كيف نعرف أن صحتنا النفسية ليست بخير؟
بشائر: الدمام
ألم النفس، ذلك الذي لا يصدر آهات، يوجع الروح وأحياناً يوهن الجسد. قد لا تظهر ملامحه في الوجوه، ولا يوم عطلة مرَضية له. يرتدي الناس فوقه أقنعتهم اليومية وينخرطون في مجتمعاتهم.
تئن الروح تحت وطأة إلحاح ما، استيقاظ مذعور في الليالي، أفكار تصطدم ببعضها البعض، قلة تركيز، بكاء، شعور بالاختناق، وعوارض أخرى، لكننا بخير.
في الواقع لسنا بخير، رسائل النفس المتعبة يجب الإقرار بها وقراءتها، والتوجّه إلى المعالج النفسي ليساعدنا على فهم ماذا بنا.
على الرغم من أن “التوجه إلى معالج نفسي” أمر بسيط، إلا أن هذه الخطوة تحتاج بالنسبة إلى كثيرين إلى تفكير عميق، يبدأ بالسؤال الأساسي: هل جننت؟ ثم ماذا سيقول الناس؟ والأفضل تجاهل الأمر، أو عدم إخبار أحد.
زيارة المعالج النفسي تضع المريض في بقعة اتهام تجعله يفضل ألم روحه على مجابهة المجتمع، على الرغم من العديد من حملات التوعية، لكنها ما زالت غير كافية على زعزعة المفهوم المرتبط بالمعالج النفسي.
متى نتوجه للعلاج النفسي؟
تعرّف المعالجة النفسية التي تعالج وفق النظام السلوكي المعرفي الوجداني والنظام الفردي النظمي ناهد المصري، الصحة النفسية “بتمتع الإنسان بالراحة الفكرية والذهنية، والشعور بالرضا عن الذات، والطمأنينة في أداء أي عمل، والتعامل بإيجابية مع المحيطين به في البيئة الأسرية والمهنية والاجتماعية”.
وتقول المصري إن “الأسباب الموجبة للتوجه إلى العلاج النفسي تكون عند إحساس الفرد بعدم الرضا عن الذات، أو سيطرة المشاعر السلبية عليه بشكل تام، أو وجود أعراض غير سوية لا تتوافق مع نمط حياته اليومي أو تتعارض معها. فهذه مؤشرات أولية للفرد ليتيقظ بأن ثمة مشكلة أو اضطراب معين لا بد من التنبه له”.
وتضيف، “هنا نتحدث عن المشكلة العرضية أو المأزم المفاجئ نتيجة مشكلة ما أو حدث غيّر في حياة الإنسان، مثل ترك عمل أو وفاة عزيز أو اضطراب عاطفي أو اجتماعي. فيكون التوجه إلى المعالج النفسي للتأكد من أن هذه الاعراض لن تؤثر في صحته النفسية”.
الفرق بين الطبيب والمعالج النفسي
توضح المصري الفرق بين الطبيب والمعالج النفسي، فتقول إن “الطبيب النفسي هو المتخصص في علاج الأمراض العقلية والأعصاب، والمسار في هذا العلاج هو المسار الدوائي، في حال كانت الأمراض ذُهاناً أو فصاماً أو غيرهما من الأمراض الحادة التي لا يمكن علاجها إلا عبر المسار الدوائي. أما المعالج النفسي Psychotherapy فهو المتخصص في تشخيص الأمراض النفسية ومعالجتها عيادياً. ويكون مجازاً من وزارة الصحة للقيام بالتدخل العيادي وفق مسار علاجي محدد إما العلاج السلوكي المعرفي أو التحليل النفسي، أو العلاج بالمعنى أو بالموسيقى أو باللعب أو بالرسم وغيرها من الأساليب”.
وتضيف أنه “عندما يترافق المرض النفسي مع أفكار غير منطقية أو ضغوط نفسية أو اضطراب سلوكي معين لدى المريض، يقوم الطبيب بتحويل المريض إلى العلاج النفسي ليترافق المسار الدوائي مع المسار العلاجي، ليتمكن المريض من تخطي المأزم بمساعدة مختص”.
وكذلك عندما يجد المعالج بعد جلسات عيادية عدة أن “المريض لم يحرز تقدماً في المسار العلاج السلوكي أو التحليلي أو أن المأزم يتفاقم، يحوّل المريض إلى الطبيب ليتداخل المسار الدوائي والنفسي بخطة علاجية واحدة”.
أما الجلسات العيادية فيتراوح زمن الوحدة منها، بحسب المصري، “بين 45 و50 دقيقة، بحيث تكون بمعدل جلسة واحدة أسبوعياً في بداية العلاج. ثم يحدد عدد الجلسات زيادة أو نقصاناً بحسب تعاون المتعالج”.
علاج الأطفال نفسياً وعلاجات طبيعية مرافقة
وتعتبر المصري أن الأطفال لا يختلفون عن الكبار، لا في الأسباب الموجبة ولا في آلية التدخل. ما يختلف برأيها هو “الاستراتيجية المتبعة، كالعلاج باللعب العلاج بالرسوم… وكذلك فإن الاختبارات المطبقة معهم تختلف كون الطفل أقل قدرة على التعبير لفظياً عن مشكلته”.
وعن العلاجات الطبيعية المرافقة للعلاج النفسي، مثل التأمل واليوغا، تعتبر المصري أنها “لا تتعارض مع العلاج النفسي، بل هي تأتي نتيجة توصيات المعالج النفسي كتقنيات وأساليب يجب أن يخضع لها المتعالج إذا ما كان يعاني من القلق أو حالات عدم التركيز أو الاهتياج”.
وتشير إلى أن “المعالج النفسي لا يقوم عادة بهذه العلاجات، بل يحولها إلى متخصصين في هذه العلاجات، إذا ما كان لدى المريض رغبة في هذا النوع من العلاج”.
السرية ونظرة المجتمع
وتؤكد أنه “من البديهي جداً والطبيعي أن يلتزم المعالج بالسرية، ويحافظ على خصوصية المريض، لأن القانون يحتم عليه ذلك، ولأن واجبه الإنساني والأخلاقي يفرض عليه كسائر العاملين في الشق الإنساني أن يحافظ على خصوصية المريض”.
وعن المجتمع تقول إن “النظرة تختلف من مجتمع إلى آخر ومن فرد إلى آخر. والأمر مرتبط بمدى وعي الفرد لمشكلته وقدرته على تخطيها. بالتالي، فإن دور المعالج مهم وضروري في إقناع الأهل أو المتعالجين بمواجهة العلاج أو تقبّله، على أنه إضافة لصحتهم وليس لوجود خلل أو نقص في قدراتهم الذهنية أو العقلية”. حتى أنها توصي وتقوم بكثير من العلاجات النفسية الجماعية، وتجد أن “فائدتها كبيرة إذا ما أقيمت بالشكل المدروس حول الحالات وأعمار المرضى المشاركين وتفاصيل أخرى”.
والمعالج النفسي والطبيب النفسي، تقول المصري، “دورهما مهم في ترميم ما أتلفته طبيعة الإنسان البشرية من هموم ومشكلات مرّ بها ولم يستطع أو يواجهها بمفرده أو لعدم كفاءة من يحيط به”.
الصحة النفسية على الشاشة
عام 2003 خصص الإعلامي اللبناني نيشان ديرهاروتيونيان في برنامجه التلفزيوني “مايسترو” فقرة عن الطب النفسي، بحيث يختار الضيف الجلوس على كرسي عادي أو طويل. ويذكر نيشان أن الضيفة الأولى كانت السيدة اللبنانية الأولى (في تسعينيات القرن الماضي) منى الهراوي. وكان الضيف يمر بمراحل جلسة العلاج النفسي من الطفولة وعقدها وهواجس الحياة.
وكان نيشان الإعلامي الأول الذي أعلن في أحد برامجه أنه يزور الطبيب النفسي. ويخبر أن أحداً لم يواجهه بالأمر إنما وصل إليه كلام أن “حرام ليس موزوناً”، مشيراً إلى “اعتبار زيارة المعالج النفسي وصمة عار في المجتمع لما لدينا من مخزون فكري من السينما المصرية حول الأطباء النفسيين ومرضى الاضطراب النفسي واستخدام مصطلحات الجنون، إذ تستخدم كلمة مجنون ومستشفى المجانين والعصفورية، ودواء المجانين لتوصيف الحالات النفسية. هذه النمطية أو الستيريوتايب كرس فكرة العلاج النفسي بين المحرمات تابو”.
يقول نيشان “إننا عادة نؤجل ألمنا الجسدي ونسكّنه بالمهدئات حتى يصرخ الجسم وجعاً، فكيف إذا تألمت النفس. لأن ثقافة العلاج النفسي غير منتشرة خوفاً من الأحكام المعلبة التي يطلقها المجتمع. ويوجد كثيرون ممن يعانون في غرفهم المغلقة من دون أن يستوعب من حولهم أنهم يتألمون، خصوصاً أن المريض النفسي لا يوجد دلائل على شكله الخارجي”.
ويظن البعض أن الشخص المتعب نفسياً أو المكتئب يكفيه أن يسافر مثلاً للترويح عن نفسه، من دون التفكير في منشأ الكآبة وأسبابها النفسية أو الجسدية. ويعتبر أن المكتئب يحمل معه كآبته في سفره والأجدى أن يستشير طبيباً أو معالجاً نفسياً.
وإلى جانب العامل الاجتماعي، يعتبر نيشان أن “العامل الاقتصادي يحول دون إمكانية الناس في اختيار العلاج النفسي. لأن الأطباء النفسيين يتقاضون أجراً عالياً وتعتبر زيارتهم امتيازاً، حتى أن شركات التأمين لا تغطي العلاج النفسي”.
دور المؤثرين
ويحتاج العلاج النفسي برأي نيشان إلى “تسويق عبر مؤثرين وشخصيات نافذة”. ويعطي مثلاً أن “أحد الأطباء تحدث في أحد المؤتمرات أن الأمراض المتعلقة بالبروستات لم تكن تغطى من شركات التأمين إلى أن أعلن أحد السياسيين النافذين أنه مصاب”.
والمثل الآخر، يقول نيشان، إن “الدكتور ناجي الصغير كان قد ذكر أنه بعد إعلان الفنانة إليسا عن إصابتها بسرطان الثدي وتعافيها، تشجع كثير من السيدات لإجراء الفحوصات”. معتبراً أن “الشخصيات المعروفة تلعب دوراً مهماً مؤثراً في المجتمع. كأن يصارح أحد المشاهير أنه مصاب بالفصام أو ثنائي القطب، وأنه يتعالج، الأمر الذي يؤثر إيجاباً في تشجيع الناس على تقبل فكرة المرض والعلاج”.
عدم إهمال الرسائل
والأسوأ في موضوع الأمراض النفسية، يقول نيشان، هو “استخدام بعض المصطلحات في غير مكانها، مثل مفصوم أو سايكو أو معاق وغيرها، للدلالة على تصرفات غير مقبولة. والواقع أنها أمراض قد تسبب دمار حياة أصحابها إن لم يتعالجوا ويتناولوا الدواء”.
ويضيف أن “المرض النفسي غير مرئي ولا أعراض دامغة على الشكل، والمريض يرسل رسائل عدة عبر تصرفاته ليقول إنه ليس بخير، كأن ينزوي في غرفته مثلاً. ومن الضروري الانتباه إلى ما يحاول قوله وعدم تجاهل الأمر وزيارة الطبيب النفسي من دون التغطية على الموضوع، واعتباره ليس ذي أهمية”.
ويعتبر أنه “من الضروري التوعية حول الموضوع وتوضيحه، فالإنسان عدو ما يجهل، خصوصاً أنه في لا وعينا وفي الوعي الجمعي لم تنضج كفاية فكرة أن نقول ببساطة إن شخصاً ما لديه مرض نفسي، فالمجتمع يدين بألفاظ جارحة لا تساعد على تقبل المرض وتخطيه”.
ويعتبر نيشان أن “التوعية للصحة النفسية يجب أن تبدأ من الأسرة والمدرسة، وعلى الإعلام دور كبير في تغطية الموضوع بشكل علمي من دون دراما وتفكير دائم بالرايتنغ”.
وعن تجربته الخاصة عندما ذكر زيارته للطبيب النفسي حينها للعلاج النفسي، يروي نيشان، أن الشهرة أتته فجأة، وأصبح يتصرف بفوقية، وأصبح لديه سلوك اجتماعي نافر مستغلاً شهرته. ويضيف “على الرغم من أنني تربيت على القيم، ومنها التواضع، أصبحت أتصرف بطريقة لا تشبهني، فذهبت إلى المعالجة رندا شليطا، للعلاج لخلق توازن”.