ظاهرة التناص المذوب عند إبراهيم البوشفيع
هاني الحسن
إن تجربة أي شاعر من الشعراء في كتابة النص الأدبي تمر بمراحل وعوامل تعرية، وأحسب بأن كل مرحلة من المراحل تشيع خصائصَ فنية ومعرفية وفكرية في النظر لأي نص من النصوص كتابة وتلقياً.
فالشاعر يبدأ منذ نعومة أظفاره مهوساً بالكلمات وترديدها متناغما مع إحساسها الموسيقي، وشيئاً فشيئاً يكتشف أسرار اللغة ويغوص في كل فج عميق منها، وكل واد سحيق فيها.
ألا تراه يستقر في سمعه ما تشظى من أبيات شعر هنا وهناك، وما إن يشب حتى يحاول كتابة خواطر تشبه ذلك الإيقاع ولو سجعاً، ولكنه ببصيرة الأذن الموسيقية يهتدي للعروض، وبعد انغماسه في الشعر وأدواته وتجريب بحوره يدرك جيداً بأن هناك ما لا يقال ولا يستوعب في قريحته لأن يكون شعراً، فيضطر للتخفف من الموسيقى بموسيقى، ومن الكلمات والجمل إلى كلمات وجمل أخر، على أن موسيقى العروض والقوافي مختلفة عن صناعة موسيقى الكلمات بما تعنيه من أحداث، وعلى أن الشعر مختلف عن الأنواع الأخرى بنواح محددة.
إن الشاعر لا يستطيع البعد عن الجمال وإن اختلفت مقاييسه ومعاييره وقوانينه وظروفه، فتجده ميالاً للخروج من قفص الرتابة أثناء الكتابة.
وهنا في تجربة شاعرنا الجميل إبراهيم البوشفيع فإننا نقف مدهوشين بالملكات التي يمتلكها، وحين سمعت أن إصداره ” أسمع حفيف الملائكة” نثري وليس بشعر، قلت في نفسي: فعلها ورب الكعبة، ولكنه فعلها مبكراً.
وهذا يقودني للاعتراف بأن نزوعه النثري في هذه المرحلة التي أدعي أنها مبكرة على أترابه فإن ذلك يعد اعترافاً ضمنياً بنبوغ تجربته على نار أنضجته سريعا.
ولن أتناول هنا الجنس الذي لجأ إليه باعتباره توجه نوعي مختلف، ولن أتناول خصائصه الفنية التي أزعم أني أعرفها، وأدهشتني في تجربته الكتابية الشعرية فهذا جلي وواضح، ولن أتناول خارطة الشعر والشاعرية لديه كذلك، فلديه بوصلته الخاصة.
لكنني سأسلط الضوء على ظاهرة تتواجد بشكل ملحوظ لدى أبي المقداد، ولم يكن هذا الإصدار بالبدع من الإصدارات في هذه الظاهرة، وهي ظاهرة التناص المذوب التي لا تكاد تخلو منه نصوصه هنا في “أسمع حفيف الملائكة” أبدا، وإن تعددت أساليب وأشكال ورودها.
فبالنظر لكون باختين أقدم منظر للتناص عبر ما أشار له بالحوارية، وكذلك بالنظر لتعريف كرستيفا للتناص على أنه (التقاطع داخل نص لتعبير أو قول مأخوذ من نصوص أخرى ) أي أنه كل نص تشرب وتحول لنص آخر، وكما يقول فوكو( بأنه لا وجود لتعبير لا يفترص تعبيرا آخر، ولا جود لما يتولد من ذاته بل هو تواجد أصوات متسلسلة ومتتابعة)، فإننا نؤكد على ضرورة أن يكون التناص إيجابيا متوازياً بشكل بنوة أو أبوة للنص الغائب أو الأصلي.
على أن التناص أمر لا يحيد عنه نص ما، ولكن يبقى أن لكل كاتب قدرته في النص، وتمكنه من أدواته.
وحتى لا أتشعب كثيراً فالتناص نوعان بحسب النقاد وإن اختلفت المسميات فمفاهيمهم ومدلولاتها تشترك في المعنى، فالتناص المشع هو الذي يستطيع الناص فيه تذويب النص الغائب بغية إعطائه بعداً فنياً متوازياً مع النص الحاضر.
فالنص الغائب هو الأب والحاضر هو النص الابن وثمة علاقة أبوة وبنوة هنا.
وإن التناص غير المشع هو الذي تلقى بأنه غير ممتزج بسياقه في واقعه الجديد، كقطعة نافرة وغريبة في جسمها الجديد، أي أنه لم يذب داخل قالب الجديد، ولم تزد دلالته في نص متولد آخر.
وهذا يولجنا مباشرة ووجها لوجه أمام وظائف التناص لدى الشاعر إبراهيم البوشفيع من خلال ثلاثة أمور ذكرها النقاد وقد أضيف أمراً رابعاً، فقد ذكر النقاد ضمن الوظائف الوظيفة الجمالية أي أنه تحويل المعنى القديم إلى معنى أجمل وأوسع، ومن أمثلة هذا التناص في الإصدار قوله في نص من نصوص” النبي الضال”:
“لو حكم الشاعر العالم
لتنفس الناس الحب
ولشربوا خمر العشق
ولرأيتهم سكارى
وماهم بسكارى”
ومن ضمن الوظائف كذلك الوظيفة الفكرية وهي قد ترتبط بالمقدس أو المدنس، وبالجاد والساخر الهزلي، فنجد تحركاً وتحولاً في القالب بدرجة أقصى في النص المتولد، وهناك أمثلة على هذا التناص من الإصدار كقوله في نص” إلى قابيل”:
(أرى أنك تعلمت استخدام الكلاشنكوف والآر بي جي بعدما كنت تشهر في وجهي عظام الحمير الميتة!)
وكذلك قوله في نفس النص:
(أعرفك مهما تنكرت بألف صورة ولون وشكل
أسميت نفسك الحجاج فضحك دم سعيد بن جبير ..إلخ)
وكذلك آخر الوظائف التي تعارف عليها النقاد وهي الوظيفة التعبيرية حيث يتحول النص بسياق ذي بعد تعبيري وبنطاق أشمل وأكبر بما يعطي للدلالة من انزياحية ملحوظة، ومن أمثلة هذا السياق قوله في نص “آخر سلالة الذئاب”:
(فتكت بإخوتي فتاة شقراء، تسمونها أنتم “ذات الرداء الأحمر”، ونسميها “ذات الردى الأحمر”)
لكني أحسب بأني أجد أن هناك تناصاً ليس بالسلبي إن لاحظناه بصورة كاملة مع ما قبله أو ما بعده، من حيث إعطائه لبسط فرصة لاستنبات معنى بديع أو مدهش وهنا الوظيفية وظيفية تمهيدية أو توطيئية، ومن أمثلتها في هذا الإصدار قوله في نص” لأنه يحبني”:
(سآوي إلى قمة جبل
وسأرسم شمساً
شمساً لي واحدة فقط
أخبئها في جيبي وسأنتعل غيمتين ..إلخ)
وقد تجاوز هذا الإصدار الثلاثين تناصاً بمختلف الأشكال والأنواع والظائف وإن بعض الوظائف قد تتداخل تداخلاً عميقاً.
أحسب بأن هذا الإصدار ” أسمع حفيف الملائكة” للمتألق الأستاذ إبراهيم سيكون ممهدا لقفزات أخرى في تجربة أبي المقداد النصوصية المتنوعة، وسيبقى انطلاقة وتحليقا للأجمل والأوسع نطاقاً.