هكذا كانت تحيي الأحساء يوم الأربعين
مهدي المبروك: الدمام
لئن فاتنا شرف الالتحاق
بركب المشاة إلى الأربعين
فإنا هنا سنقيم العزاء
وتبكيك يا سيدي كل عين
فذاك يؤدي بجهد المسير
ونحن نؤدي بصوت الحنين
فكل له شرف الانتساب
لإحياء ذكرك في الخالدين
اختصرت هذه الأبيات الأربعة لزعيم الحوزة العلمية بالأحساء وسيد الشعائر المقدس الراحل السيد محمد علي العلي -رضوان الله تعالى عليه- مشاعر الأحسائيين جميعا بل مشاعر عموم الموالين المحبين لأهل البيت -عليهم السلام- الذين لا يتمكنون من زيارة الإمام أبي عبد الله الحسين -عليه السلام- في اليوم العشرين شهر صفر الخير وهي الزيارة التي حث عليها الشارع المقدس حتى عُدت من علامات المؤمنين فقد رُوي عن الإمام الحسن العسكري -عليه السلام- أنه قال: “علاماتُ المؤمن خمس: صلاةُ الخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتختُّم في اليمين، وتعفيرُ الجبين، والجهرُ ببسم الله الرحمن الرحيم”
أحيت الأحساء يوم الأربعين منذ القِدم بصور متعددة ومحافل كثيرة وكان أبرزها المهرجان الشعري الخطابي العظيم الذي يُقام في منزل السادة بالمبرز حيث الحضور العلمائي والنخبوي والشعبوي الحاشد من مختلف مدن الأحساء وقراها عصر يوم العشرين من شهر صفر في السبعينيات الميلادية. وفي عام ١٤٠٤ هـ اجتمع رأي سيد الشعائر -رحمه الله-مع رأي خاله الفاضل السيد محمد -حفظه الله- بن المقدس السيد ناصر السلمان على إحياء ذكرى الأربعين من جديد عصر يوم العشرين من صفر الخير في المسجد الجامع الكبير بالمبرز. فأحيي الاحتفال التأبيني من تلك السنة إلى العام الماضي (قبل وفاة سيد الشعائر بأيام معدودة) حيث أقيم المهرجان بإشرافه وحضوره وهو جالس على كرسيه المتحرك مرتديا غترته البيضاء وصايته السوداء وعلى منكبيه الهزيلين عباءته السوداء أيضا حتى إذا حان وقت مشاركته، اعتلى المنبر في مشهد مهيب وألقى كلمته السنوية وقصيدته المعروفة “ماذا يصورهُ الخَيالُ ويرسم؟!”
وتطور هذا المهرجان التأبيني السنوي بشكل ملحوظ حيث كان يفتتح سابقا بآيات من القرآن الكريم متبوعا بكلمة الحفل الرئيسة ثم قصيدة شعرية ويختتم بمشاركة انشادية تأبينية لأشبال مدرسة الزهراء عليها السلام. وتمثلت أول مشاركة للأشبال في هذا المهرجان الكبير بانشاد القصيدة العينية للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري -رحمه الله- “فداء لمثواك” وكان عريف الحفل يوم ذاك جناب الوجيه الفاضل السيد محمد السلمان حفظه الله. وقد لاقت مشاركة الأشبال وتمكنهم من تلحين وإنشاد العينية الجواهرية الخالدة أعجاب سيد الشعائر مما دعاه لأن يكتب القصائد الفصيحة لاحقا ويقدمها للأشبال لإنشادها بشكل سنوي.
ومع مضي السنوات وتعاقبها، غلبت الصبغة العزائية والنواعي الحسينية على الجو العام للاحتفال التأبيني. فعقيب مقدمة عريف الحفل وتلاوة القرآن وقراءة نعي المقدمة وإلقاء الكلمة والقصيدة الشعرية، تدخل للجامع من الجهة الغربية أربع صحائف عزائية خُطت بقلم سيد الشعائر، يتبع كل لوحة موكب من المعزين اللاطمين، وقد عصبوا رؤوسهم بعصابات حمراء وخضراء. فيقرؤن اللوحات بصورة جماعية منظمّة مع وقع الدمّام والرايات الحمراء والخضراء ترفرف حولهم حتى يطوفون بالجامع يتقدمهم نعش محمول على الأكتاف. في إشارة لإعادة الرؤوس الشريفة لتدفن مع الأجساد الطاهرة بعد مسيرة السبي والإباء. ولسان حال الجميع يصوره السيد المقدس بقوله:
ها قد أتاك الأربعين وإنه
يوم الشكاة لما جناه محرم
وهذا نموذج للصحائف العزائية الأربع من إحدى الاحتفالات التأبينية المنعقدة عصر يوم العشرين من صفر الخير خلال السنوات الأولى قبل أكثر من ٣٥ سنة:
(الصحيفة الأولى)
امن الشام زينب لفت هذا اليوم
تسأل عن المظلوم
امن الشام زينب لفت هذا اليوم
تسأل عن المظلوم
وعالگبر طاحت تشتكي له اهموم
تسأل عن المظلوم
(الصحيفة الثانية)
شوف الحبل من چتفوني بيه
في متني امخليه
شوف الحبل من چتفوني بيه
في متني امخليه
وبزنودي شوف امن الصياط اوسوم
تسأل عن المظلوم
(الصحيفة الثالثة)
والكسر گلبي حالة الأطفال
من چتفوها احبال
والكسر گلبي حالة الأطفال
من چتفوها احبال
من بچت گامت تضرب الها الگوم
تسأل عن المظلوم
(الصحيفة الرابعة)
وابنك علي السجاد بغلاله
لو شاهدت حاله
وابنك علي السجاد بغلاله
لو شاهدت حاله
حز برگبته وساگه المالوم
تسأل عن المظلوم
ورغم تطور المهرجان عبر السنين، حافظ الأشبال وعموم البراعم والأطفال على خصوصيتهم وحضورهم المميز في يوم الأربعين حيث خصص لهم سيد الشعائر اللوحة الرابعة من لوحات العزاء وكان يحيطهم برعايته وعنايته واهتمامه المُلفت للنظر حتى أصبح صوت البراءة يصدح بين أركان الجامع معلنا استمرار الولاء والإحياء عبر الأجيال.
وبعد أن تصل الصحائف الأربع للمنبر المنصوب في الجهة الشرقية من الجامع، أعتاد الحضور في هذه اللحظات على رؤية سيد الشعائر واقفا على المنبر يشير إليهم بيديه الكريمتين لتتم المواكب قراءتها للصحائف ولسان حاله كما خطته يمينه:
لئلئ بروحك سيد الشهداء
بارك وفودا أقبلت للعزاء
بوركت يوم الأربعين جمعتها
من كل قاصية لخير لقاء
وبصعود (رادود السيد) على المنبر، تُقرأ القصيدة العزائية التي يكتبها مسبقا السيد المقدس ثم تتبعها (نزلة) حماسية يموج في نهايتها الجميع وهم يلطمون على الرؤوس والصدور في مشهد شبيه بـ(ركظة طويريج) نحو الجهة الجنوبية من الجامع حيث يُرفع الستار عن الضريح المنصوب هناك فيقبلونه ويطوفون حوله بالعزاء والبكاء ويعتلي صوت الناعي من على المنبر الجنوبي.
تميز المهرجان السنوي التأبيني في حلته الجديدة، بنصب ضريح تشبيهي للضريح المقدس للمولى الحسين -عليه السلام- مصنوع من الخشب والحديد في الجهة الجنوبية من الجامع الكبير امتثالا لتوجيهات سيد الشعائر قدس سره. الأمر الذي أثار الساحة العلمية فقهيا ولاقى صدى واسعا في المنطقة وتفاعلا كبيرا من عموم المؤمنين الموالين. ففي عام ١٤٣٥ هـ تألق المهرجان بمشاركة العلامة السيد منير الخباز -حفظه الله- بكلمة قصيرة من على المنبر الجنوبي مقابل الضريح الشبيه حثّ فيها المؤمنين على الاستمرار في إحياء الشعائر ناقلا لهم نص الاستفتاء الصريح والواضح للمرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني -دام ظله- الذي قطع دابر الشبهات المثارة آنذاك. وكان من بين الحاضرين في الجامع كوكبة من طلبة العلوم الدينية وفضلاء الحوزة العلمية في طليعتهم العلامة السيد هاشم السلمان والعلامة الشيخ جواد الخليفة حفظهم الله جميعا.
وممن شارك أيضا في المهرجان لسنوات عديدة، سماحة العلامة الشيخ علي الدهنين -حفظه الله- وتوّج حضوره في العام ١٤٣٢ هـ بذكر الرأي الفقهي لزعيم الطائفة المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي -قدس سره- حول نصب الضرائح الجديدة (الشبيه) واستحسانه لها. فيما شوهد في الاحتفال التأبيني ولسنوات عديدة سماحة العلامة السيد عبد الأمير السلمان -حفظه الله- مشاركا في حمل النعش -الشبيه- تارة ومتوسطا المعزين تارة أخرى وهو حاسر الرأس لا يكاد يُميّز عن عموم الموالين المعزين.
وصاحب هذا المهرجان التأبيني منذ تأسيسه تقديم وجبة (البركة) في الساحة الكبيرة المجاورة للحسينة الجعفرية (شرق الجامع الكبير). وعُرفت لاحقا هذه الساحة بين الناس -بل وحتى رسميا- باسم (ساحة الأربعين) كما أسماها سيد الشعائر قدس سره.
من الجدير بالذكر، أن سيد الشعائر -قدس سره- كان يُفضل البقاء في الأحساء يوم الأربعين ليحيي ذكرى الإمام الحُسين عليه السلام بهذه الطريقة المميزة والمهيبة على أن يذهب إلى كربلاء المقدسة لأداء الزيارة بشكل حضوري، راسما بذلك صورة بليغة لتربية أبناء المجتمع على ضرورة إحياء ذكر أهل البيت -عليهم السلام- مهما كلّف الأمر بما يتناسب مع متطلبات العصر لتبقى حرارة الذكرى متوقدة في قلوب المؤمنين.