صانع العبقرية.. رواية للشيخ الهجري الفاضل عبدالجليل البن سعد
عبدالله النصر
يتلخص موضوع الرواية في ابن تلك الأسرة المكونة من أربعة أفراد، الأبوين والبنت والولد (شبر) الذي بلغ سن التكليف، فكان لزاماً على أبيه أن يدخله دورة للتكيف لمدة أسبوع ليأخذ فيها معلومات أولية عن مبادئ دينه، ليكمل مشوار حياته بنفسه ويوسع مداركه بما أخذه.
وقد فتح الأب باب تحفيزه لأخذ هذه الدورة، وعبر التحاور والنقاش الذي يدور بينهم جميعاً شرع عدة موضوعات متفرقة تتناسب وموضوع التكليف ومحتواه ومفهومه، وتناولها موجزة.
لهذا الموضوع فكرة خفية وهي على ما بدا لي فكرة التأمل في مفاصل الحياة والأمور العملية والعقدية خاصة، على أنه يحفز المؤمن أن لا يمر بفعل أو بكلمة إلا وتأمل في هدفها المكنون فيها سواء أكان الهدف معطى مسبقاً أو لم يعط، فيقوم بدوره ولو من باب التخيل أن يصل إلى هدف إيجابي يحقق له رقي نفسه وسمو روحه.
وكممارس بسيط للرواية وليست ناقداً للفكر وفلسفته ومنطقه وطرقه، لن أتطرق لتلك الثيمة الروائية، بل سأدون ملاحظاتي الفنية عليها، وقد أخطئ وقد أصيب.
أولاً: الأسلوب هو أسلوب فكري سخي إلى حد قصي، وفلسفي إلى حد يتواضع للمتلقي، وبحساب الفكرة، فإنه أقترب كثيراً من أسلوب الوعظ مثاله مثال كتابات الروائية بنت الهدى وخولة القزويني وغيرها مما شابه. يحاول فيها الراوي إيصال فكرته المموضعة في موضوع التكليف إلى شخوصة بإيراد موضوعات أخرى كأمثلة ودلائل لإقناعهم بها. ومما قد ورد أو أشار إليه هو موضوع الاقتصاد الماركسي البعيد عن الروح والسعادة والحياة الصالحة، وموضوع تجاهل الجيل الجديد للنخلة وعدم معرفتها معرفة حقيقة، وموضوع السطحية في الفكر باعتبارها نزعة نفسية محضة كالجهل بل وأزمة تاريخية، وموضوع الاقتصاد في مهمة الإصلاح في الأرض، وموضوع معنى التخطيط ودوره في الإسلام، وموضوع التخيل الإيجابي كلغة للعواطف، وغيرها.
ثانياً: الملاحظ أن أسلوب العرض أشبه بمقال أو بحث لوي ذراعه ليكون حواراً كلاسيكياً بين أب وابنه وابنته وزوجته، أو خال وأفراد أسرته، وابن اخته، أو الشخصية الرئيسة (شبر) وأصدقائه في مواطن لقائه بهم وصحبتهم إلى مسجد التكليف. والحوار أصبح هو السائد في الفعل الكتابي، وهو الذي جعلها أشبه بالنص المسرحي له مفاصل خمسة عشر فصلاً، بل قريبة من الندوات المصغرة، أو البرامج اللقائية المتلفزة، يأخذ بتلابيبها السؤال ثم الجواب، وليس هو السرد القصصي أو الروائي المعتاد الذي يتولى الحدث وحركاته وانفعالاته وما يتخلله من خيال ووصف وتصوير وتشبيه واستعارات ومجاز.. إلخ، لذا انغلق على الوضوح والدقة في إيصال المطلوب الفكري دون الانزلاق إلى مكونات الحدث الجانبية أو القسرية التي عادة ماتتداخل كجزء من إظهارها لتكون واقعاً حقيقياً يؤكد واقعيتها وإن لم تكن واقعاً، بقصد أن السرد يكاد أن يكون مفقوداً البتة، إلا هنات سردية لا يصدق عليها سرداً، بل إيضاحاً لحركة إضطرارية الحضور، أو محاولة لتسهيل الدخول في الموضوع الذي يراد إيصاله.
ثالثاً: لغة الحوار متعالية إلى حد ما، فهي فوق مستوى الولد الذي في سن التكليف الخامسة عشر سنة تقريباً.
وقد أتت اللغة أيضاً غير متوازنة أو مستوية في كل مفاصل حوارات الرواية، مرة تعلو وتتعالى ومرة تهبط وتنزل إلى مستوى البسيط إلى أن تصل إلى الحديث بلغة إنجليزية كتبت بحروف عربية وبطريقة تشي بضحك أو بسخرية قائلها.
رابعاً: فرض مايود الكاتب أن يقوله على لسان المتحاورين، لاحياد ولا إلتباس ولا تزلزل أو حيرة.. حتى أننا لا نجد إلا سؤالا مفصلاً ومعدوداً بدقة ليكمل مشوار الحديث والمعلومة المفترض طرحها.
خامساً: شخصوص الرواية، لا تجتمع ولا تحضر في المشهد الروائي إلا وفق مايطلبه الروائي ويبعدها وقتما يشاء، تأتي وتقول ماتريد فتختفي تماماً وليس في بقية حياة الشخصية الرئيسة دور فعال ومستمر.
سادساً: إغلاق واختصار الحركة والحوار في دائرة مايود إيصاله الراوي وعدم تركه للشخوص مساحة أخرى يتحدثون فيها ويتحركون في أمكنتهم المختلفة وشئونهم المتباينة أو في تفكيرهم لنعلم أيضاً مايدور في حياتهم وتفكيرهم من الاستداراكات أو الاستفهامات أو حديث النفس وردات الفعل البعيدة عن الآخر ولو من باب مايتوافق مع الفكرة.
سابعاً: في كل حديث يتداول يشاد بشخصية الابن (شبر) ، كعبقري ذكي بنحو مبالغ ومسهب في العبارات، وإذا ما تتبعنا الرواية بكاملها لم نجد له مايعزز هذا الحكم أو هذا النعت سوى عبارة أو عبارتين في مجمل الرواية قالهما كنتيجة أو تلخيص على ماورد من محاوريه، بل نجد المحاورين معه على أعلى درجات الذكاء والعبقرية في ردودهم عليه وتزويدهم إياه بالمعلومات والاستنتاجات ولم يقل لهم شخص ما بأنهم عباقرة أو أذكياء. وفجأة في المفصل التاسع حيث تبلغ الرواية نصفها، يتحول (شبر) حدث السن، إلى متحدث من الدرجة الأولى، ليصبح درس التكليف الذي انبنت عليه الرواية ومن المفترض أن يأخذ فيه دورته التي تفتح له الوعي على مدارات حياته وعقيدته يصبح وكأنه تحصيل حاصل بل مرغم عليه كما قد جاءت ردة فعله عندما فاتحه أبيه في أمر أخذ دورة في التكليف، وإذا ما دققنا أيضاً في هذا الحديث الذي تفجر فجأة بنحو كبير، نجده حديث مكتسب منقول عن أبيه، لا عن عبقرية فيه، استنتجته وجعلته يطفو إلى السطح، كما وصف. بل في الفصل الذي اتخذ رقم (١٠٠٠٠٠) ولا نعلم لماذا يأتي هذا الفصل بعد الفصل الخامس عشر؟.. أن المفاجئ من هذا الأبن العبقري نراه تنقصه الخبرة في ترتيب ملابسه وحاجياته البسيطه في غرفته فتبدأ أمه بإلقاء عليه واجبه وكيفية القيام به على أكمل وجه! .
ثامناً: كأني بمدخل دورة التكليف أعطى صورة جديدة وجميلة روحانية في عرض وإيصال دروس الدورة التكليفية، شادة، شائقة، وكأنها اقتراح تقدمه الرواية، لكن لا أدري لماذا انتهت الدورة مقتصرة فقط على تعريف التكليف في الجلسة الأولى، وعلى المعرض الذي عرضت فيه صور أعلام هجر بريشة فنانين هجريين أيضاً، وقام على أيايدهم البيضاء، ثم على جلسة أخرى ختامية لتكريم المكلفين، بينما يشير الراوي إلى أن مدة الدورة هو أسبوع حظي بفعاليات ومهام أخرى غاية في الروعة والأهمية. فهل هذا الاقتصار الأهم وهو ما تود أن تقدمه الرواية عن التكليف الذي أخذ في الحديث عنه ٢٣٠ صفحة؟
بينما بقية الموضوعات الهامشية أخذت أكثر من حقها في التوضيح والاستدلال والتأمل في تفاصيلها؟، وعلى سبيل المثال موضوع الألعاب الإلكترونية والميدانية استغرق أكثر من صفحة ونصف، وموضوع المعلم الذي تناوله الراوي في أكثر من ثلاث صفحات، وأصبح موضوع التكليف هو مثار للموضوعات الأخرى ليس إلا، ولا يُتَحدث عنه إلا ببضع سطور، وليس بمقدار ما تُشوقنا مفاصل الحوارات على اكتشافه لاحقاً. فيعمد الراوي (ببسط التكليف على الحياة كلها) كما يقول شبر في الصفحات الأخيرة من الرواية لأمه. لا أن يبسط التكليف كمجرد شعائر يومية. ولا أن تقدم الرواية ما افرضته بأن يقدم التكليف عن طريق البحث عن دلالاته ليرتقي إلى المستوى المرجو. لكن أتوقع بأن الراوي ربما تعمد فعل هذا القصور أو عدم الشمول لترك مساحة يلعب فيها المتلقي الحاذق المشارك ليؤدي دوره كلاعب (رأس حربه) كما صوره، وليس كقارئ عادي يأخذ كل شيء جاهز ويرحل.
تاسعاً: في صفحة ١٨ مقولة(نحن عندما…. إلى وينال شرف مخاطبته).. فقط وددت هنا أن أقول بأننا لانلغي المناهج الدراسية في قبال القرآن، ولا الأحاديث النبوية بدلاً من أفكار المعلمين، بل نحن نضيف أو نرتب أو نحسن أو نصحح أو نلغي بعضها أو نعمق بعضها الآخر مماتناولناه في صفوف الدراسة بالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
عاشراً: عدم معرفة الابن حفل التكليف وهو بالطبع له أصدقاء كثر في سنه أو فوق سنه كما بينت الرواية، فرض يحتاج إلى مزيد من إقناع القارئ، ومن المتوقع أو المؤكد بأن أحد أصدقائه أقيم له حفل تكليف، وقد تحدث له عنه، ودار حوله السؤال والحديث. ولاسيما أن الابن يظهر بذلك الذكاء في أقواله ومخرجاته والتقاط مايمر به، ومثير السؤال والاستفهام.
أحد عشر: الفصل الأخير هو ليس له علاقة باحداث الرواية إلا بقدر ماكان محاولة لتقديم إيضاح عنها باختصار كبير، بل هو محاولة لإعطاء مبررات للطريقة التي تناول الراوي فيها كتابة الرواية. ولا أعلم لماذا اكتنه الراوي هذا الفعل؟ أم أنه وجد أنه من الضرورة عليه ليفعل؟ وما هو وجه الضرورة ياترى؟، على أن الفعل هذا جديد علي إن لم أره جديداً في الرواية فنياً أيضاً.
والسؤال الذي يطرح نفسه: فيما لو أعطيت الرواية لإبن في بداية سن التكليف، هل سيجد تأثيرها على نفسه وإفهامه بما قد عرض، بل هل يستطيع العمل بما يخرج به من نتيجة منها؟؟.