ويمكر الله
باقر الرستم
بمناسبة رحيل مولانا الإمام الجواد صلوات الله وسلامه عليه.. هنا كلمة قصيرة، آمل أن تكون مفيدة.
ذات الصعوبة، والظروف القاسية التي عاشها الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه عاشها نجله الإمام محمد الجواد صلوات الله عليه… بين مكر المأمون، ومحاولاته خلط الأوراق، وإظهاره أن آل البيت حلفاءه في قبال العلويين الآخرين المعارضين له، سواء من البيت الحسني أو الزيدي، ولمواجهة المعارضة له داخل البيت العباسي أيضاً.
وبالتالي فإن أداء الإمام الجواد في تلك الظروف.. لإمامة الشيعة، وهو في الثامنة من عمره، دون بروز أي تشظٍ في البيت الشيعي كما حصل مع أبيه الرضا وجده الكاظم ممن عُرِفوا بالواقفية يؤكد وجود يد إلهية في تعزيز موقفه وإمامته.
وأخطر شيء تواجهه أي منظومة عميقة وأصيلة عندما تمر بظروفٍ استثنائية على مستوى القيادة، وتكون السلطة السياسية رافضة لها، أو تستهدفها، والأخطر أن تمارس معها ألاعيب الكر والفر والالتفافات الغامضة.
اليد الإلهية تدخلت لدعم الواقع الاستثنائي، ليتعزز المشروع الإلهي حيث يريده الله أن يظهر، ويقدم رسالته بتلك النافذة، وفي تلك البيئة المضطربة، تحت الشعار الإلهي (( واصطنعتك لنفسي))، و (( لتصنع على عيني))، فيريد المأمون التخلص من تهمة قتل الإمام علي بن موسى الرضا، وهو ولي عهده، فقد لجأ إلى احتضان ابنه الإمام محمد الجواد.
والمأمون هنا يريد أن يحتضن زعامة الشيعة، وليس ابن الرضا ذاتاً، ولذلك.. فإنه لو افترضنا أن الزعامة ليست لأبي جعفر الجواد.. بل لشخصٍ آخر من بني هاشم.. كما لو كان أحد أخوة الإمام الرضا أو أحد مشاهير البيت العلوي لقدم ذلك الزعيم، وسيكون تعامله مع الجواد ثانوياً.
ما قام به المأمون تجاه الإمام الجواد عليه السلام في التصنيف السياسي يدخل ضمن البروباغندا السياسية، والعمل الدعائي.. كون تلك الخطوات من قبل السلطة دعائية، ومبالغ فيها، لتبرأتها من مسؤولية تصفية الإمام الرضا عليه السلام، فيما الإمام الرضا لم يكن معلولاً، ولا يشتكي من شيء، وموته السريع بعد تعيينه ولياً للعهد، وما ظهر وعُرِف عنه عدم إقباله على ذلك المنصب الرفبع، وعدم قدرة المأمون احتواءه، وإبرازه كحليف متعاون، حيث لم يظهر منه لا تصريح، ولا موقف ولا تواطؤ لتأييده في شيء يزيد من الاتهام له، وللسلطة برمتها في تصفية ولي العهد، لذلك كان تصرف السلطة والمأمون يزيد من التهمة لا أن يتجاوزها، وتحديداً آل الإمام الرضا.
حاجة الإمامة أن تتجاوز ظروفها الاستثنائية هذه كحاجة نبوة موسى لتجاوز استهداف فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم.. فقالت زوجة فرعون: لنتخذه ولداً.
وهنا يقدم المأمون على خطوة أخرى، تدخل ضمن الذكاء السياسي لتجاوز تهمة القضاء على ولي عهده، وهو ما يريح البيت العباسي، ولكنه سيشعل ناراً بخشى أوارها.. يضخمها الله تعالى له، وهو الخوف من الجواد، واتهامه بقتل والده، ليقدم على تلك الخطوة.. وما تحتاجه من خطوات أخرى كمقدمة لفرضها كواقع.
وهي أن يزوج الإمام الجواد من ابنته أم الفضل، وهو في عمر الثامنة من عمره!!.
ما دفعك لذلك يا مأمون؟!.. أن تحتضنه؟!.. تهتم به.. تعتني به؟!.. أسئلةويطرحها كبار رجال البيت العباسي: لا بأس، وممكن أن تهتم به.. تحتضنه، وكل ذلك مقبول.. ولكن أن تزوجه ابنتك، وهو دون سن البلوغ؟!!.. فهذا ما يدفع للفضول والغرابة، وهي ماذا وراء هذه البروباغندا المأمونية الغريبة؟!، في حين أنه بهذه الخطوات ذاتها يؤكد التهمة على نفسه في مسؤوليته بتصفية ولي عهده الإمام الرضا عليه السلام.
هنا.. المأمون يعرف خطوته.. إنه ليس طفلاً كسائر الأطفال.. بل هو رجل في عمر طفل.. وإمام وزعيم.. وفقيه.. يحمل كل ما كان والده يحمله من علم ودين؛ ليكون مستحقاً وراثة ذلك المقام.
خطوة استثنائية.. مثيرة.. غريبة.. ستُلفت نظر الجميع.. كل الأحزاب.. كل الاتجاهات.. كل التوجهات.. فكيف سيتجاوز هذا الموقف؟!.
العالم كله سيكون منتبهاً.. وسيهتم بتفاصيل ما قبل وما بعد لهذه الظاهرة الاستثنائية داخل البلاط العباسي.
إذن لتُعقد جلسة علمية مفتوحة لنرى ما قدر ما يُحسن هذا الصغير ليقوم مقام أبيه..
هل المأمون واثق من أن هذا الزعيم الصغير أو الإمام الصغير سيتجاوز رهبة اجتماع كبار رهط البلاط لمحاججته؟!.
كل ذلك ليس مؤكداً، ولكن المأمون يرى أنه يمكن استثمار كل النتائج لصالحه.
الاتجاه العقائدي للمأمون ليس أشعرياً.. ولا شيعياً.. بل هو معتزلياً، وقد قربهم إليه، ومع ذلك فإن مفتي الدولة العالم السلفي يحيى بن أكثم!!.
فإذن تعاطي المأمون البرغماتي في معالجة التحديات التي يمر بها ليست منطلقة من بعد عقائديٍ كما أراد بعض الكتاب معالجته، وإنما خياراته الصعبة، والتي تسير على حافة الهاوية تفرض عليه أن يكون كذلك، ومن خلال تلك المغامرات التي يقدم عليها المأمون يقع في الأخطاء التي لا يمكنه أن يتلافها، ولكن بظنه أنها أقل سوءً مما كان يسلكها أسلافه من بني العباس.
حدث ذلك المؤتمر، وقد صُعق منه الجميع، وظهر فيه الإمام الجواد ذي الثمان سنوات كزعيم وفقيه وإمام لطائفة تكفل المأمون بإبرازه للعالم الإسلامي كله!!، وليس فقط ذلك.. بل ظهر الآخرون بأنهم متأخرون جداً، تأخر الجاهل عن العالم، وتحقق معنى (( ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم))، وهذا ما منع من ظهور الواقفة في إمامة الإمام الجواد.
المأمون لم يكن يدافع عن إمامة الجواد، ولم يفعل ذلك لإمامة أبيه، إلا أنه وبمغامراته وفر ظرفاً أظهر الجواد إماماً وزعيماً يحمل كل صفات والده، وهذا ما تحتاجه الإمام في ظرفٍ استثنائي لها كهذا، وفي مثل هذا الوقت.. وهو ذات العمر الذي تسلم ابنه الإمام الهادي زعامة شيعته.
هنا لنخرج من منطق الطفل الذي يرعاه مربيه كما هو حال بعض الحكام إلى أن يبلغ ليكون حاكماً، لنرى أبا جعفر الجواد إماماً وزعيماً وبلا وصاية من أحدٍ كما يحدث في القصور، ليمارس زعامته بكل ما كانت لسلفه من قوة ووهج.
ولذلك فإن الإمام الجاد هو كآبائه مصدق قوله تعالى: (( الله أعلم حيث يجعل رسالته)) وفي ذلك (( فلله الحجة البالغة))..
قال تعالى (( يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبيا)).