Choices.. الخيارات
أمير الصالح
لكل منا هامش لمجموعة خيارات تبدأ مع إشراقة شمس كل يوم من ساعة الاستيقاظ صباحاً وحتى آخر لحظة من كل يوم. ففي أول لحظات الاستيقاظ يقوم الإنسان بعملية خيار بين أن يفطر أولا أو أن يستحم، وفي حالة اتخذ خيار الإفطار فهو أيضاً في مفترق طرق أن يفطر في البيت أو المطعم أو البوفية أو مكتب عمله، وكذا الحال لاختيار نوع الفطور بأن يتناول كورن فليكس مع الحليب مثلاً، أو فطيرة لبنة بالعسل أو ساندويتش بيض مسلوق أو صحن فول بالحمص، وهل يحتسي شاي أم قهوة أم عصير طازج أم ماء. وهكذا خيارات متعددة.
ودواليك قرارات إلى نهاية كل يوم عملية مستمرة وبعضها أضحى رتيباً. ولعل البعض يكون لديه سقف الخيارات ممتد إلى أمور متعددة، كأن يعمل في شركة قريبة من منزله أو أن يعمل في منطقة أكثر دخلاً و لكنها بعيدة عن مدينته أو بلاده. وهناك مناطق في العالم حيث يكون سقف الخيارات لدى ساكنيها يمتد إلى خيار الإدلاء بصوته لترشيح هذا الشخص أو إرساء مشروعية ذلك الشخص الآخر أو يحجب صوته عن الانتخاب. وهناك أناس آخرون يمتلكون من المال والقدرة على أن يختاروا في أن يصطافوا في البلد الأوربي الفلاني أو البلد الآسيوي الفلاني أو خوض تجربة السياحة الداخلية ببلدانهم.
وجود خيارات كثيرة ووفيرة لذات الشخص في إنجاز الأعمال أو انتقاء الطعام أو التعبير عما يختلج في نفسه بوسائط مختلفة أو الترفيه بطرق متعدده أو التنقل المتعدد يرمز لوجود هامش حرية أكبر، وسقف أعلى من إرضاء الذات، ونمط شائع من أنماط مفهوم الحياة السعيدة لدى معظم الناس. إلا أن هبوب رياح الجائحة الحالية حد بشكل كبير من عدد الخيارات المتاحة للسواد الأعظم في بلدان عديدة، فالتنقل بين الأماكن او الدول أضحى محصوراً بتبعية التبضع من بعض الأماكن التجارية، وأضحى شبه محجوب، والتنقل بالطائرات أصبح غير متوافر حتى إشعار آخر، وأمور أخرى توارت عن المناولة، مع وجود خيارات أقل أو انحسار المتاح سابقاً، فما هو الصنيع الأمثل لتجاوز حالة الإحساس بانكماش الحرية في الخيارات وبالتالي ضمور سقف الإحساس بالسعادة لدى الكثير من الناس في العالم.
كتاب “فن الاختيار – Art of Choosing “ لمؤلفته Sheena Iyengar تورد معالجات مبنية على تحليلات ثقافية وتاريخية ونفسية. والكاتبة تعيد قراءة تقلص الخيارات بزوايا مختلفة وعلاقة ذلك بمفهوم الحرية والسعادة. وهناك نقاشات تُطرح على مستوى فكرة تعدد الخيارات وفكرة قوة التحكم. على سبيل المثال: في العقد الزمني ماقبل السابق كان الناس يشاهدون محطات التلفزة الأرضية المحلية، أما في الوقت الراهن فالخيارات المتاحة للمشاهدة من خلال شاشة التلفاز تتجاوز المئات من القنوات الفضائية عبر الأقمار الصناعية، فضلاً عن توافر قنوات الأفلام التجارية المتخصصة عن طريق بعض المزودين مثل النتفلكس أو قنوات اليوتيوب المتنوعة التي تجاوز عددها الملايين من القنوات ما بين شخصية وسواها. إلا أنه مع كثرة الخيارات في القنوات الفضائية التلفازية المتاحة في عصرنا الحالي، أصبحت بعض العوائل على الصعيد الجماعي أكثر تشرذماً
وتعددت فيها الاستقطابات الترفيهية. وتتجلى صورة التفتت بوضوح عند انعقاد تجمع أسري، ويصل اللقاء فترة اختيار مشاهدة فيلم أو برنامج علمي. وهنا ينطرح سؤال على الصعيد الجماعي: هل تعدد الخيارات وتوافرها بكثرة يعني حرية وسعادة أكثر أم ليس بالضرورة أن يحمل ذلك المعنى. لن أخوض في كلام علماء النفس، ولكن هناك مدارس بحثية تطبيقية ترجح كفة على الأخرى. بالمحصلة التي فهمتها شخصياً من ذلك الكتاب المشار إليه، يتحتم على الإنسان تدارس الخيارات المتاحة له موضوعياً والتكيف معها، حتى في زمن الجائحة العصيب لاستنطاق الخيار الأفضل طبقاً للظروف والمكان، والزمان وليس طبقاً للوفرة. وعليه يتحتم تلمس بعض الحرية وبعض السعادة بالحدود القصوى من خلال تلكم الظروف والخيارات.
على المستوى الصحي والنفسي هناك دراسات بريطانية أوردتها الكاتبة في كتابها المشار إليه، تزعم تلك الدراسة بأن من يتخذون أو يتحكمون في قرار انتقاء الخيار هم أكثر شعوراً بالارتياح والصحة النفسية من أولئك التابعين أو من يقع عليهم تبعات الخيار. ومن هنا نشيد بفكرة وجوب ترك فسحة من الخيارات للأبناء في اتخاذ قرار نوع الفيلم الذي يودون مشاهدته في عطلة نهاية الأسبوع مثلاً، أو فتح خيار وقت أداء واجباتهم الدراسية بعد تحديد إطار عام للوقت المتاح. وهكذا الأمر بالنسبة للأمور الأخرى ذات المخاطر المحسوبة.
المحفز النفسي والمشاركة في انتقاء الخيار وتخيل تبعات انتقاء الخيار. تعطي للإنسان ذو الصلة قيمة فاعلة للمشاركة في نحت الخيار مع كل الأطراف ذات الصلة. قلة أو محدودية الخيارات تعد في بعض الظروف عامل مساعد في زيادة المثابرة للشخص، بل البعض يرى خيار ” إن أكون أو لا أكون ” أفضل من وجود خيارات عديدة أقل مناجزة وتحفيز. ولعل المثل الشعبي ” من خيرك حيرك ” له مصاديق لمن لا يمتلك قوة الحزم والعزم في صناعة اتخاذ القرار وانتقاء الخيار.
في ظل الجائحة وتقلص فرص الوظائف، أبناء الجيل الصاعد بإمكانهم استنطاق تجارب المُعدمين النازحين من مناطق ساخنة في العالم. البنغلاديشي المحتاج والهندي المعدم والسنغالي الفقير الأفغاني المحطم
والموزمبيقي المفلس،
والغاني البائس توجه بعضهم إلى بلدان الخليج أو مناطق أوربية لانعدام الخيارات في مواطنهم وحققوا أحلامهم برفع شعار “أن أكون أو لا أكون”.
ملف الخيارات بين المحدود والممدود موضوع ذو شجون، وقد يطول الخوض فيه. فمثلاً خيار اختيار الزوجة بالنسبة للرجل أو العكس، واختيار طبق الطعام من قائمة الطعام بالمطاعم واختيار مجال التخصص الجامعي بالنسبة لطالب الثانوية وانتقاء محطة السفر بالنسبة للسائح، وتحديد مكان التسوق اليومي بالنسبة للمتبضع، وإصلاح الاجهزة المنزلية بيد الشخص أو العامل وانتخاب مكان السكن الدائم واختيار مجالات الاستثمار للمستثمر. ولعل مقالة واحدة لا تفي بكامل المحاور، إلا إنني وجدت من الجميل التعرض للموضوع بهدف خلق نماذج تصور المساهمة في رفع معنويات أبناء الجيل الصاعد والدفع بهم لتجاوز مخاض المعترك الحالي، والحث على التطبع باكتشاف الخيارات المتاحة مع كامل المراعاة لعامل الزمكان. بالمحصلة إذا لم يكن الشخص مجبوراً أو مجرداً من صلاحية التحكم في انتقاء خياراته، فإن كل منا يستطيع أن يستكشف ثم يقرر ويتحكم في خياراته لجعل حياته أكثر سعادة. إن أخذ كل شخص منا زمام المبادرة لفعل ذلك وركز جهوده في ذلك السبيل، فالخد الأدنى من اليقين هو المسير على بصيرة أكثر. وراحة بال اجمل.
في الختام، قد يكون من العمل الحسن أن يقوم كل شخص بتشخيص ذاتي لنفسه لتحديد نوع
شخصيته وأطر تفاعله في مضمار الخيارات، وهل هو ساع لصنع خيارات أفضل لنفسه واستكشاف آفاق أعلى أم أنه يكتفي بما وضع الآخرون له كخيارات. وهل أنت، انا، هو نتقبل/ تتقبل ما يشخصه الآخرون لك كخيار أم أنك تؤمن بأن صاحب الخيار هو أنت لكونك من سيعيش ويدفع ثمن تبعاته. استكشاف كامل الصورة، ودراسة كل الخيارات والتركيز على ما يمكنك التحكم فيه وبذل الجهد لتبنيه، أمر يزيد من كفاءة الإنتاج للفرد وتحقيق أهدافه.
وأختم بالسؤال: هل فكرت في خياراتك التي تود أن تمضي قدماً بها
ما بعد انقشاع وباء كوفيد؟