الإمامة والزهراء
فؤاد الحمود
الإمامة مفهوم ومادة طرحتها السماء، وأصّلت لها عبر مجموعة من الآيات القرآنية في الكتب السماوية، كما أن السنة النبوية قعّدت له القواعد والأصول والمرتكزات التي تبين حدود ومفهوم الإمامة.
ورغم هذه العناية الكبيرة من السماء والنبي والعترة الطاهرة عليهم السلام إلاّ أنّ هناك جهوداٌ بُذلت لحرف هذا المفهوم واستبعاد انطباقه على الأفراد المعنيين عبر طرح أساليب مختلفة فمن اللجوء إلى الشورى كمفهوم، أو الشورى المعينة وأخرى حول التعيين.
وحيث أنّ من الخطر إبعاد الإمامة عن أهلها كان للزهراء عليها السلام دور كبير في بيان حقيقتها ومستحقيها، وقد بذلت نفسها جهاداً حتى فارقت الحياة ولحقت بالرفيق الأعلى مجاورة لأبيها صلى الله عليه وآله شهيدة سعيدة.
ولعل البعض قد يسيء الفهم، ويعتبر أن منطلق الزهراء عليها السلام هو منطلق حميّة لزوجها أمير المؤمنين عليهما السلام؛ بينما القضية أعمق، متناسين أن الرسول صلى الله عليه وآله عبّر عنها بأنها “يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها”.
لهذا فإن كل متأملٍ وحصيف سيجد أنها لا تتحرك أي حركة إلا من أجل الدين “لا تخرم مشيتها مشية رسول الله”؛ ومن البعيد هنا التصور في المشي المادي أو المحاكاتي وإنما يراد بها السلوك والتدين وأنّ الحركة ناشئة عن إرادة سماوية.
كيف حافظت الزهراء ودافعت عن الإمامة؟
يتضح ذلك من خلال خطبتها في المسجد النبوي وكذا عند نساء المدينة.
ففي المسجد النبوي ذكرت ولاية أهل البيت عليهم السلام كفرض إلهي لا يختلف عن الواجبات التي عددتها في الخطبة فجعل الله طاعتنا نظاما للملة وامامتنا أماناً من الفرقة.
كما أشارت إلى علي عليه السلام بذكر فضائله وتقدمه على سواه علما وشجاعة بقولها “أم أنتم أعلم بخصوص القران وعمومه من أبي وابن عمي” وفي شجاعته قالت: “كلما فغرت فاغرة المشركين قذف أخاه عليا في لهواتها”
أما خطبتها في نساء المدينة حيث قالت: “وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه … وتنمره في ذات الله” وفي مقطع آخر قالت: “ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين”
ثم استخدمت أسلوباً آخراً من خلال خروجها إلى بيوتات المدينة ليلاً رغم ما أمض بها من الألم والمرض وضعف الحال أداءً للدور الرسالي عبر تحفيز الأنصار للقيام بنصرة الإمام علي عليه السلام.
فقد ورد عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال: »إنّ عليّاً عليه السلام حمل فاطمة عليها السلام على حمارٍ، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة عليها السلام الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال علي عليه السلام: أكنت أترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ميّتاً في بيته لا أُجهزه، وأخرج إلى الناس أُنازعهم سلطانه! وقالت فاطمة عليها السلام: ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه «
ومن الأساليب التي استعملتها لإظهار اعتراضها على غصب الخلافة من أهلها أنها أوصت أن يكون تشييعها ليلاً وعدم حضور من ظلموها وظلموا بعلها، ولعل إخفاء قبرها حكاية أخرى لها مضامين كبيرة ودلالات يمكن انتزاعها من وصية لها، أو لجرأة القوم على قبرها وإبراز مدى جرأة متولي الخلافة، ولو بالإساءة إلى قبرها وقد ذكر التاريخ أن أحدهم هدد بنبش القبر وحاول لولا تدخل الإمام علي عليه السلام.
كل ذلك تأكيداً لإيمانها بإمامة أمير المؤمنين والدفاع عنه إلى آخر يوم من حياتها التي لم تدم طويلا، فحين رأت شدة الانحراف في الأمة الإسلامية عبر إبعاد خلافة الحق إلى غير أهلها والتحريف المعنوي في نصوص القرآن والسنة المطهرة، فمارست الزهراء دورها الشرعي في رفض الباطل والسعي لتصحيح المسار.
لذا فقد استخدمت الزهراء مجموعة من الأساليب التي من خلالها تدعو الأمة للاستيقاظ من سباتها العميق واسترجاع الحق المسلوب من أهله.
فشهادتها في مقتبل عمرها دليل على قتل الضمير الحي، والذي ينطق بالحق، وهو الصوت الذي طالما أزعجهم ولو عبر البكاء على أبيها، وما فُعل بها من إخراجها من المدينة وقطع شجرة الأراك التي كانت تستظل بها إلا صفحة سوداء على جبين التاريخ الإسلامي.