رجب انطلاقة العروج
فؤاد الحمود
المحطات الزمانيّة والمكانيّة سمة بارزة في حياة المخلوقات على اختلاف أجناسها ومستوى إدراكهم التي منحتها إيّاهم السماء، فلكلٍّ طبيعةٌ فطريةٌ يتكامل من خلال المحطات الزمانية والمكانية التي يمر بها.
ولعل ما يميز مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عن غيرها في الاهتمام بتلك المحطات والمنعطفات التي يمر بها المؤمن خلال مسيرة حياته التكاملية، فشهر رمضان وذو الحجة ومحرم ورجب وشعبان كلها محطات زمانية يتخللها الكثير من البرامج العبادية الجاذبة والتي ترتقي بحال المؤمن روحياً ومعنوياً وأخلاقياً.
وشهر رجب الأصب على نحو الخصوص له امتيازات خاصة كونه من الأشهر الحرم التي حُرم فيها القتال، كما أنه محطة التزود والارتقاء بالنفس لتصل إلى ليالي القدر والمؤمن قد أعد نفسه ووعاءه ليستمطر الرحمات الإلهية التي تحتاج لرشحات من الاستعداد والتهيئة.
فهو شهر بذر البذور التي يُجنى ثمارها بعد شهرين، والمتأمل في روايات فضل شهر رجب من كونه عظيم الشأن مع التركيز على كثرة الأعمال فيه، وهو أشبه حالا بالبذرة التي يزرعها الفلاح فيتخير الوقت المناسب والبيئة المناسبة ثم يبدأ برعايتها من خلال وضع الأسمدة والتربة المناسبة؛ فكذلك هو شهر رجب شهر تكثر فيه العبادات المتنوعة.
وقد كفانا المصنفون المؤونة بكتابة الكتب والكراسات في أعمال شهر رجب التي يمكن مراجعتها، وإذا ما رمت الاختصار فدونك مفاتيح الجنان للمحقق الشيخ عباس القمي (قدس سره) تجده جامعا مانعا في تصنيف أعمال هذا الشهر العظيم ولعلي أوفق بذكر شيء موجز في نهاية المقال من أعمال هذا الشهر المبارك.
كما أن الروايات التي تعبر عنه بأنه شهر الإمام علي (عليه السلام) وتصف شعبان بشهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهر رمضان بشهر الله أو شهر أمة رسول الله فيها دلالات عقائدية تارة وفكرية أخرى؛ فالعقائدية لسان حالها أنك متى ما اردت الوصول لله عز وجل لا بد أن تمر بمرحلتين سابقتين؛ فالأولى مرحلة الإمامة وهي المقدمة والدلالة التي توصلك وتعرفك بالنبوة التي هي مرتبة أخرى، حتى تصل إلى الحضرة الإلهية الكبرى والتي أوجها في ليلة هي عند الله خير من ألف شهر.
فالوصول إلى ليلة القدر على أحسن حال يحتاج منا أن نعد العدة ونبذر البذرة لنحصد الثمار في ليالي القدر من الشهر الكريم، لذا فإضافة إلى المراحل الثلاث والمراتب من الإمامة للنبوة وصولا للساحة القدسية يمكن أن نستفيد من هذه الفترة الزمنية بدورتين متكاملتين فيما يعبر عنها بدورة الأربعين، فمن الأول من رجب حتى العاشر من شعبان دورة أربعين يوم ثم منه إلى ليلة القدر نهاية الدورة الثانية وللأربعين أسرار عظيمة يمكن بحثها في محلها.
ويكفي هذا الشهر عظمة أن يُنادى يوم القيامة بأين الرجبيون؛ إشارة للرواية العظيمة الشأن عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) : “إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: أين الرجبيون؟ ..
فيقوم اُناسٌ يضيىء وجوههم لأهل الجمع على رؤوسهم تيجان الملك، مكلّلة بالدرّ والياقوت، مع كلِّ واحدٍ منهم ألف ملك عن يمينه وألف ملك عن يساره، ويقولون: هنيئاً لك كرامة الله عزوجلَّ يا عبدالله! .
فيأتي النّداء من عند الله جلَّ جلاله: عبادي وإمائي !.. وعزتي وجلالي لأكرمنَّ مثواكم، ولأجزلنَّ عطاياكم، ولأوتينَّكم من الجنَّة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين، إنّكم تطوَّعتم بالصّوم لي في شهرٍ عظّمتُ حرمته وأوجبتُ حقّه .. ملائكتي !.. أدخلوا عبادي وإمائي الجنّة”.
والخلاصة لا بد لنا أن نتعرف إلى خصائص تلك الأشهر الثلاثة والتي جرت سيرة المؤمنين عبر القرون على العناية التامة بها من خلال الصيام والأذكار والعبادات المختلفة، ولكون الصوم له امتيازات كبيرة فقد وجد البديل من الذكر لمن لا يستطيع الصيام وهو: «سبحانَ الإلهِ الجليل، سبحانَ مَن لا ينبغي التسبيح إلّا له، سبحانَ الأعزِّ الأكرم، سبحانَ مَن لَبِس العزّ، وهو لهُ أهل».
ومن المعالم الواضحة أن هذه المواسم العبادية خلال الشهر الكريم له أذكار مخصصة تركز تارة على الاستغفار وأخرى على التسبيح والتهليل وغيرها نذكر بعضها على نحو الاختصار:
1- الاستهلال: وهو خاص بالليلة الأولى منه، وقد ذكرت له أدعية خاصة.
2- الصوم: لجميع أيامه، أو بعضها؛ كيوم 1 و15 و27 والأخير.
3- الغُسُل: في الليلة الأولى ويومها، وليلة النصف ويومها، وليلة المبعث ويومها، واليوم الأخير.
4- الدعاء: بأدعية عامة لكل أيام الشهر، أو خاصة ببعض الأيام؛ كدعاء أم داوود.
5- الذكر: كقول بعض الأذكار، منها: (لا اِلهَ إلاَّ اللهُ)، وسورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، وقول: (اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ).
6- التسبيح الخاص لمن لم يقدر على الصيام.
7- الاستغفار.
8- الصلاة: فهناك صلوات عامة؛ كصلاة 60 ركعة، وخاصة؛ كصلاة ليلة الرغائب وصلاة سلمان المحمدي(رض).
9- الزيارة: كزيارة النبي(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين(عليه السلام) في ليلة المبعث ويومها. وزيارة الحسين(عليه السلام) في الليلة الأولى ويومها، ليلة النصف ويومه، وزيارة الإمام الكاظم(عليه السلام) في يوم استشهاده في 25 رجب.
10- العمرة: فقد روي أنها تلي الحج في الفضل.
11- الإحياء: لأي ليلة من لياليه الشريفة.
12- التصدق: بما تيسر
أعاننا الله وإياكم على أداء حقه والتزود في هذه الأيام المباركة بما ينفعنا يوم حشرنا ونشرنا والحمد لله رب العالمين..