الموسى يعرض أبرز صور المواساة بين المؤمنين في زمن كورونا
مالك هادي: الأحساء
يُبيِّنُ القرآنُ الكريمُ أنَّ اللهَ خلقَ الدنيا ولَمْ يجعَلْ فيها الراحةَ، بلِ الشدةَ والضنَكَ، فيها الكدرُ وعدمُ الصفوةِ، والتعبُ والكدحُ والنصبُ، فهذا مِنْ طبيعتِها، يقولُ تعالى مخبرًا عنْ حقيقةِ خلقةِ الإنسانِ: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) يكابدُ ما في هذِهِ الدنيا مِنَ النصبِ والشدةِ، تعتريهِ الهمومُ والأحزانُ والغمومُ ، بهذا استهل سماحة الشيخ عباس الموسى حديث الجمعة.
وأكد سماحته بأن الأنبياءُ قدْ تعرضوا للتعبِ والمكابدةِ كغيرِهِمْ مِنَ البشرِ، وعانَوا مِنْ أنواعِ الابتلاءاتِ، فقال: لقدِ ابتُلِيَ نبيُّ اللهِ نوحٌ ولوطٌ بامرأتَيْنِ كافرتَيْنِ، وابتُلِيَ نوحٌ بولدٍ عاقٍّ وكافرٍ، وابتُلِيَ أيوبُ بالمرضِ، وابتُلِيَ إبراهيمُ بعمٍّ كافرٍ، وبقومٍ يؤذونَهُ، وهذا ما حصلَ لنبيِّ اللهِ موسى ونبيِّنا الأكرمِ .
وأن مِنْ رحمةِ اللهِ أنْ جعلَ في هذِهِ الدنيا الشدائِدَ، حتى يُذَكِّرَ العِبادَ أنَّ هنالِكَ داراً أُخرى ليسَ فيها هذهِ الشدائدُ، ليسَ فيها همومٌ ولا غمومٌ، وقدْ وصفَ القرآنُ الجنةَ ومَنْ يُقيمُ فيها: (لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ([الحجر:48]، وقالَ عنهُمْ: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
ونوه الشيخ الموسى قائلا: والكلامُ ليسَ عنْ هذِهِ الدنيا وشدائِدِها، وليسَ عمَّا يَنبغِي على المؤمِنِ أنْ يواجِهَهُ في مقاومَةِ هذهِ التحدياتِ والهمومِ والأحزانِ، ولكنْ عنْ مقابلةِ الناسِ لهمومِ الآخرينَ، ومواساتِهِمْ لهمْ، فحينَ يتعرضُ الإنسانُ للأحزانِ والهمومِ، أوْ يتعرضُ لمصيبةٍ في مالِهِ أوْ جسدِهِ أوْ أهلِهِ، فهلْ يُقابَلُ بمواساةِ الناسِ لَهُ، أوْ يُترَكُ وشأنَهُ يواجِهُ هذِهِ الهمومَ؟
وذكر سماحته بأنه مِنَ الطبيعيِّ أنْ يواجِهَ الإنسانُ الصعوباتِ في هذِهِ الحياةِ، فقال: ولكنْ هلْ يَجِدُ مَنْ يَسنُدُهُ ويساعدُهُ ويواسِيهِ في صعوباتِهِ ومِحَنِهِ؟ هلْ يجدُ مَنْ يحمِلُ عنهُ الهمومَ والأحزانَ ويشاركُهُ في ذلكَ؟ مِنَ الطبيعيِّ أنْ يتعرضَ الإنسانُ لنكبةٍ ومشكلةٍ في جسدِهِ أوْ مالِهِ مثلًا، ولكنْ ماذا على الناسِ فيما يتعرضُ لهُ الإنسانُ، فيما يتعرضُ لهُ أَخُوهُ المؤمنُ، هلْ بتركِهِ أوِ التفرُّجِ عليهِ أوْ مواساتِهِ؟
وأجاب الموسى عن هذه التساؤلات قائلا: الإسلامُ يُحرِّكُ الإنسانَ باتجاهِ الآخرِ ومواساتِهِ، فقدْ رُوِيَ عنِ الإمامِ الصادِقِ (ع): (سَيِّدُ الْأَعْمَالِ ثَلَاثَةٌ: إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى لَا تَرْضَى بِشَيْءٍ إِلَّا رَضِيتَ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَمُوَاسَاتُكَ الْأَخَ فِي الْمَالِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ).
فعندَما يتعرضُ الإنسانُ لأزمةٍ ماليةٍ ينتظِرُ مَنْ يساندُهُ ويواسِيهِ ويقفُ إلى جانِبِهِ، وفي تعاليمِ أهلِ البيتِ (ع) تركيزٌ على هذِهِ النقطةِ كثيرًا، وردَ عنِ الإمامِ الصادقِ (ع): (امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِلَى أَسْرَارِنَا كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا عَنْ عَدُوِّنَا، وَإِلَى أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ مُوَاسَاتُهُمْ لِإِخْوَانِهِمْ فِيهَا)، المادةُ الثالثةُ في الامتحانِ تعنِي كيفيةَ تعامُلِ الشيعةِ معَ إخوانِهِمُ المحتاجينَ؛ هلْ يشاركونَهُمْ ويقاسِمُونَهُمْ أموالَهُمْ؟ هلْ يفتحونَ قلوبَهُمْ وأيدِيَهُمْ للمحتاجينَ؟ إنَّ هذا ما أرادَهُ الإمامُ بالمواساةِ في المالِ، فهلْ يستطيعُ الإنسانُ أنْ يضعَ مالَهُ وممتلكاتِهِ في تصرُّفِ إخوانِهِ حتَّى يستوفُوا منها حاجتِهِمْ؟ هلْ تُحِبُّ لأخيكَ ما تحبُّهُ لنفسِكَ؟ وعليهِ فإنَّ مِنْ صفاتِ الشيعةِ مواساةُ الآخرينَ بأموالِهِمْ.
كما شدد الشيخ الموسى على أن المؤمنينَ همْ مَنْ يواسونَ مَنْ يستحقُّ المواساةَ، فينطلقونَ بحكمِ مسؤوليَّاتِهِمْ وواجِبِهِمُ الإيمانيِّ والإنسانيِّ والأخلاقيِّ، إلى مساعدةِ المحتاجينَ والمستحقِّينَ، فقال: فهناكَ مَنْ يحتاجُ إلى المالِ مِنَ الجيرانِ والأرحامِ والأصدقاءِ، فإذا ما علِمْنا بذلكَ، ونحنُ قادرونَ على مساعدتِهِمْ، فلْنبادِرْ إلى المساعدةِ عنْ طيبِ خاطرٍ وقناعةٍ بأنَّ الخيرَ يحبُّهُ اللهُ، ويزكُو وينمُو عندَهُ أضعافاً مضاعفةً.
فالجارُ إذا ما علمَ بضيقِ يدِ جارِهِ، فلْيَسْعَ إلى خدمتِهِ، ويعملْ على تأمينِ حاجاتِهِ قدرَ استطاعتِهِ، والزّوجةُ إذا كانَتْ تملِكُ مالاً، وكانَ زوجُها في عسرٍ مِنْ أمرِهِ، فلْتبادِرْ إلى مساعدتِهِ ومواساتِهِ بمالِها، كما على الأرحامِ أنْ يواسُوا بعضَهُمْ بعضاً، ويقضُوا حوائِجَ بعضِهِمْ بعضاً، وعلى الصَّديقِ أنْ يواسِيَ صديقَهُ أيضاً، فيعمَلُ على تفريجِ همِّهِ وإعانتِهِ.
وعن صورة أخرى من صور المواساة بين المؤمنين قال الموسى: وفي مشهدٍ مهيبٍ ذلكَ الذي يرافِقُ تشييعَ الجنائِزِ في زمنِ كورونا، رحيلٌ صامتٌ يقطِّعُ الأنفاسَ، عائلاتٌ تودِّعُ أحبابَها بلا سندٍ أوْ مواساةٍ لتواجِهَ منفردةً مصيبةَ الموتِ، الجائحةُ تقتلُ مرتينِ؛ تخطِفُ الأقاربَ مِنْ ذويهِمْ، وتحرِمُ هؤلاءِ مِنْ إلقاءِ نظرةٍ أخيرةٍ عليهِمْ، هؤلاءِ المثكولونَ يحتاجونَ إلى مواساةٍ.
وأشار سماحته إلى أمرَيْنِ: أولُهُما: التعزيةُ، فقال: وهيَ لِمَنْ لمْ يتمكنْ مِنْ حضورِ الجنائِزِ، فإنَّ الاتصالَ المباشِرَ بالتعزيةِ أفضلُ مِنْ إرسالِ الرسائِلِ عبرَ وسائِلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ.
وثانِيها: مِنَ المواساةِ بأنْ تقومَ بحاجاتِ أهلِ المصيبةِ ولوْ مِنْ بَعِيدٍ، كإعدادِ الطعامِ لَهُمْ، فهُمْ في وضعٍ لا يُحسدونَ عليهِ، وربَّما لا يدركونَ ما همْ فيهِ، فيحتاجونَ إلى المواساةِ بالعملِ والاهتمامِ.
وفي صورة ثالثة للمواساة في زمنِ كورونا معَ المصابينَ بهذا المرضِ، قال الموسى: تواصلْتُ معَ بعضِهِمْ وكانُوا يعانونَ مِنَ المرضِ وشدتِهِ، هؤلاءِ يمرونَ بمرحلةِ بلاءٍ وابتلاءٍ، أقولُ لهُمْ ما وردَ عنْ نبيِّ اللهِ موسى (ع): (يَا رَبِّ لَا مَرَضٌ يُضْنِينِي، وَلَا صِحَّةٌ تُنْسِينِي، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ أَمْرَضُ تَارَةً فَأَشْكُرُكَ، وَأَصِحُّ تَارَةً فَأَشْكُرُكَ).
وأقولُ لكلِّ الأحبةِ الأصحاءِ: إنَّ هؤلاءِ يحتاجونَ للمواساةِ بالسؤالِ عنهُمْ بأيِّ وسيلةٍ للاطمئنانِ على صحتِهِمْ، والدعاءِ لهُمْ في ظهرِ الغيبِ وفي العَلَنِ، ومساعدتِهِمْ في إخراجِهِمْ مِنْ حالةِ مرضِهِمْ، ربما يحتاجونَ إلى رعايةٍ صحيةٍ، ورعايةٍ غذائيةٍ وغيرِ ذلكَ، بدلًا مِنَ التشهيرِ بهمْ ووصفِ بعضِهِمْ بأنهُمُ السببُ في نشرِ المرضِ مثلًا، أوْ أنهمْ لا يحرصونَ على الاحترازاتِ، فأكثرُ المصابينَ لا حولَ لهمْ ولا قوةَ في الإصابةِ، وماذا لوْ تعرضْتَ أنتَ للإصابةِ هلْ ستقولُ عنْ نفسِكَ ما تقولُ عنهُمْ؟ علينا أنْ ندركَ ما يحصلُ عليهِ المصابونَ مِنَ الأجرِ والثوابِ نتيجةَ هذا البلاءِ والابتلاءِ والذي يبينُهُ رسولُ اللهِ (ص) في التعبيرِ الموجَزِ والبليغِ في ندمِ أهلِ العافيةِ على عدمِ ابتلائِهِمْ حيثُ يقولُ: (يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ لُحُومَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ).