(ناجي حرابة) الشاعر الذي يعزفُ نايَ العرفان
جاسم الصحيح
الشاعر البديع (ناجي حرابة) شاعرٌ مفتونٌ بالعرفان حدَّ النشوة منذ نعومةِ أظفارِ وَجْدِهِ؛ لذلك دائما ما يستنطق العنقود والكأس والناي وأسرار الوجود في أشعاره، ويصنع منها رموزا تشير إلى المطلق كما هي عادة شعراء التصوُّف الكبار. لقد اتَّخذ شاعرُنا من الظاهرِ طريقا يقود إلى الباطن، واعتمدَ الشعاعَ مسلكًا إلى مصدر النور؛ ولأنَّهُ في بحثٍ مستمرٍّ عن حياةٍ شعرية، تراه دون سأمٍ يضربُ في صحراءِ المعنى بحثا عن الماء والكلأ كي يبتكر المراتع الخضراء في أرض قصائده. لكنَّهُ في الوقت ذاته، يبقى في عطشٍ دائمٍ للنبع الذي صَدَرْنَا عنه نحن البشر، وفي شغفٍ دائبٍ للعالم الذي أتينا منه. ولا بأسَ أن ننطلق في قراءة هذه التجربة الشعرية من قوله في قصيدةٍ بعنوان (وحي)، مدوَّنةٍ في ديوانه (عثرات الكمان):
الوحيُ من ماءِ السما
يسقي جديبَ الروحَ دَفْقَا
(جبريلُ) يعصرُ
غيمةَ اللَّاهوتِ
حيث الفكرُ أنقَى
قلبي كلامُ الله
أسمعُ صوتَهُ القدسيَّ خَفْقَا
لا يخفى علينا أنَّ الشعر العرفاني –كما قلتُ عنه سابقا- شعرٌ مسكونٌ بالشوق للمنبع الأوَّل الذي صدرنا عنه، بمعنى أنه شوقٌ للغيب والأسرار الكونية، وهو شوق للمعرفة في نهاية المطاف. والافتتان بالعرفان وكتابته ناتجٌ إمَّا من خلال ممارسته.. أيْ من ثنايا حياة الشاعر الشخصية؛ أو نتيجة حصيلةٍ من القراءات في هذا المجال. ولكنَّني من خلال معرفتي الخاصَّة بالصديق الشاعر ناجي حرابة، أستطيع أن أدَّعي بأنَّ اهتمامه بكتابة الشعر العرفاني نابع من خلال الممارسة والقراءة معا. وحينما يطغى موجُ الغموض على شواطئ طرحه في العرفان، فإنَّ هذا الموج لا يأتي من فراغ، وإنَّما من نقطةٍ بعيدةٍ في أعماق اللاوعي. هذا المعنى يتجلَّى في قصيدة (رصيف) من ديوان (فمي والعنقود الأحمر):
طاشتِ الأفكارُ وانهلَّتْ على المرآةِ
أسرابَ نزيفْ
مسَّني ما يشبهُ الموتَ
بلى
إنَّ الأسى موتٌ شفيفْ
جئتُ كي أستغفرَ المزهرَ
مِمَّا اقترفتْ أُذْنِيَ من صوتٍ نشازْ
فاتحًا سِفرَ المواويلِ
على طاولةِ الليلِ
على ضوءِ المجازْ
لم أَخَلْ أنْ يُجرَحَ المُطلقُ
إنْ لم نشتركْ في رقصةِ الحبِّ لرُؤياهُ
وقد هامَ بنا الفُسقُ العفيفْ
قَدَّتِ الليلةُ قُدسَ الغيبِ
واستلقتْ على العُريِ
فهل تُسعِفُني الصُّدفةُ أنْ أنسجَ للعُريِ (نصيفْ)؟
في معظمِ دواوين شاعرنا البديع، تتكدَّس أنواع كثيرة من الأشجار كالتين والزيتون واللوز والعنب والرمان والتوت والنخل إلى آخرها.. ويمكن لنا استقراءُ دلالات المعنى الشجريِّ –تارةً- من خلال إيحاءاتها الدينية والصوفية رمزا للطهر والإيمان اللذين يعيشهما الشاعر، -وتارةً أخرى- من خلال الحضور الوجودي لها كعنصر من عناصر الحياة والبيئة التي تعيش فيها، عنوانًا يمثِّل قوةَ انتماءِ الشاعر للأرض. يقول في قصيدته (فلاحةُ وجع) من ديوان (شفة التوت):
أرضيَ الجرحُ وفلَّاحي وجعْ
كلَّما ضاق بهِ الصبرُ اتَّسعْ
وانثنى (البستانُ) عن سجَّادةٍ
سجدَ الوجدُ عليها وركعْ
وتدلَّى ليَ من أغصانِهِ
ثمرٌ رفَّ على قلبي بَجَعْ
كتمَ (التينُ) مواجيدي، ومُذْ
كسرتْ أضلاعَهُ الشكوى صَدَعْ
ضَحِكَ (الرمَّانُ) لي لكنَّما
من جرارِ الحزن (ليمونـ)ـي) دَمَعْ
وانْطَفَتْ (لوزةُ) أحلامي أسًى
بيدَ أنَّ (الكَرَزَ) المُطفَا لَمَعْ
وفي قصيدةٍ أخرى بعنوان (عناق التينة واللوزة) من ديوان (فمي والعنقود الأحمر)، يتواصل حضور الأشجار الكثيف لدى الشاعر حيث يقول:
شربَ الحبُّ من (كرومِ) دمايا
فتجلَّى (أزاهرًا) وصبايا
أنا وحدي عصرتُ (رمَّانةَ العشقِ)
وسلسلتُ سُكرَها في الحنايا
…..
…..
وإذا فتَّح المحبونَ بستانَ-
صلاتي، أغرقتُهُمْ في هوايا
ليَرَوا (تينةَ) الهوى في فؤادي
كيف تحنو لـ(لوزةٍ) في دمايا
إنَّ انغماس الشاعر في عرفانيَّاته لا يعني هروبه بشعره عن معاينة الواقع الإنساني الموجع، حيث إنَّ (أناهُ الشعرية) التي تسكن في داخله.. هذه الأنا متماهية جيِّدا بقرينها الخارجي في الحياة.. بمعنى أنَّهُ يحاول دائما تقليصَ المسافة بين ما يكتبه وبين ما يعيشه، في محاولةٍ جادَّةٍ لتَجاوُز التهويمات اللفظية التي ليس لها رصيدٍ حقيقيٍّ على أرض الواقع. هذا المعنى مهمُّ جدًّا لأنَّ السباحة في بحر هذه التهويمات لا يمكن أن يوصلَ الشاعرَ إلى شاطئ القصيدة؛ أيْ أنَّهُ لا يمكن أن نُوجِدَ كائنا من لا شيء، حيث إنَّ التهويمات اللفظية تعني عدم وجود شخص وراء النص، أو عدم وجود حياة.
إنَّ أسلوب الكتابة التي يعتمدها الشاعر ناجي حرابة في تكوين نصوصه يقوم على ابتكار تراكيب تجعل المتناقضات منصهرةً ضمن منظومة اللغة الشعرية.. خُذ مثلا قوله من قصيدة (سروج) في ديوان (شفة التوت):
قضمتُ بضرسِ الأسى ليلتي
ففاض دمًا من شفاهي، الغدُ
وروَّضتُ أحصنةَ الحلمِ لم-
أَخَلْهَا برغمِ الهوى تشردُ
أو قوله من قصيدة (أهندم قنديلَ جرحي) في ديوان (فمي والعنقود الأحمر):
لكي ما أراكِ
أهندم قنديلَ جرحي
عسانيَ أردمُ سدًّا من الحزنِ
في داخلي
قام بين نشيجِ الحروفِ وبين نشيدِ السَّنا
إنَّ انصهارَ مفرداتٍ مثل: الدم والشفاه والغد في معنى واحد؛ أو مفرداتٍ مثل الهندمة والقنديل والجرح؛ إنَّ هذا الانصهار لهذه المفردات المتباينة داخل بعضها البعض يعيد تشكيلِ العلاقات بين المفردات في هيئةٍ أكمل وأجمل، ويقوم بتدمير علاقاتها القديمة، أو بتفسيرٍ آخر فإنَّ الشاعر يُعطي للمفردة بُعدا جديدا وينتزعها من حالةٍ قديمة، وكأنَّه يقوم بتحريرها من قبضةِ استعمارِ تاريخها اللغوي.
في قصائد الشاعر ناجي حرابة، ثَمَّة احتفالية كبرى باللغة داخل شبكة إيقاعية من الوزن والقافية، لكن هذه الاحتفالية لا تأتي على حساب عمق الرؤية وشفافية العبارة؛ وإنما على العكس تماما، فهي – أي القصائد- تقوم على التدبير الفني العالي الذي ينفقُهُ الشاعر عليها كي تبقى محتفظةً بالأثر الجمالي والحسّ الإبداعي. ولدينا مثالٌ على ذلك يتمثَّل في قصيدته (أميطي خنجرَيكِ) من ديوان (شفةُ التوت):
حنانًا يا هوايَ ويا أسايا
بلغتُ من التوجُّع منتهايا
أحاولُ أنْ ألملمَ وردَ روحي
فيَذرُوني ارتطامُكِ بي شظايا
وأسمعُ أنَّ طودَ الصبرِ باقٍ
فلما لي لا أراهُ سوى بقايا
أخبِّئ أدمعي في جيبِ قلبي
فتسرقُها جهارًا مقلتايا
وتُحرقني جراحُكِ باشتعالٍ
وتُغرقني طيوفُكِ بالهدايا
كطفلٍ هبَّ في صبحِ الأماني
ليَقطِفَ من هدايا العيدِ نايا
أما في ديوانه (محاكمة الأسلحة الظالمة)، فقد استطاع (الشاعر ناجي حرابة) أن يبتكر محكمةً للطغاة بأسلوبٍ شاعريٍّ جديد وذلك عبر محاكمة أدوات القتل القديمة. إنَّهُ ينصِّب من التاريخ قاضيا، ويحاكم السيوف والرماح والسهام والحجارة ومعظم ما استخدمه الإنسان القديم من أدواتٍ للفتك بأخيه الإنسان.
شعريَّة هذا الديوان (محاكمة الأسلحة الظالمة) تتجلَّى من التالي:
أوَّلا: من فكرة المحاكمة التي تدلُّ على عمق الوعي الشعري الذي يتمتع به الشاعر (ناجي حرابة)؛
ثانيًا: من فكرة أنسنة الأسلحة الجامدة واستنطاقها ومخاطبتها على أنَّها ذواتُ أرواحٍ وآذانٍ وعيونٍ تحسُّ وتسمع وترى؛
ثالثاً: من اللغة الفنية العالية التي صقلها الشاعرُ إلى درجة اللمعان عبر صياغاتٍ تتوهَّج داخلها نارُ المشاعر الصادقة التي تتجلَّى على سطح المفردات.
هذا الديوان (محاكمة الأسلحة الظالمة) يمثِّل نموذجا واضحا لما يمكن تسميته بالعمل الشعري، فكلُّ مياه أفكاره تصبُّ في مجرى واحد لفكرةٍ واحدة هي المحاكمة بكلِّ أبعادها من عرض المتَّهمين على القاضي إلى الإدلاء بالشهادات وإصدار الأحكام، كما أنَّهُ يحتوي على روحٍ ملحميَّة تتوهَّج فيها مأساةُ الإنسان ممثَّلةً عبر واقعةِ (كربلاء)، عنوانًا لمآسي الإنسانية جمعاء. ويجدر بنا أن نستعرض هنا نماذج مختصرة من هذا الديوان تشي بقدرة الشاعر ناجي حرابة على تقطيرِ المأساة في صورٍ شعريَّةٍ شفَّافة؛ كما في قصيدة (القاضي/التاريخ):
مَحْكَمَةْ
ما الذي يُخفيهِ حبرُ الدهرِ عنَّا
من حروفٍ مُظلِمَةْ؟!
…..
مَنْ هُوَ الفاعلُ خلف الأَكَمَةْ ؟!
السؤالُ اهتزَّ في الوجدانِ ميزانًا
ولن تسكنَ كفَّاهُ
سوى أنْ ينبتَ الحقُّ على طاولة العدلِ
فتُجنَى المَحكَمَةْ
أمَّا في قصيدته (محاكمة السهم)، فهو يقدِّم اتِّهامات عديدة إلى هذا المتَّهم:
ضحاياكَ:
صدرٌ ونحرٌ وعينٌ وقِربَةُ ماءٍ وفَمْ
فكيفَ ستجترحُ العُذرَ
في خرقةٍ من دموعٍ وكَأسَيْ نَدَمْ
خَسِئتَ!
فهيهاتَ أن يَمْحُوَ الدمع
ما خَطَّهُ بالمواجيعِ دَمْ
إنَّ الشاعر (ناجي حرابة) الذي ابتكر محكمةً للطغاة بأسلوبٍ شاعريٍّ جديد وذلك عبر محاكمة أدوات القتل القديمة في ديوانه (محاكمة الأسلحة الظالمة) كما أسلفنا القول.. إنَّهُ ذاتُهُ الشاعرُ الذي ابتسم الوجع على شفتيه في ديوانه (عندما يبتسم الوجع)، وهو ذاتُهُ الشاعر الذي صبغَ أرواحَنا بالحُمرة ونحن نقبِّل ديوانَهُ (شفة التوت)، وصعد بنا سلالمَ العرفان في ديوانه (فمي والعنقود الأحمر)، وأزاح قليلا من عتمة العالم حينما أضاء ديوانه (كقافيةٍ فيها مصباح)، وملأ الفراغات بين نبضاتِ قلوبنا وهو يرمِّم عثراتِ الموسيقى في ديوانه (عثرات الكمان).
الشاعر (ناجي حرابة) شاعرٌ مصابٌ بسهم الطموحات الملتهب فلا ينفكُّ ينزفُ مغامرةً في إثر أخرى، وكلَّما فاز بجائزةٍ أهداها للسهر والقمر والنجوم. احتفلتْ به (جائزةُ عكاظ) شاعرا لشبابها قبل عدَّة سنوات عبر قصيدته الوطنية (عناقيد في خابية الوطن)، واحتفلت به (جائزةُ أبها الثقافية) فجرا يطلُّ من أفق جبالها الشاعرية حينما فاز بها ديوانُهُ (عثراتُ الكمان)، واحتفلتْ به في الإمارات العربية المتَّحدة/عجمان (جائزةُ راشد بن حميد) فارسا لمهرة القصيد عبر قصيدته التي أهداها إلى المتنبي، وعنوانها (إلى أبيَ الطَّيِّب: المتنبي)، حيث يقول في بعض مقاطعها:
لماذا ؟!
وأنتَ سُلافُ قلوبِ الأنامْ
سَفَحْتَ الـمُدامْ
على صُبْحِ (كافورَ)
والشَّعبُ يشكو صُداعَ الظلامْ
لماذَا ؟!
وَطِئتَ بِحَرْفِكَ جُرحاً لنا
فاسْتَفَاقَتْ كِلامْ
وقدْ كُنتَ مَنْ خاطَ أوجاعَنا
بِابْرَةِ الشِّعرِ
تنسجُ ما مَزَّقَتْهُ الهُمومُ الجِسَامْ
لماذا ؟!
أَلَسْتَ الـمُهَرِّبَ آهَاتِنَا
في جُيُوبِ الحُروفِ
إلى أَنْ تَجُوزَ هجيرَ المُعاناةِ
حتى ظِلالِ السَّلامْ ؟!
……..
……..
باختصار..من خلال قراءة هذه التجربة العالية التي يقدِّمها الشاعر البديع (ناجي حرابة) في غالب دواوينه، أستطيع الادِّعاء بأنَّ شعره هو أشبه بسيرةٍ شعرية ذاتية، يعرض لنا من خلالها عالمه الخاصّ، ويحاول إشراكَنا معه في بناء علاقات إنسانية فوق جسور القصائد. وأختم هذه القراءة الانطباعية المختزلة بقصيدةٍ جميلةٍ بعنوان (قبل أن يئدَ الجفافُ السوسن)؛ هذه القصيدة عبارةٌ عن نفحةٍ من نفحات السلام، وهي من قصائد ديوانه (عثرات الكمان):
يُروَى لنَـا
عن هذه الأرضِ الجريحةِ
قبل أنْ تلجَ المواجعُ في مفاصلِها
وينغرزُ الضَّنَـا
كان السلامُ
يهبُّ كلَّ صبيحةٍ نحو الحقولِ
ليحرثَ الأرضَ الخصيبةَ بالسَّنَـا
يرمي بذورَ الأرضِ
في ثغرِ الترابِ
ويستقي من راحةِ الغيمِ المُنَـى
ويعودُ يحلمُ أنْ يُفيقَ
وقد تدلَّى بالتباشيرِ الجَنَـى
كان السلامُ
بَنَى ممالكَهُ هُنَـا
قبلَ انسفاكِ دمِ البراءةِ
قبل أنْ يئدَ الجفافُ السوسنَـا
نزلَ السلامُ من السماءِ
وشدَّ أوتادَ المحبَّةِ في الورى واستوطَنَـا
نَحَتَتْ يداهُ لنا الدروبَ
وصاغَ من ذَهَبِ الضميرِ
لنا المزامرَ والقصيدَ.. ودَوْزَنَـا
كانَ السلامُ أخًا لـنَـا
************