صلاة فوق الغيوم
سلمى ياسين بوخمسين
أعلن المؤذن دخول وقت الصلاة.
وبسبب كونه في عجالة من أمره بادر بالاستعداد لملاقاة ربه أسرع لإداء فريضة الفجر..
كان فكره منفصلاً تماماً عما يقوم به بدنه..
جسدياً. فرش سجادته وتوجه مستقبلاً القبلة بعد تحقيق مطلب الطهارة بالوضوء بادئاً باسم الله تعالى فكرياً .. حمل حقيبته متجهاً إلى المطار، فبعد شهر قضاه بعيداً عن أسرته وبلده لإنجاز مهمة وكلت إليه من قبل الشركة التي يعمل لديها.
جسدياً .. يقف رافعاً يديه، فبعد الأذان والإقامة يكبر معلناً دخوله لرحلة روحية يقضيها بين يدي الله فهذا أهم هدف للصلاة
فكرياً .. يدخل صالة المطار مسرعاً لينهي إجراءات السفر من تحميل الحقائب وانتهاءه بختم تأشيرة المغادرة ويتوجه إلى ممشى المطار الكهربائي المؤدي إلى داخل طائرته ليجلس على كرسي ترشده إليه مضيفة رسمت ابتسامة متكلفة على وجهها، فمن فروض وظيفتها كمضيفة طيران الابتسام الدائم للمسافرين ..
يسترخي في مقعده ويتنفس بعمق فها قد بدأت رحلة العودة ..
جسدياً .. ينتهي من قراءة فاتحة الكتاب ويلحقها بسورة قصيرة لم يعِ ماهي من ثم يهوي راكعاً ويتبعها بوقوف، ومن ثم يهوي ساجداً مكرراً أذكار حفظها عن ظهر قلب ..
فكرياً .. يسمع المضيفة تنادي بصوت رخيم تعلن انطلاق الطائرة وارتفاعها عن مدرج المطار، ومشددة على ربط الأحزمة وملفته انتباه المسافرين إلى خطوات السلامة التي يجب اتباعها في حال وقوع حادث لأسمح الله ..
جسدياً .. يرتفع ليقف مكبراً بعد انتهاءه من السجدة الثانية ليبدأ ركعته الثانية كما الأولى.
فكرياً .. بعد مرور بضع ساعات من التحليق فوق الغيوم يسمع نفس ذلك الصوت منبها للالتزام بالجلوس في المقاعد وربط الأحزمة فقد بدأت الطائرة بالهبوط وماهي إلا دقائق معدودة حتى بانت علامات الهبوط من ارتجاج الطائرة وصوت عجلاتها على الأرض فيتنهد بارتياح فها قد رجع إلى دياره سالماً ..
جسدياً .. يهوي راكعاً ومن ثم يتبعه بسجود ويرفع من السجدة الثانية ليجلس ويتشهد معلناً اعترافه الكامل بالربوبية والألوهية والوحدانية لله سبحانه في كلمة أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ..
فكرياً .. يحمل حقائبه ويتوجه إلى خارج المطار ليرمي بنفسه بين أحضان ابنه البكر الذي جاء ليستقبله ويقله إلى بيته فيحتضنه ذلك بدوره فرحاً حامد الله على سلامته .. ومن ثم يسلك أقرب طريق للعودة إلى منزله .
يفتح الباب على يد أصغر أبنائه صارخاً: بابا جاء يا ماما.
تلبي العائلة متلهفة النداء بكلمة حمدا لله على السلامة فأبناؤه وزوجته ووالديه من حوله كل يحتضنه بدوره ومن ثم يجلس ليرتاح، وبعد وجبة الغداء الدسمة التي أعدت على شرف رجوعه يأتي دور توزيع الهدايا ..
جسدياً .. يعلن انتهاء صلاته بالسلام والترحم وقراءة دعاء قصير فقد اعتاد على ذلك وأصبح جزءاً من صلاته اليومية ..
هذه كيفية الكثير من الناس في تأدية الصلاة فهناك من يذهب في رحلة، وهناك من تطبخ طبخة لذيذة وقد تحرق في بعض الأحيان، وهناك من تخيط ثوباً تبهر الناس برشاقتها وجمالها حين ترتديه، وهناك من يرى نفسه يقف بكل ثقه صارخاً في وجه رئيسه في العمل الذي طالما أذله وأهانه أمام زملائه في العمل، وهناك من يتكدر خاطره ويشعر بالخيبة لرسوبه في امتحان قدمه أو خسارته في صفقة دنيوية لم ينل مراده منها، وآخر ينتشي فرحاً لإتمام عمل قام به نال استحسان مرؤوسيه.
للأسف كثير من المصلين يؤدون الصلاة كحركات جسدية لا علاقة لها بالروح والوجدان، بينما هي رحلة لرحاب الله ولابد من حضور العقل حين تأديتها ففي هذه الدقائق المعدودة على المصلي أن ينسى هموم الدنيا وملذاتها ليقف بين يدي الله متلهفاً محباً لله تائباً مستغفراً طالباً القربى من رب العباد راجياً رحمته الواسعة في الدارين.
وليتذكر أن ما يقضيه من وقت في العبادة ما هو إلا وقت قصير مقتطع من مجموع أربع وعشرين ساعة قد يقضي معظمها في اللهو والتسلية أو في مشاغل الدنيا التي لا نهاية لها، ناسياً حياته الأبدية التي لا مفر منها إلا وهي دار البقاء منشغلاً بدار الفناء.