للعشقِ لَذّة
طه الخليفة
مررت مؤخراً على قصيدة للشاعر المبدع، الأستاذ بدر الدريّع، ألقاها في أحد لقاءات رابطة الأدباء في الكويت الشقيق، في مدحِ النبيّ الأكرم (ص)، وأضع الرابط هنا لمن يود الاطلاع عليها (هنا) ، مع العلم بأن الكاتب ليس بأديبٍ، ولا بناقد ٍأدبيٍّ، وإنما هو مهندسٌ يبحث عن الأفكار، ويسعى للاستفادة منها.
ما جذبني لهذه القصيدة ليس موضوعها الكريم، وجمال اللغة، وروعة التصوير، وغيرها من الخواص الأدبيّة فقط، بل مستوى العاطفة، وحالة العشق التي تجلّت في كل شيء مرتبط بالقصيدة، وأهمها الشاعر نفسه كإنسان، حينما فاضت تلك العاطفة، وسقت الجمال لكلّ شيء حوله. عشقٌ يأخذ بالقلوب، ويأسرها كما أُسِر صاحبها، حتى أن عيني المتلقي تغرورق في الدموع، من لذيذ العشق.
إن الإنسان يقع تحت هذا التأثير كثيراً، وبنسب متفاوته، بحسب الموضوع الماثل أمامه، ومدى تعلّقه به. ولو رجع كلٌ منا بذاكرته للوراء، لاستحضر الكثير من المواقف، والأحداث التي جعلته يُحلّق في سماء العاطفة، ويطلق العنان لمشاعره الإنسانيّة، وفي أحيانٍ كثيرة يترجم ذلك إلى تعابير، وسلوك، مثل ذرف الدموع في الأفراح، والأتراح، والهبّة لنصرة المظلوم، و احتضان الأحباب، وغيرها.
إننا نسمع، ونقرأ كثيراً مقولة: “لا تكن عاطفيّاً”، وفي اعتقادنا أن هذه المقولة عرجاء، ولا تمس روح الفطرة السويّة، وفكر الإنسانيّة، والصحيح في رأينا، أن الإنسان لابد له أن يكون عاطفيّاً، وأن يوظّف العاطفة لشحذ الهمم، وبناء الحضارات، والإعداد للمستقبل. فكيف للإنسان أن يعيش حالة السلام، والحب، والعدل، والازدهار دون ان تْوظّف العاطفة، لترفد العلم، وتجعله في خدمة البشرية، لا دمارها!.
تصوّر معي ذلك الموظّف المنوط إليه مسؤولية ما، وتخيّل كيف يمكن للعاطفة أن تلعب دوراً كبيراً في إنتاجيّته. كم سيكون فارق الإنتاج إن ذهب لآداء عمله متسلّحاً بالحب لما يفعل، حاملأ العشق لتحقيق طموح سامٍ، أو ذهب لعمله رجاءً لإسقاط الواجب، وتسجيل الحضور فقط. ايضاً استحضر معي صورة التاجر البشوش، الدّمث الخلق، الذي يخدم زبائنه بحب، وقارنها بالنقيض. لا شك أن الفارق كبير، وهو محور تقدّم البعض، وتراجع آخرين، وبناء حضارات وتراجع أخُرى.
تتفاوت درجات العشق، وأدناها عشق المادّة وتقديمها على كل شيء آخر، فهذه تُنتج إنساناً يتمحور حول الأنا، ويصدق عليه المثل القائل: “أنا، ومن بعدي الطوفان.” وهناك روابط العشق الرومانسيّة، التي أعيَت الأدباء، والشعراء. ويحضرني هنا قول عنترة مخاطباً عبلة:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ
مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها
لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
إلا أنّ العشق الذي نصبو إليه أسمى من ذلك كلّه، فهو العشق الذي يتمحور حول فطرة الإنسان السليمة، والقيم النبيلة، والتكامل الإنساني، وكل ما يُمثّل هذا في تاريخ الإنسانية، وحاضرها، ومستقبلها. إنه العشق الذي يذوب فيه صاحبه، فيصير محوراً لحركته، وسكناته، ولفكره، وأهدافه، وطموحاته. إن هذا العشق يترك أثره في كل شي، في الفكر والعلاقات الإنسانيّة، وتوظيف الطبيعة لخدمة الإنسان، والسعي لعمارة الأرض. هو عشقٌ يمكن أن يحمله الصغير والكبير، الطالب والاكاديمي، والموظف والمدير، والغني والفقير، وكلّ إنسان في أي موقعٍ كان
التجربة تخبرنا أن للعشق لذّة، فكيف بها إن كانت متصلة بمعينٍ لا ينضب، وسماؤها لا متناهية، ووظفت لخدمة البشريّة، ونختم بقول شاعرنا الدريّع في العشق:
وحَسْبُكَ في الهَوى أنّا أُنَاسٌ
جُسُومَهُمُ تَسِيرُ بِلا ظِلَالِ
نُقَبّلُ كُلّ لَفظٍ قد تَوشّى
بِميْمٍ أو بِحاءٍ أو بِدَالِ.