أجواء التحريض يجب ألا تعود
حسن المصطفى
كانت سنة واحدة فقط، إلا أنها بقيت محفورة في الذاكرة، بكثير من التجارب، والضحكات، والمواجع، والقراءات، والنقاشات، واكتشاف المحيط، وأيضاً التصرفات “الصبيانية” التي كانت على حساب التحصيل العملي، حين كنا ندلف بحثاً عن الأطباق الشهية في مطاعم الخبر: بومبي، وكبانا، وأبو ماهر، ونعود للسمر والسهر، فيما المذاكرة كانت هامشاً لا متناً!
العام 1992، سجلت في “جامعة الملك فهد للبترول والمعادن”، وبقيت فيها عاماً واحداً، تمنيت لو طال، لن أقول إنني نادم على خروجي منها، لأن الندم ضرب من الوهن، هو من شمائل الضعفاء كما يرى نيتشه، ولذا، نجد الفيلسوف الألماني، دائماً ما يوبخ الندامى على دموعهم، لا شيء يستحق الندم، لأن هنالك “إرادة القوة”. ما كنت أود الحصول عليه من جامعة “البترول”، حصلت على جزء منه، والمتبقي، باستطاعتي حيازته، لو أردت ذلك؛ إذن، الأمر بأيدينا نحن، وليس في أقدارنا التي نعلق عليها الحيوات المؤجلة!
كنت في مباني السنة التحضيرية، وكنا شباباً نتطلع للاكتشاف، ضمن أطر أفقنا الذاتية والمجتمعية، وأجواء “الصحوة” التي كانت طاغية في عموم السعودية.
بين فينة وأخرى، كنت أذهب للمساجد الصغيرة، المتوزعة داخل السكن الجامعي، أصلي فيها أحياناً خلسة، كي لا يراني أحد من المتشددين، فينهرني، أو يدخل معي في مشادات مذهبية لا طائل منها، كان صوت المتطرفين يومها هو الأعلى! إلا أن الأهم كان بالنسبة لي هو “التلصص” على الملصقات المعلقة في المساجد، وقراءة ما بها من دعوات لـ”الجهاد” ونصرة لقضايا المسلمين في العالم، وأيضاً الحصول على المطويات والكتيبات التي كانت توزع بين الطلبة في المساجد الجامعية.
لن أنسى أيضاً أشرطة الكاسيت، والصحف الحائطية التي لم تكن فقط في المساجد، بل أيضاً في أروقة بعض المباني السكنية للطلبة.
ذات مرة، زميل لي، ورغم أنه غير ملتزم دينياً، وفجأة وسط باحة السنة التحضيرية، جاء متهجماً عليَّ يريد ضربي، لا لشيء إلا لأنني مختلف عنه مذهبياً، رغم أن علاقتي به كانت جيدة، وكلانا أبناء وطن واحد، ما حدا ببقية الزملاء بدفعه جانباً وإبعاده.
هذا التصرف الذي استغربت منه حينها، هو نتيجة طبيعية لأجواء “الصحوة” التي كانت سائدة، والتي تدفع نحو تمجيد “السلاح” و”العنف” ولا تؤمن بالاختلاف، وتعلي من شأن الرأي الواحد وفقط، الذي تعتبره صواباً مطلقاً.
هي أفكار كانت عاصفة، قوية، تمتلك نفوذاً، وكما قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: إن هذه التيارات اختطفت المجتمع لأربعين عاماً، وأعادته للوراء. ولذا هو عازم على مواجهتها بقوة و”تدميرها” لما أحدثته من ضرر بالغ بالمملكة.
لو بقي الشباب السعودي حبيس هذه الثنائيات وهذه الأفكار المتصارعة، فإنه لن يتقدم، سيتحول من مشروعات علماء ومبتكرين وفلاسفة ورواد أعمال، إلى مجرد قنابل موقوتة لا تتقن إلا الدمار، دمار للذات والمجتمع. لذا، مسيرة الإصلاح لن تلتفت للوراء، ولن نعود لسنوات النزاعات العبثية والحماقات الصبيانية.