خواطر أبوية (٣)
الشيخ عباس الموسى
حينما يفقد الإنسان أغلى ما فيه وجوده، يتأمل في فائدة بقائه في هذه الحياة!
هو أبي الذي لم يحتمل فراق شريكة دربه، وعضيده الدائم في الشدة والرخاء.
أبي ذلك الرجل الصامت وكما ورد (الصمت حكمة وقليل فاعله)، وأبي من القليل، لقد عشنا معه سنوات العمر ولم نره يتكلم على أحد، ولا يذكر أحدا بسوء، ولا يتكلم في أي شيء، بل ربما لا يتكلم إلا بمقدار الحاجة.
أبي ذلك الرجل القنوع، الذي لم يكن يطلب من أحد حاجة مطلقًا، لا مالًا ولا غيره، حتى أولاده، كان قنوعا لدرجة أنه مرض بمرض مزمن خلال عشر السنوات الأخيرة من عمره وكان من أسبابه -إن لم يكن هو السبب الوحيد- أنه لم يكلف على أولاده الذهاب به للمستشفى.
قنوع لدرجة أنه في فترة صحته كان لا يحمل أي مبلغ في جيبه إلا لقضاء حاجات المنزل، وعندما نسمع قول رسول الله (ص): (الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى) فإن أبي ممن يمتلك هذا الكنز.
أبي ذلك المجاهد الذي عاش لأولاده، عاش ليقدم لهم لقمة العيش الحلال، كان في الخبر عندما تطلبت منه الحياة أن يكون هناك، وكان هنا من أجل أن ينشئ لنا صرحًا وثمرًا نقتات به في حياتنا، كان يعيش في ظلمة الليل يتحمل الجوع والعطش، من أجل أن تكبر النخلة وتثمر الشجرة، وأتذكر في سالف الأيام وفي ظلمة ليل أنني ذهبت له ببعض الطعام ليأكله فواصل عمله ولم يأكله حتى انتهى من عمله، ما أقواك يا أبي وما أصبرك على تلك الأيام!
أبي ذلك العفيف الذي قلّ نظيره، أرجل عفيف؟! نعم، إنه أبي، ذلك الذي لا ينظر إلى بناته وحفيداته إن كنّ في زينتهن، بل لا ينظر إليهن إن كنّ بألبسة هذه الأيام العصرية ولو كانت تستر، يطأطئ برأسه حينما تسلم عليه إحدى محارمه، تخجل عيناه أن ينظر إلى محارمه فكيف بغيرهن، إنه أسطورة العفاف.
أبي ذلك المتيم بزوجته (أمي)، ذلك الزوج غير المتعلم والذي لم يحضر أي دورة في العلاقات الزوجية، ولكنه مضرب المثل في الزوج الصالح مع زوجته الصالحة، يحق لي أن أفخر أمام كل الناس أنني وإخوتي تعلمنا من أبي كيف هو عشق الزوج لزوجته، وكيف هو التفاني لها، وكيف هو الإخلاص في حبها، فهو مدرسة في ذلك دون أن يدرس ويتعلم ويخط في ذلك خطًّا.
أبي ذلك الرجل الطاهر، والنقي الصافي، الصفحة البيضاء، الذي لم يحمل في قلبه على أحد، ولا أتذكر طوال حياتي أنني سمعت أنه قد رفع صوته على أخ أو جار أو صديق، كان يرعى هذا وذاك، ويتعامل بالعطف والشفقة على جميع الناس.
إنه أبي … أصل وجودي … وعزة حسبي ونسبي
غفر الله له، وأسكنه الفسيح من جناته، وحشره مع محمد وآله الطاهرين وجعل قبره روضة من رياض جنته.