميّة التي تلتقطها عدسات الصحفيين وأن كل ما يظهر للإعلام عبر بعض المتحدّثين والتقارير ما هو إلا صورة منعكسة
تجسّد الدور الكبير والخفي لجنود الصّف الأمامي في هذه الأزمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى