أجمل الحقائق أخفاها
طه الخليفة
يقول اهل الأدب: “أعذب الشعرِ أكذبه”، وأظن أنّ المقولة مجازيّة وتعني أنّ أعذب الشعر ما يحمل صوراً خياليّة وتشبيهات ومجازات، تحاكي ما يريد الشاعر أن ينقله من معنى وعاطفة.
على وزن هذا القول، ربما يجوز لنا أن نقول: “أجمل الحقائق أخفاها.”
يولد الإنسان، وسريعاً ما يبدأ تعرّفُه على العالم من حوله عبر الحواس، وتنمو قدراته في الإدراك، وفي سنٍّ مبكّرة يبدأ في الاستكشاف ومحاولة كشف الحقائق من حوله. نجد الطفل يفكك لعبة اقتناها للتو حتى لو اضطر لكسرها، ليكتشف ما بداخلها، وتستهويه الأحجيات والمسائل الرياضية. انها حركة تجاه كشف الجزء الخفي من عالمه الصغير.
يتقدّم بنا العمر قليلاً ونجد انفسنا في صفوف دراسيّة تتناول شتّى العلوم، ومن اشدّها إبهاراً هي تلك المعارف التي تكشف خفايا الطبيعة كالجاذبيّة والمغناطيسية والموجات. كلّ هذه حقائق لا تتمظهر أمامنا في ذاتها ولكننا نجد لذة في التعرّف عليها، وعلى آثارها في واقعنا من خلال الطبيعة أو من خلال التطبيقات الصناعيّة والتكنولوجيّة، التي تدخُل عالمنا على إثر هذه المعرفة.
الأمر لا يقتصر على المعارف الطبيعيّة، فنحن نجد ذلك في كل بحور المعرفة.
عندما يصوغ الشاعر قصيدة جميلة، نجد انفسنا مشدودين للتمعّن في تلك القصيدة ومعانيها. إنها حالة استكشاف لما في المفردات والصيغ البلاغية من صور خيالية ومعاني ومشاعر، أراد الشاعر أن ينقلها للمتلقّي، وكلما كانت القصيدة أجزل، كلّما استدعت المزيد من التحليل والنقد والاستكشاف. جمال القصيدة بشقّيه الظاهر والخفي، هو ما يُبقى قصائداً حيةً وحاضرة لمئات وآلاف السنين.
علم التاريخ أيضاً من العلوم الشيّقة، وجماليّته لا تأتي فقط من باب معرفة الحوادث التاريخية عبر ما هو مدوّن في المشهور من الوثائق، بل تأتي غالباً من التعرّف على خفايا التاريخ التي لم تكتب بوضوح والحقائق المتناثرة هنا وهناك والتي تم إهمالها أو طمسها عن قصد أو غير قصد. انه جمال البحث عن الحقيقة مرة أخرى.
وأجمل حقيقة سعى الإنسان للكشف عنها هي تلك التي أعيت الحكماء والعرفاء؛ حقيقة الوجود والغرض منه، مبدأه ونهايته، فهم الطبيعة وما وراء الطبيعة. إن تعلّق هذه المعرفة بالكمال والجمال واللطف اللامتناهي، يجعل هذه الحقيقة أجمل الحقائق، ولأن عقولنا المحدودة لا يمكنها إدراك ماهية ذلك الوجود، فهي أخفى الحقائق.