الموسى: العودةِ للحسِّ الجماعِيِّ والتربيةِ الجماعيةِ علاج لانفلات الأبناء
مالك هادي: الأحساء
“في ظلِّ ما يعانيِهِ الإنسانُ في واقعِهِ مِنْ مشاكِلَ وتعقيداتٍ، تطالُ مختلفَ مناحِي حياتِهِ الصحّيةِ والنفسيةِ والاقتصاديةِ، تبرزُ الحالةُ التربويةُ كمشكلةٍ يعانِي مِنها الكثيرُ، ففِي ظلِّ التقدمِ الالكترونيِّ يفقدُ الكثيرُ مِنَ الناسِ القدرةَ على التحكُّمِ التربويِّ لأولادِهِمْ، وهذا مما يستدعِي مراجعةَ الحالةِ الآنيةِ والسابقةِ واللاحقةِ، وملاحظةَ الفوارِقِ، وهلْ بالإمكانِ إعادةُ النظرِ في مسألةِ التربيةِ؟” بهذا استهل سماحة الشيخ عباس الموسى إمام جمعة مسجد الإمام الكاظم عليه السلام ببلدة الحوطة.
وتحدث الشيخ الموسى عن واقِعِنا الحاليِّ الذي ربَّما يحاولُ البعض الحركةَ في إطارِ التربيةِ الذاتيةِ، وهي الفرديةَ والتي يسعَى مِنْ خلالِها الإنسانُ إلى إصلاحِ نفسِهِ وروحِهِ: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) فيستطيعُ مِنْ خلالِ المجاهدةِ النفسيةِ أنْ يتحرَّكَ في صلاحِ نفسِهِ حتى لوْ كانَ في بيئةٍ فاسدةٍ.
وذكر سماحته بأن هناكَ نماذجُ متعددةٌ أبرزَتْ لنا نماذِجَ خيرةٍ مخالفةٍ لمحيطِها السلبيِّ، فحدثنا القرآنُ عنِ امرأةِ فرعونَ: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
ثم تناول الموسى عنوان التربية الجماعية فقال: وحديثِي ليسَ عنِ التربيةِ الذاتيةِ الفرديةِ، وإنَّما عنِ التربيةِ الجماعيةِ، وأعنِي بالتربيةِ الجماعيةِ مشاركةَ جميعِ المجتمعِ في تربيةِ أولادِنا، فهلْ توجدُ إمكانيةٌ لذلكَ أوْ أنَّها مجردُ فرضٍ ولا يمكنُ حصولُهُ؟
فاستعرض سماحته ما يشتكِي منه الكثير من عوامِلُ مؤثرةٌ في التربيةِ السلبيةِ، فقال: كوسائِلَ التواصلِ الاجتماعيِّ والتجمعاتِ الشبابيةَ، والعلاقةَ المشبوهةَ التي دمرَتْ أولادَنا، وليسَ لدينا القدرةُ على التحكمِ والسيطرةِ، وبِتْنَا في وضعٍ لا نُحسدُ عليه، حتَّى إنَّنا نستغرِبُ أحيانًا مِنْ كونِ الرجلِ قطعةً مِنَ الإيمانِ، ولهُ ولدٌ قطعةٌ مِنَ الفسادِ! ما الأسبابُ والعوامِلُ المؤثرةٌ في ذلكَ، وكيفَ نعودُ لحالةٍ مستقرةٍ كما كنَّا سابقًا وكانَ آباؤُنا؟
فذكر الموسى بأن أحدُ الأسبابِ في ذلكَ هوَ الانفرادُ في التربيةِ وإبعادُ الأهلِ أوِ المجتمعِ مِنْ أيِّ مشاركةٍ في ذلكَ، فالأبُ والأمُّ ينطلقانِ مِنَ الشعورِ الذاتيِّ فقطْ، ويعتقدانِ أنَّهُما قادرانِ على تربيةِ أولادِهِما بمفردِهِما في جميعِ مراحلِ حياةِ الأولادِ، ولكنْ يُفاجَئانِ أنَّ الأولادَ خرجُوا عنِ السيطرةِ في بعضِ الأحيانِ، فقال: نحنُ نلمسُ ذلكَ في حياتِنا، فبعضُ الآباءِ لا يقبلُ لأخيهِ أنْ يتدخلَ في تربيةِ أولادِهِ ويقولُ: أنا أريدُ أنْ أربِّي أولادِي كما أَرَى، وكذلِكَ الأمُّ لا تقبَلُ مِنْ أُختِها، بلْ في بعضِ الأحيانِ الزوجةُ تُحدثُ المشاكِلَ لوْ تعرَّضَ لأولادِها أحدُ أعمامِهِ حتَّى بالزجِزِ والنهي عن خطأٍ صادرٍ منهمْ.
وأكد من وجهة نظره أنَّ أحدَ أهمِّ أسبابِ مشاكِلِ التربيةِ اليومَ هيَ فقدانُ التربيةِ الجماعيةِ، قال: في السابق كنَّا نشاهِدُ المعلِّمَ وكنَّا نهابُهُ، وكانَ المعلمُ يقومُ بدورِهِ التربويِّ حتَّى خارِجَ المدرسةِ، واليومَ هوَ محاسَبٌ على عملِهِ ومعاقَبٌ على كلِ تصرُّفٍ -بلْ كلِّ تأديبٍ للأولادِ في داخِلِ المدرسةِ- فماذا عساهُ أنْ يفعَلَ خارجَ المدرسةِ؟ وإلَّا فإنَّ المعلِّمَ كانَ يؤدِّي دورًا رياديًّا في التربيةِ الجماعيةِ!
وكانَ الأعمامُ والأخوالُ يؤدونَ دورَ التربيةِ أيضًا، عندَما يجدُ الرجلُ أنَّ أحدَ أبناءِ أخيهِ أوْ أختِهِ يرتكِبُ خطأً كانَ يحاسبُهُ ويعاتبُهُ بلْ ويضربُهُ إنِ استلزَمَ، والآنَ قدْ يواجَهُ هوَ بالتأنيبِ والعتابِ ويُطلَبُ منهُ عدمُ التدخُّلِ حتَّى لوْ فعلَ الولَدُ ما فعلَ، وفي أحسن التوقعات يقال له: (إذا شفت شي لا تكلم الولد تعال قول لي وأنا أتصرف).
وشدد الشيخ عباس الموسى على أن الحلُّ في العودةِ للحسِّ الجماعِيِّ والتربيةِ الجماعيةِ، تلكَ الحالةُ التي يشعُرُ فيها الأولادُ بأنهم محاسبونَ مِنْ جميعِ مَنْ حَولَهُمْ لوْ فعلوا خطأً، لأنَّ الأبَ لا يمكنُ أنْ يتعايَشَ معَ الابنِ في كلِّ الأوقاتِ، لابدَّ أنْ يُدرِكَ الأبُ أنهُ قدْ يسافِرُ، فمَنْ لأولادِهِ؟! وقدْ يمرضُ ولا يتمكنُ مِنْ مراعاتِهِمْ، وقدْ يُسجَنُ لأيِّ سببٍ ويغيبُ عنْ أولادِهِ، ولا يتمكَّنُ مِنْ فعلِ شيءٍ لهمْ، بلْ قدْ يموتُ ويترُكُ هؤلاءِ بِلا رقيبٍ ولا معينٍ، وقدْ لا يجدُ مَنْ يعينُ أولادَهُ ويربيهِمْ لأنهُ كانَ يرفُضُ ذلكَ في حياتِهِ.
واستشهد على هذه العلاج من القرآن الكريم حينَما يبينُ أنَّ العمَّ كالأبِ في المنزلةِ، بلْ إنَّ العمَّ أبٌ: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) وعليهِ مسؤوليةُ التربيةِ لأبناءِ أخيهِ كما يربِّي هوَ أولادَهُ، فقال: لْنَسْتَشْعِرْ مثالًا واحدًا يدعونا للتحرُّكِ لتربيةِ أولادِ إِخوتِنا، حينَما يكونُ أحدُ الإخوانِ مِنْ أصحابِ الحالاتِ الخاصةِ، بهِ جنونٌ إدواريٌّ مثلًا، أوْ قصورٌ فكريٌّ، أوْ مرضٌ خَلْقِيٌّ يجعلُهُ غيرَ قادرٍ على التربيةِ؛ فمَنْ لهؤلاءِ الأولادِ؟!
وأيضًا الخالُ وهوَ كما في بعضِ الرواياتِ: (اخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ الْخَالَ أَحَدُ الضَّجِيعَيْنِ)، فما دُمتَ قدِ اخترْتَ مِنْ هذا البيتِ أُمًّا لأولادكَ فلا بدَّ أنْ يكونَ بيتًا مؤهلًا للتربيةِ يشاركُكَ في تربيةِ أولادِكَ.
إذا ما أردْنا أنْ نطمئِنَّ على أولادِنا في حلِّنا وترحالِنا، لا بدَّ أنْ يتحمَّلَ جميعُ المجتمعِ مسؤوليةَ التربيةِ الجماعيةِ، الأخُ والأختُ، الجارُ والصديقُ، لكَيْ يكونَ جميعُ أبناء المجتمعِ في مأمنٍ مِن انزلاقاتِ التربيةِ.