تجربة الكتابة الإبداعية لدى (الشاعر الكبير ناجي الحرز)
جاسم الصحيح
علاقةُ الشاعر الكبير (الأستاذ ناجي الحرز) بالشعر علاقةٌ وجوديَّةٌ محكومةٌ بسُلطةٍ قَدَرِيَّةٍ، فهُما توأمانِ سياميَّانِ لهما قلبٌ واحد، لو مرَّ عليهما مشرطٌ ليفصلهما، لأصبحت الحياةُ لأحدهما مستحيلةً دون الآخر.
وما يُمَيِّزُ شعرَ (الأستاذ ناجي) هو ذلك الألقُ الصافي الذي يُضيء أدغالَ النفسِ الأُولى عائداً بنا إلى منابع الفطرة التي أضعناها في هذا العصـر، واكتفَيْنا أن نقِفَ على شَواطئ نهرِ الشعر ونغترفَ من معينهِ المشوبِ بالطينِ والطَمي. ولكنَّنا حينما نقفُ على شواطئ هـذا الشاعر، نجدُ أنفسَنا واقفينَ على نافورةِ النَبْـعِ الأوَّل حيثُ الصفـاءُ المطلق، ومن هناك ننطلقُ معَهُ في رحلةٍ معنويَّةٍ نهريَّةٍ ريَّانةٍ بالخصوبة اللغويَّة، والإِمْتَاعِ الفَنّيِّ، والتدفُّق السَّلِس حيث السلاسة في عباراته تشبهُ انبعاثَ الموسيقى من الأوتار في نوتاتٍ موسيقيَّةٍ متناغمة.
تتحوَّل الكلمات على يديه إلى كائناتٍ حيَّة تتنفَّس وتفكِّر وتشعر بكل ما يشعر به الإنسان من فرح وحزن وحبِّ وألم وجنون.. واحتجاج أيضا، وهذه النزعة الاحتجاجية تطغى على بعض شعره، خصوصاً في شكواه ضد الزمن. أمَّا النزعة الرومانسية في أسلوبه التعبيري فهي -بلا شكّ- انعكاسٌ للرومانسية داخل نفسه. ولعلَّ الشهادة الكبيرة التي كتبها (الشاعر الكبير غازي القصيبي رحمه الله) عن شاعرية (الأستاذ ناجي)؛ تشير إلى هذه النزعة الرومانسية التي أتحدث عنها، حيث يقول (أبو يارا):
(في زمن الألغاز الحداثية والنثائر المتشاعرة يطلُّ علينا ناجي الحرز قادماً من عهود الشعر الرومانسية الجميلة بباقة من القصائد تحمل طعم النخيل وأشذاء الأرض وعطر القلوب المحترقة.. مرحباً بهذا الشعر الرقيق في هذا الزمن العنيف).
وهنا أودُّ في هذه المقالة أن أستعرض ديوانَين من دواوين الأستاذ ناجي الحرز هما:
1) ديوان (خفقان العطر)
2) ديوان (قصائد ضاحكة)
كما أودُّ أن ألقيَ الضوء على الأسرار الكامنة في اللغة الشعرية التي يمارسها الشاعر بامتياز.
في ديوانِهِ الموسوم بعنوان (خفَقَان العطر) الذي أودُّ إلقاء الضوء عليه أوَّلا.. يطلُّ البيانُ الساحرُ وهو يمارسُ نشاطَه بكلِّ قوَّةٍ وفاعليَّة، وفجأة ينشقُّ التاريخُ أمامَنا حينما نتوغَّلُ في القصائد، ويطلعُ من بين ثنـاياهُ شاعرٌ مهمومٌ وعاشقٌ، قادمٌ من العصرِ العباسيّ، يتدفَّق في صيغةِ الوصف الدافئ للهموم على مـدى مساحةٍ زمنيّةٍ عاشقة، ويعودُ بِنا إلى حضنِ الطبيعةِ البكْر التي لم تفقد عذريّتَها.. تلك الطبيعة التي ارْتَسَمَتْ على وجهِ الحياةِ قبلَ تشويهه، ثم نندفعُ مع الشاعرِ نحو الارتطام بجدران حقيقتهِ القاسية التي هي بالتالي حقيقةٌ إنسانيَّةٌ تشملُنا جميعاً؛ وأخيراً، نكادُ نسقطُ وإيَّاهُ في هاوية الانهيار البشريّ لولا أنْ تسندنا أكتافُ قصائده.
حين يحلمُ شاعرُنا الكبير، يتسلَّل في هروبٍ فنَّان من ضجيجِ الواقع، ونراه يلوذ بـ(ـظلاَل نجمةٍ حالمة)، ويوسِّد جراحَه على (هَمَسات غيمةٍ خضْراء)، ويلتحمُ هو وحبيبتُه في زهرةٍ واحدةٍ تجعلُ منهما (خفقان العطْر في صدرِ الرحيق)، وهناك في آفاق القصائد السابحة فـي الأعالي.. تتشكَّل ملامحُ الأحلامِ فتأخذُ من الغَزَلِ وجها ومن الحنينِ إلى المرأةِ جسَداً فنّياً، فها هو يقول في قصيدة (أطلِّي):
أطلِّي من رُؤى حُلمٍ قديمِ
أناشيداً تُهدهدُ من جَحيمي
أطلّي غيمةً خضراءَ تغفُو
على همساتِها النشوى، كُلُومي
ويقولُ في القصيدة التي حمل الديوانُ عنوانَها (خفقان العطر):
خطوةٌ واحدةٌ ما بيننَا
تَتَمَطّى الآنَ مليونَ طريقْ
خطوةُ واحدةٌ ما بيننَا
أصبحتْ أبعدَ من وهْمِ غريقْ
هذا الوهَجُ الرومانسيُّ يمتدُّ على رُقعةٍ كبيرةٍ من خارطتهِ الشعريّة حيث الأحلامُ تنفتحُ على عدم الانغلاق، وحيث المعانـاةُ الشخصيّة حاضرةٌ بقوّة ذلك الوهجِ، ولو كنتُ أملكُ إحساسَهُ المرهفَ وأصغيتُ جيّداً لاستطعتُ أنْ أسمعَ حفيفَ أجنحتهِ في سماءِ الورَق.
ويتَّضِحُ إخلاصُ الشاعر ناجي لأحاسيسِه في كلِّ قصائدِهِ كمَا يتَّضح أنّه يملكُ أدواتٍ فنِّية في مستوى تلك الأحاسيس، فإذا فتحَ بوَّابة ذاكرتهِ على كنـزِ الماضي المليءِ بالجواهر الإبداعيّة واقتبسَ جوهرةً من ذلك الكنْـزِ، فإنَّهُ يُمَرِّرُهـا عبر مصفاةِ ذاتهِ حتى تزدادَ تألُّقاً وازدهاءً، على عكس الكثيرِ من الشُعراء الذي لا يُجيدونَ السيطرةَ على اللَّهَبِ الشعري فيجورُونَ على الجواهرِ القديمةِ بالإحراق.
يقولُ في قصيدةٍ بعنوان (حَسْبي):
عينَاكِ أمْ نافذَتَا حَنانِ
تُطلُّ منْ أُفْقِهِمَا الأمَاني
وثغْرُكِ الباسمُ أمْ سُلافةٌ
مَلَّتْ جحيمَ القَهْرِ في الدِّنانِ
وناهدَاكِ ذانِ .. أمْ حُقَّانِ منْ
طيبٍ على الصَدْرِ مُعَلّقانِ
ويقولُ في قصيدة (أدنُ منّي):
أدنُ منّي أيُّها الغافي على
حَبّةِ القلبِ أهازيجاً وهَمَّا
أدنُ منّي أتفيَّأْ ساعةً
رمشكَ الممتدَّ في عمريَ حُلمَا
العينانِ نافذتانِ، والثغرُ سلافةٌ، والناهدانِ قارورتانِ من العطرِ، والرمشُ فَيْء..
صحيحٌ أنَّ قمصانَ التَشَابيه هذهِ التي يخلعُها الشاعر على الأشياء بضائعُ جاهزةٌ على رفوفِ التاريخ الشعري، لكنَّ الشاعرَ يُطَرِّزُ هذهِ القمصانَ بخيوطِ روحِهِ، وينسجُ عليها آخرَ أشكالِ مُعاناتِهِ حتى تبدوَ في زيٍّ خاصٍّ من تصميمِ هذا الشاعر المجدولِ من سعفـاتِ النخيل، وهذه الموهبةُ تنمُّ عن عمق ذائقتهِ التراثيَّة ومدى سيطرتهِ على الموروثِ وقُدرتِهِ على إعادةِ تشكيلهِ في صياغةٍ مُعاصرة.
إلى هُنا وما تزالُ الأحلامُ تسمُو في مدارجِ اللهفةِ من مدارٍ إلى مدارٍ أعلَى، حتّى إذا اصطدَمَتْ بسقفِ الواقعِ بعدَ المدارِ الأخير، سمعْنا صوتَ انهيارِ الشاعرِ وتَسَاقُطَ أعمدةِ الشعر في قصيدتهِ (الصَمْت).. هذه القصيدةُ وأخواتُها من قصائدِ التفعيلة عبارةٌ عن مُعاناة أكبر من البوح الصريح، لذلك فهو يدفعُ المعاني للتَّزَلُّجِ على جليدِ الرمزيَّة تَزَلُّجاً ماهراً يجعلُنا نلمحُ المعنى خاطفاً ولا نستطيعُ أن نلاحقَهُ إلاَّ بالأحاسيسِ لأنَّهُ يذوبُ من فرطِ الرقَّة والشفافية، يقولُ الشاعر في قصيدة (الصمت):
الصمتُ الصمتُ ..
وهذا القلبُ الخائفُ من نزَقِ المجداف
يعرقلُ آياتِ جنوني
يمنعني من كسْرِ ظنوني…
أعاندُ إلحاحَ المرساةِ
أُحاذرُ تكرارَ المأساةِ
هذا الارتطامُ العنيف بِجُدران الحقيقة لا يمكن امتصـاصُ طاقته الهائلة إلا بـ(ـزُنْبُرِكِ) الشعر الحُرِّ كي يَتَمَدَّدَ في مساحةٍ أرحب، فالشاعرُ هُنا يتجاذبهُ (مجدافُ نَزَق) يُحـاولُ أنْ يجترحَ حُلمَ الإبحارِ القديم مَرَّةً أُخرى، لكنَّهُ يعلمُ من واقعِ التجرِبة المُرَّة أنَّ هذا الإبحارَ سيُفْضي إلى ذاتِ المأساةِ الأُولى التي يُحاذرُ تكرارَها.
ومن قصيدةٍ أُخرى بعنوان (في الليل):
في اللَّيْلِ إذا انطفأَ الأطفالُ
أُلملمُ حزمةَ ضَوْءٍ أصفرَ
من ذيلِ القمرِ المغلولِ
نلاحظُ ثَمَّةَ غلائل شفَّافة تقفُ حاجزاً بيننا وبين المعاني إذْ نستطيعُ أن نرى المعنى ولا نستطيعُ الوصولَ إليه.. نُحِسُّهُ ولا نُمْسِكُ بهِ.. إنَّها قدرةُ الشاعر على أن يُحلِّي الأذواقَ بِمرارةِ المتعة في الغموضِ، وأن يُحَوِّلَ المفرداتِ إلى أضواء.. فكيف لنا أنْ نُمسكَ بالضوء؟!
وقد يعتقدُ البعضُ أنَّ الشاعر ناجي يقفُ طويلاً أمامَ المرآةِ لِتزيينِ نصوصِهِ من فرط ما تحملُ تلكَ النصوص من نظافةٍ لغويّةٍ وأناقةٍ فنّية، ولكنَّني أرى أنَّ نظافةَ لُغتهِ نابعةٌ من صَفَاءِ ذهنهِ الذي هو دائماً في حالةِ تَجَـلٍّ نقيٍّ، ولذلك تخرج قصيدتُهُ انعكاساً محضاً لِمرآةِ ذلك الذهنِ الصافي دون أنْ يُضفي عليها المساحيقَ والألوان.
توجدُ في نهايةِ الديوان قصائدُ ذاتَ مناسباتٍ رثائيّة تستريحُ في محطَّاتِ الحكمةِ وتغرفُ من آبارِ العاطفةِ، لكنَّها تجري في قناةِ الرثاءِ الكلاسِيكي نحو مصبَّات الشعر القديم لولاَ بعضُ الموجاتِ النافِرةِ، كما في قوله:
نُراوحُ بينَ الشجَى والشَجَنْ
عُجَالى على قارعاتِ الزَمَنْ
لِيُسْلِمَنا يومُ لبسِ القماطِ
صغاراً إلى يومِ لبسِ الكَفَنْ
وبينَ البكائينِ وهمٌ كبيرٌ
يُباعُ علينَا بِأغلى ثَمَنْ
مِمّا لا شكَّ فيه أنَّ اللغةَ الشعريَّة في الديوانِ مصقولةٌ بِما يكفي للخروجِ من طور الخامةِ إلى مرحلة متقدِّمةٍ من اللمَعَان، إلاَّ أنَّها في بعضِ القصائدِ محبوسةٌ خلفَ سياجِ من العَقْلَنة، بينما هي -في قصائدَ أُخرى- منفتحةٌ على مدىً واسعٍ من الإيحاء حيث يُفاجئنا الانبهارُ بدهشةٍ تفتحُ العينين على أقصى مداهما السحيق.
أعودُ في نهاية المطافِ وأُؤَكّدُ على أنَّ الديوانَ عبارة عن رحلةِ نهرٍ خصيبٍ في غابةِ النفس، لا تشوبُها شائبةٌ إلاَّ أنَّها متناغمةُ الجَرَيَانِ الفَنّي في بعض امتداداتِ النَهْر، وهذا التناغمُ يثيرُ الرتابةَ في لُغةِ الماء فتحتاجُ إلى صرخةٍ أشبَهَ بنغمةٍ مائزةٍ تثقبُ جَسَدَ الرتابةِ، إذْ لابُدَّ للنهرِ في الغابةِ من أنْ يَمُرَّ بِمُرتفعَاتٍ ومنحدراتٍ، أو أنْ تعترضَهُ أشجارٌ وأحجارٌ فيغيِّر نبرةَ صوتِه، كذلكَ الشاعرُ لا يمكن لانفعالِهِ أن يبقى مستمِرًّا على وتيرةٍ واحدة من أَوَّلِ القصيدة إلى آخرِها، فهذا يجعلُ من اللُّغةِ لُغةً ساكنةً تبحثُ عن نزوةٍ صاعقةٍ تحوِّل الأمواجَ العاطفيّة إلى حالةٍ من الفوضى الشاعريّة.
ولعلَّ القصيدتين (ومضة فرَح) و(الجـدار) تَفَلَّتَتَا من قبضةِ الرتابةِ تَفَلُّتًا ذكيًّا واتَّخَذَتَا مجراهما في النهرِ صَخَبَا، يقولُ الشاعر في نهاية قصيدة (ومضة فرَح):
أخشَى تموتُ يراعتي
من قبلِ ميلادِ الزلازلْ
يا أَيُّها الإنسانُ ماذا ـ
قالَ زندُكَ للسلاسلْ
وإلَى متى يمتدُّ نوحُ الأرضِ –
في أيدي القوابلْ
ويقولُ في نهاية قصيدةِ (الجدار):
في الصَمْتِ القادمِ إكليلٌ
شرقيٌّ وثلاثُ قصائد
وجدارٌ وفؤادٌ مقروحْ
ونسيرُ على الوهَجِ المذبوحْ
الروحُ تُوَلْوِلُ خلفَ الروحْ
العتمةُ والغَضَبُ المسفوحْ
في هاتينِ القصيدتين المُحَمَّلَتَيْنِ بشحناتٍ مـن الهمومِ الإنسانيَّة والوجوديَّة، يخرجُ الشاعر من عادته في بقيَّة القصائد الأُخرى التي يكتفي فيها بتصنيع مكوِّنات القنبلةِ الشعريَّة وتركيب هذه المكوِّنات حسبما تقتضيه المعادلة العاطفيَّة..إنَّه في
هاتين القصيدتين يتقدَّم خطوةً إلى الأمام ويدفعُ بالقنبلةِ تلك إلى لحظة الانفِجار.
************
أمَّا في ديوانه الآخر (قصائد ضاحكة) الذي أودُّ إلقاء الضوء عليه، يحاول الشاعر الكبير (الأستاذ ناجي الحرز) شعرنةَ الحياة، فالضحكُ بصفتِهِ فيضان الفرح خارجَ وعاء النفس بعد امتلائها به.. هذا الضحك دائماً ما يجيءُ في نوادرَ منثورة نتيجةً لطبيعتهِ الفيضانيَّة، ومن أصعب فنون الكتابة هو اعتقال الضحك في شبكـةٍ من الكلمات المنسوجة من تفاعيلَ وأوزان.. وبالتالي تحويل الفيضان إلى نهرٍ يتهادى بين ضفّتين تحاصرانه، وهذا هو مكمن الإبداع في هذا الديوان (قصائد ضاحكة).
ولعلَّ الملاحظةَ الأُولى التي يلاحظها القارئ هـي المحاولة الجادَّة لِشَعْرَنَة الحياة وقضاياها الصغيرة خلافاً لِمَا درج عليه الشعر من التعالق مع القضايا الوجوديّة الكبرى في الحياة. ورغم أنَّ الديوان يعالج قضاياً صغيرة، إلاَّ أنَّ الشعر يتجلَّى في معناه الكبير وهو تلك الوقفةُ التي يقفُها الإنسانُ أمامَ شيءٍ مألوفٍ بطريقةٍ غير مألوفة.. أيْ بطريقـةٍ مليئةٍ بالدهشة.. ثمَّ يستنبطُ معانيَ جميلة تعبِّر عن تلك الدهشة.
الملاحظة الثانية هي قدرةُ الحَنَق الإبداعيّ الذي يتجاوز الغضبَ حِدَّةً.. قدرة هذا الحنق على تفجير الجُملة الشعريّة تفجيرا دراميّا كما في قصيدة (شمشون الخكارة):
فاشترى للبابِ قفلاً
باب مرحاض القذارَه
خائفاً أنْ ينهبَ الناسُ
من (الكُوعِ) ادِّخارَه
قلتُ: يا هذَا تَمَهَّلْ
مِلْتَ عن خَطِّ المهارَه
إنَّ من يدخلُ يعطيكَ
فلا تخشَ الخسارَه
وذات التفجُّر الدراميّ المليء بالتفجُّع يتَّضح في قصيدة (ارحمونا):
أيُّ نحسٍ قد رماني
في يدِ الدكتورِ ( هاني )
جئتُهُ أشكوهُ داءً
وبِداءينِ ابْتلاني
الملاحظة الثالثة هي كتابة الضحك من أجل الضحك في حالةٍ وصفيَّة شبه خالصة لا تُحيل إلى إشارات أعمق مِمَّا هو طافٍ على سطح الجملة الشعريّة إلاَّ ما ندر، وهذا ما جعلني أشعر بمبالغة الشاعر الجميل الأستاذ (عادل الرمل) الذي كتب مقدّمة ديوان (قصائد ضاحكة عندما تحدَّث عن (بكاء الضحك في القصائد). أعتقد أنَّ الكوميديا الشعريَّة يجدرُ بها أن تكون مُبطَّنةً بالفجيعة التي تجعل الضحكَ يتجاوز كونه عمليّةً استهلاكيَّة، وكأنَّ الفجيعةَ تُمَثِّلُ عنصراً هامًّا من عناصر تفعيل الضحك حيث تتحوَّل القهقهاتُ المجلجلة إلى سلاحٍ ضدَّ الزمن أو خطِّ دفاع -ربَّما يكون خطّ الدفاع الأخيـر- في وجه الدنيا وذلك بتحويل كل الأشياء إلى سخريّة.
الملاحظة الرابعة هي ما أشار إليها الناقد الأستاذ ( محمد الحرز ) في دراسته عن الديوان والتي تتلخَّص في المحافظة على الهويَّة الأحسائية عبر توظيف مفرداتِ هذه الهويَّة الموروثـة واستنساخ الملامح الهامَّة في شخصيَّة اللهجة الهجريَّة.
فـي الختام أزعمُ أنَّ الحياة بكلِّ قيمها ومبادئها هي الوطـن الحقيقيّ الذي ينتمـي إليها كل شاعـر، لذلك يجب على كلِّ شاعر أنْ يكونَ يقظـاً كالجيش من أجل حراسة وطنه/الحيـاة.. والحراسة هذهِ هي ما قصدتُهُ في البداية بالشعرنة. وإذا ما علمنا أنَّ اللغة هي سلاح الشاعر، كان على هذا الأخير أنْ ينصبَ متراساً لغويًّا عند كلِّ قيمة من القيم، وعند كلِّ مبدأ من المبادئ من أجل مقاومة كلّ محاولة انتهاك؛ وبناءً عليه يُصبح الضحكُ الشعريُّ في هذا الديوان جنديًّا مقاوماً يتصدَّى لغزو الرذائل إلى آخر قهقهة.
وفي هذا الديوان (قصائد ضاحكة) الذي أنحاز إليه انحيازا كبيرا، نجحتْ متاريسُ شاعرنا الفولاذية المنصوبة على حدود الإنسانيَّة في الحفاظ عليها من الغزو، واستطاعت اللغة أن تعانق الجوهرَ بِما يكفي لِمُقاومة العاصفة. ولا يختلف اثنان في قدرة الديوان الفائقة على تفتيتِ حصاةِ الهموم وطردها خارج أرواح القُرَّاء.