ماذا لو اجتمع السيستاني وبن بيه؟
حسن المصطفى
هنالك في لبنان، وفي مجلسِ شقته بضاحية بيروت الجنوبية، كنت العام 2005، رفقة الراحل السيد هاني فحص، حيث اعتدت زيارته، والاستماع لأحاديثه، والنقاش الفكري والسياسي معه، ذلك النقاش المفتوح السماوات، دون قيودٍ أو محرمات.
كان أبو حسن، بهدوئه المعهود، وابتسامته، يسرد لي شيئاً عن رؤيته حول “المرجعية الدينية” في مدينة النجف بالعراق، ودورها الذي بدأ يتنامى مع تسنم آية الله السيد علي السيستاني زعامة الحوزة العلمية هناك، بُعيد رحيل المرجع الأعلى السيد أبو القاسم الخوئي.
“السيستاني ضمانةُ اعتدال”، قالها السيد هاني فحص، وبقيت هذه الجملة راسخة في ذهني، مبدلة الكثير من وجهاتِ نظر ملتبسة لم تكن جليةً لدي، عن المرجع الذي جاء في ظرف سياسي واجتماعي وأمني حرج، من تاريخ العراق الحديث.
البناءُ الماهرُ:
إبن “جبشيت” الذي آمن بقيمة “الاعتدال” ودافع عنها، حتى آخر رمقٍ في حياته، كانت تربطه علاقة احترام وثقة مع مرجعية النجف، وهو في ذات الوقت كان ينالُ تقديراً يستحقه من لدن شخصيات وقيادات سياسية في الخليج، بسبب مواقفه الداعمة للاستقرار والحوار، والبعد عن الطائفية، وأهمية أن يكون قرار المسلمين العرب الشيعة، بأيديهم، وضمن أُطر الدول الوطنية التي يعيشون فيها، لا بيد الساسة في إيران أو سواهم، فهو من المؤمنين بـ”المواطنة” كثيمة تربط علاقة الفرد بالدولة، والتي من خلالها يتحصل على جميع حقوقه كاملة غير منقوصة، بغض النظر عن دينة ولونه وجنسه وعرقه، لأن البشر سواسية، لا أفضيلة لأحدٍ على آخر.
فحص، الذي كانَ محل تقدير، كان بمثابةِ همزة وصلٍ بين قوى روحية ومدنية وحكومية عدة، وهو ما أهله للعب أدوارٍ لم يكن غيره يستطيع القيام بها.
أستحضر ذلك، الآن، لأتخيل الدور المهم والفعال، الذي كان سيقوم به السيد هاني فحص، أو من هو ضمن فريقه، في بناء علاقة عمل مشتركة ودائمة بين مرجعيتين إسلاميتين تحظيان بتأثير على قطاعات واسعة في الخليج والعالمين العربي والإسلامي، ألا وهما العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، وآية الله السيد علي السيستاني.
مشتركاتٌ كثيرةٌ
بن بيه، والسيستاني، ورغم اختلاف المذاهب بينهما، إلا أنهما من المرجعيات الدينية القليلة، التي تتقاطع في نقاط عدة، وأهمها تجاوز الخطاب الطائفي الضيق، والإيمان بأهمية “الإنسان” واحترام حقوقه، وتحقيق كرامته.
السيستاني، العراقي، إيراني الأصل؛ وبن بيه، الإماراتي، موريتاني الأصل، كلاهما قيظ لهما أن يمارسا أدواراً غاية في الحساسية، لم يكن بالإمكان النجاح فيها، لولا القدرة على ضبط النفس، وعدم الانفعال، وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، والتفكير بعقلٍ باردٍ هادئٍ، دون الانجرار لانفعالات الجمهور أو الأتباع أو الرأي العام الغاضب.
يمكن القول إن النقاط التالية، هي فضاء عملٍ مشتركٍ بين السيستاني وبن بيه:
1. الإيمان بمرجعية الدولة المدنية، التي يكون فيها تدبير الحكم شأناً دنيوياً، من صلاحيات رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، بحسب نظام الحكم المعمول به.
2. العمل على ترسيخ مفاهيم لا يؤمن بها رهطٌ من المرجعيات الدينية التقليدية، مثل: “سيادة القانون”، و”المواطنة”، و”احترام حقوق الإنسان”، وهما في هذا الصدد، يرجعان تطبيق هذه المفاهيم لأجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، والتي يقع على عاتقها مهمة إقامة العدالة.
3. الحقوق، كل الحقوق، ليست بالأمر الخاص بـ”المسلمين” وحدهم، بل إن “الدولة” واجبها ضمان حقوق جميع المواطنين، دون تمييز ديني، وحمايتهم، وتمكينهم من التعليم والطبابة والعمل والوصول إلى المناصب المختلفة، بناء على الكفاءة والنزاهة.
4. التعاون والتفاهم والحوار، المدخل الأسلم إلى حل الخلافات، وتنظيم التباينات، واحترام الآخر، وترسيخ التعددية، دون اللجوء إلى العنف أو فرض الآراء بالقوة والتعسف.
5. حفظ الأمن في المنطقة، وتجنيبها ويلات الصراعات السياسية والمذهبية، من خلال رفض وجود المليشيات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة، كما رفض “تنمّر” حكومة على أخرى، أو ممارسة إرهاب مادي أو معنوي عليها.
6. الإيمان بـ”سيادة الدولة”، ورفض تدخل أي دولة في شؤون الدول المجاورة، لأن هذا التدخل من شأنه أن يقوض الأمن الإقليمي والاستقرار، ويثير المشكلات الداخلية ويزيدها تعقيداً.
7. حثُ علماء الدين على عدم تولي شؤون الحكم، والاكتفاء بدور إرشادي، تربوي، روحي، يتعاطى السياسة في خطوطها العامة، دون أن يكون علماء الدين جزءاً من استقطاباتها وصراعاتها.
8. رفض استخدام “الدين” كأداة سياسية في الصراعات بين الدول والأحزاب والتيارات المختلفة، والتأكيد على أن “الدين” هو شأن تعبدي، اجتماعي، لا ينبغي أن يكون ورقة للتكسب السياسي.
9. التأكيد على أن جميع المسلمين، باختلاف مذاهبهم، هم مؤمنون، لا يصح تكفيرهم، أو استحلال دمهم أو مالهم أو عرضهم. وبالتالي، يقفون ضد الخطابات التكفيرية والأصولية، بغض النظر عن مصدرها.
10. التواصل والانفتاح على الأديان المختلفة، واحترامها، دون الدخول في صراعات عقدية معها، والحث على تمكين أتباعها من ممارسة شعائرهم وبناء دور عبادتهم، دون وضع عراقيل.
النقاط أعلاه، تمثل “العمود الفقري” لمشروعي السيستاني وبن بيه، وكلاهما وإن اختلفا في بعض التفاصيل أو طرق العمل، إلا أن الأهداف الكبرى متشابهة، وتروم في النهاية “تحقيق السلم” و”البعد عن الحروب والصراعات” ومجابهة “الخطابات الطائفية والعصبوية”، و”بناء دول حديثة متقدمة وآمنة”.
النياتُ الطيبة لوحدها لا تكفي، كما يقال، لذلك، العمل هو الأساس للإنجاز، وبدء مشوار الألف ميل، وهو عمل بدء بالفعل، وإن كلٌ بطريقته، وكلٌ وفق ظروفه. إنما، ما هي إمكانية وجود مشاريع مشتركة، وما الذي سيتحقق لو اجتمعت مرجعيتان بهذا الوزن الفقهي والروحي والشعبي؟ ربما الكثير؛ وهو ما ستناقشه المقالة القادمة.